ما لا تستطيع «إسرائيل» قصفه

الأحد 14 أيار 2023
من قطاع غزة
تصوير سعيد خطيب من قطاع غزة. أ ف ب

منذ معركة «سيف القدس» عام 2021، يمكن القول إن معالم مرحلة جديدة في الصراع مع «إسرائيل» بدأت تتضح. في المعركة الحالية التي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية عنوان «ثأر الأحرار»، يمكن بوضوح رؤية عدد من هذه المعالم. فرغم أن حركة الجهاد الإسلامي في الواجهة اليوم وهي الطرف الأبرز عسكريًا على الأرض، إلا أن الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في غزة هي من تقود المعركة بالتنسيق بين أطرافها، ومع قوى المقاومة خارج فلسطين كذلك. أي أن الدور المركزي للغرفة، بما تمثله من تكثيف لقوى المقاومة وتوحيد لقرارها العسكري، يترسخ بشكل يمنح المعارك الحالية والمستقبلية بعدًا استراتيجيًا يتعلق بإدارة الصراع ككل. 

منذ عام 2008، حملت كل الحروب والعمليات التي شنتها «إسرائيل» على قطاع غزة الأهداف ذاتها تقريبًا: تصفية القيادات العسكرية والميدانية للمقاومة، وتدمير البنية التحتية لها، وتحديدًا قدرتها الصاروخية. لكن منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، يتضح أن هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق، خاصة وأن ما تستطيع «إسرائيل» فعله من أجل تحقيق الهدف يتقلص يومًا بعد يوم. فبعدما استبعدت خيار الاجتياح البري حين اتضح أن كلفته أعلى مما تطيق، واستبعدت إلى حد كبير خيار الحرب طويلة الأمد، بات الشكل الوحيد للعمليات الممكنة -على الأقل في المرحلة الراهنة- هو المعارك الخاطفة التي تركز على اغتيالات وضربات محددة، خاصة لقيادات وبنى القوة الصاروخية.

رغم عمق الخسارة التي يمثلها فقدان أي من قيادات المقاومة، إلا أن الاغتيالات لم تأتِ بجديد. تصاعدت الاغتيالات بقوة خلال التسعينيات والانتفاضة الثانية، وقتلت «إسرائيل» عددًا كبيرًا من قيادات الصف الأول والثاني، السياسيين والعسكريين، لكل حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. كان بعض هؤلاء من مؤسسي حركات المقاومة الإسلامية وقياداتها الأوائل الذين لعبوا أدوارًا تاريخية في وضع الأسس التي نهضت عليها تلك الحركات، وفي أصعب أوقاتها. لكن كما عبّر الشهيد عبد العزيز الرنتيسي قبل أقل من شهر من استشهاده عام 2004 بقوله: «لا شيء سيتغير. الموت هو الموت، سواء قتلت بالأباتشي أو بأزمة قلبية. أنا أفضل الأباتشي»، فإن قادة المقاومة متصالحون تمامًا مع احتمالية الاستشهاد في أي لحظة، والأكثر استعدادًا للتضحية. هذا بالضبط ما يجعلهم أسمى ما فينا. 

ما حدث بعدها مرارًا بات واضحًا: ازدادت حركات المقاومة قوّةً، وتراكمت معرفتها، وأنتجت جيلًا جديدًا من القادة. اليوم، هناك صفّ من المقاومين، في الغالب تلقى تعليمًا أفضل من سابقه، ولديه قدرة على الاستفادة مما تتيحه التكنولوجيا، وعاش منذ مراهقته ما لا يقل عن أربعة حروب، شهد فيها استشهاد قادته على مستويات مختلفة، ووصل إليه نتاج خبرة العقدين الماضيين اللذين تكثف فيهما تطوير القدرات العسكرية، وهو يتهيأ لحمل المسؤولية في وقت أصبحت فيه قدرات المقاومة أكبر من أي وقت مضى.

«تظهر كثافة إطلاق الصواريخ خلال المعركة الحالية، ونوعيتها، واستمرارية إطلاقها، وتدني القدرة على اعتراضها، أن «إسرائيل» ليست عاجزة عن وقف إطلاق الصواريخ من غزة فحسب، بل هي عاجزة عن وقف تطورها».

تظهر كثافة إطلاق الصواريخ خلال المعركة الحالية، ونوعيتها، واستمرارية إطلاقها، وتدني القدرة على اعتراضها، أن «إسرائيل» ليست عاجزة عن وقف إطلاق الصواريخ من غزة فحسب، بل هي عاجزة عن وقف تطورها. شهدت المعركة الأخيرة إطلاق قرابة 1300 صاروخ، اعترضت القبة الحديدية أقل من ثلثها، هذه القدرة العسكرية والعملياتية هي حصيلة عقدين من النحت في الصخر من أجل تطوير القدرة الصاروخية لدى حركات المقاومة، تحديدًا حماس والجهاد. 

منذ بداية الألفيات، كان الصاروخ كلمة السر في الحرب غير المتكافئة التي تخوضها المقاومة. ففي ظل اعتماد «إسرائيل» بشكل متزايد على سلاح الجو، خاصة بعد انسحابها من غزة عام 2005 وتقلص مساحة المواجهة البرية معها، بدأت المقاومة تسعى لخلق درجة من التوازن على مستوى الجو من خلال تطوير الصواريخ، بشكل قادر على الدفاع عن غزة وتثبيت قواعد معينة للقتال، ومنح المقاومة القدرة على المبادرة. فالصاروخ أفضل أداة يمكن لحركة مقاومة فقيرة استخدامه ضد جيش دولة غنية مدججة بالسلاح، فهو لا يحتاج لبنية تحتية معقدة، وصيانات مكلفة، ومشاغل تخديم، وهو سهل الإخفاء والاستخدام نسبيًا. وبسبب الحصار، كان إنتاجه وتطويره يعني أولًا اكتساب المعرفة المتعلقة بذلك، وهو ما لا يمكن قصفه أو اغتياله. 

حين أنتجت كتائب عز الدين القسام صاروخ «قسام 1» عام 2001، كان الكثيرون من أعداء المقاومة وأصدقائها يقولون إن فكرة تصنيع الصواريخ تحت الاحتلال فيها شيء من الجنون. ينقل عضو المكتب السياسي لحركة حماس أسامة حمدان أنه قيل لهم حينها «دول قائمة ما بتصنعش رصاصة، إنت بدك تصنع صاروخ؟». لكن على مدى العقدين الماضيين، تطورت القدرات الصاروخية من حيث الكم والمدى والقدرة التدميرية وخبرة حركات المقاومة في إنتاجها وإخفائها وإطلاقها واستخدامها في المعركة. وكما نقل حمدان وآخرون في قيادة حماس والجهاد، لعبت إيران دورًا مركزيًا في هذا التطور، من الدفع نحو تطوير بنية تحتية لتصنيع الصواريخ في غزة، إلى نقلها عبر طرق معقدة وطويلة وخطيرة، والأهم نقل الخبرة والمعرفة المتعلقة بها، وتدريب المقاومين عليها بوسائل مختلفة.

عام 2006، ضربت المقاومة في لبنان «إسرائيل» بصاروخ «فجر 5»، الذي يصل مداه إلى 75 كم ويزن رأسه الحربي 90 كغم. كانت تلك أول مرة ينكشف فيها العمق الإسرائيلي لصواريخ المقاومة. في ذلك الوقت، كان الصاروخ الأكثر تطورًا لدى كتائب القسام هو صاروخ «قسام 3» الذي يبلغ مداه 15 كم ويحمل رأسًا حربيًا يزن 5 كغم. بعد أقل من ست سنوات، استخدمت كتائب القسام «فجر 5» لقصف تل أبيب في حرب عام 2012. ومنذ ذلك الوقت، بلغت الصواريخ مع كل معركة مدى وقدرة تدميرية أعلى، من صواريخ J80 التي أطلقت على تل أبيب كذلك عام 2014، إلى الصواريخ التي أطلقت عام 2021 كصاروخ A120 الذي قصفت به القدس، وصاروخ SH85 الذي قصف به مطار بن غوريون، وصاروخ عياش 250 الذي طال مطار رامون في أقصى جنوب فلسطين، وسميت هذه الصواريخ تيمنًا بالشهداء أحمد الجعبري ورائد العطار ومحمد أبو شمالة ويحيى عياش على التوالي. حدث كل ذلك في مخيم لاجئين كبير محاصر اسمه غزة، ومنطقة منتشية بعوائد السلام، وفي عصر «نهاية التاريخ». 

عقد التسعينيات الطويل

هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن مفصلية عقد التسعينيات فيما يتعلق بمنطقتنا وبالعالم. خلال تلك السنوات التي لم تنته ببداية الألفيات، كان هناك مساران تاريخيان يشكّلان منطقتنا: مسار التسوية الذي كان في أوجه، ومسار حركات المقاومة الإسلامية الذي كان وقتها، على الأقل في فلسطين، في مرحلة جنينية انبثقت مع الانتفاضة الأولى. دخلت الولايات المتحدة المنطقة من بوابة العراق، وانكفأت القوى اليسارية التقليدية على نفسها على إثر انهيار المشروع السوفييتي، وبدا أن العالم قد تحول لجزيرة أمريكية.

في هذا العقد الطويل، كان هناك حدثان مفصليان شكّلا رافعة لحركات المقاومة في فلسطين وسط أجواء الهزيمة: صمود المقاومة في لبنان خلال عدوان 1996، وتحرير الجنوب عام 2000، الذي سبق اندلاع الانتفاضة الثانية بأربعة أشهر فقط. أظهر هذان الحدثان أن بإمكان حركات المقاومة الصمود في مواجهة «إسرائيل» وتوجيه ضربات مؤلمة لها، بل وتحرير الأرض منها، في وقت خرجت فيه منظمة التحرير الفلسطينية من الصراع، وهيمن فيه خطاب أن البندقية ليست خيارًا ولا يمكن أن تحل شيئًا وأن التسوية ستفتح على دول المنطقة أبواب الرفاه. 

لا شك أن «إسرائيل» ما زالت قادرة على إحداث كم هائل من الدمار والقتل، إلا أن تطور قدرات المقاومة بلغ حدًا يغير شكل الصراع على المستوى الاستراتيجي، ويفتح أفقًا لقلب البنية التحتية للمنظومة الاستعمارية التي شكّلت المنطقة قبل قرن من الآن.

اليوم، بات روّاد حل الدولتين وصانعوه يتحدثون بشكل روتيني عن أنه لم يعد قائمًا، ولم يعد يكاد يسمع خطاب «الصواريخ العبثية»، بعد أن باتت هذه الصواريخ قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، وتغطية كل فلسطين المحتلة، وصياغة قواعد اشتباك جديدة. لم تعد «إسرائيل» قادرة على خوض حرب سريعة على عدة جبهات كما فعلت بالدول العربية عام 1967، بل باتت تخشى فتح جبهة مع حزب الله في لبنان، وحتى مع حماس التي سعت بوضوح لتحييدها في المعركتين الأخيرتين، بل لا يبدو أنها قادرة على خوض معركة مع الجهاد الإسلامي، كما أظهرت المعركة الأخيرة، التي كانت «إسرائيل»، رغم خطابات نتنياهو الشعبوية، تتوق لوقفها بأسرع وقت ممكن. رغم هذا التحول الكبير في الصراع، ما زالت الكثير من النخب السياسية والفكرية والإعلامية عالقة في لحظة النكسة، باعتبارها هزيمة أبدية أشبعتها بحثًا ودراسة وتأملًا وكأنها حدثت بالأمس، في تجاهل تام لما يجري اليوم.

مع نهاية عقد التسعينيات الطويل والممتد، التي تجسدت على المستوى العالمي في حدثين رئيسين هما الحرب التجارية على الصين وحرب أوكرانيا، بات مسار التسوية ومشروع تأبيد «إسرائيل» في المنطقة في أضعف لحظاته، بينما أصبح مسار المقاومة في الذكرى الخامسة والسبعين لاحتلال فلسطين أقوى من أي وقت مضى. لا شك أن «إسرائيل» ما زالت قادرة على إحداث كم هائل من الدمار والقتل، إلا أن تطور قدرات المقاومة بلغ حدًا يغير شكل الصراع على المستوى الاستراتيجي، ويفتح أفقًا لقلب البنية التحتية للمنظومة الاستعمارية التي شكّلت المنطقة قبل قرن من الآن.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية