تانيا شالي

ما هي المنظّمة الثّوريّة؟

تانيا شالي، مجموعة التكتولوجيا، 2018.

ما هي المنظّمة الثّوريّة؟

الأحد 13 آذار 2022

قُدّمت هذه الورقة ضمن سلسلة «الثورة في الفلسفة»، التي نظّمتها «ورشة فلسفة» خلال عام 2021. وورشة فلسفة هي مبادرة تطوعيّة ذاتيّة التنظيم قائمة في فلسطين. تقدّم مجموعة من المحاضرات التفاعلية والحلقات الدراسيّة حول مواضيع في الفلسفة وتربطها بالواقع المعاش، وتهدف لخلق فرصة تعلّم جماعي وعامّ لهذه الموضوعات، بالإضافة إلى التدرّب على ممارسة طرق تفكير فلسفية في القضايا المُعاصرة والمُعاشة، لتوسيع نطاق الحلول الممكنة لهذه القضايا وخلق قاعدة تفكير تأسيسيّة. حاولت المبادرة في هذه السلسلة المتعلّقة بالثّورة تقديم معالجات فلسفيّة مختلفة حول مفهوم الثّورة ومشتقّاتها اللغويّة، ووضعت مجموعة من المقاربات في موضع مقارنة لبناء نظرة متعدّدة الأبعاد حول فلسفة الثورة، والفعل الثوري، والصّفة الثوريّة. انطلقت فكرة هذه السلسلة كنوع من الاستجابة الفلسفيّة للتغيّرات الاجتماعية التي تكثّفت في المنطقة العربية خلال العقد الأخير على شكل ثورات ومطالبات بالتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وذلك من أجل المساهمة في فهم هذه الحركات والأفعال والتشكيلات والرغبات الثورية المعاصرة بطريقة فلسفية، وكشف الممارسة الثوريّة الفعلية على آفاقها الفلسفيّة والتمرّن على استخراج إمكانيّاتها الإبداعية. ساهم في تقديم هذه المقاربات كلّ من البروفيسور ربيكا كوماي والباحث دينيس ياو والبروفيسور آدم بارتليت، بحضور جمهور من المهتمّين بفلسفة الثورة من فلسطين ومختلف أنحاء العالم.

تأتي أهمّيّة هذه الورقة التي قدّمها الباحث دينيس ياو من توفيرها إطارًا نظريّا وتحليليًا قد يساعد التنظيمات الذاتيّة الاجتماعية والسياسية والزراعية الناشئة حديثًا في فلسطين، والتي تعتمد في منهجيّتها على التجريب وتسعى لخلق نماذج عمل وتفاعل بديلة عن تلك التي تفرضها الأنظمة السلطويّة المختلفة والمتشابكة الفاعلة في السياق الفلسطيني. وتساعدها على فهم طريقة عملها التي تضمن لها الصفّة الثوريّة على عدّة مستويات، منها ما يتعلّق بالأنظمة الجزئية المساهمة في تركيبتها الكليّة، ومنها ما يتعلّق بطريقة تطوّرها وحركتها الداخلية وتفاعل أعضائها، ومنها ما يتعلّق بتفاعلها مع بيئتها. وتشرح الورقة المعيقات التي قد تتعرّض لها التشكيلات الثورية، وكيف يمكن لها أن تستجيب لكلّ نوع من هذه المعيقات، وإلى أي مدى عليها أن تتفاوض مع البُنى المهيمنة التي تنشأ في أحضانها وتسعى لتغييرها. وتوضّح كيف يعمل العنصران الذاتي والموضوعي معًا في هذه التشكيلات بطريقة تجنّب هذه التشكيلات خلق تناقض بين المفهومين من شأنه أن يطيح بفاعليّتها الثوريّة. وتقدّم فهمًا غير طوباويٍّ لفكرة العالم الجديد، الذي تقترح الورقة وجوده في العالم القائم ولكن مبدّدًا على شكل نثار، تساهم التشكيلات الثوريّة في تجميعه بطريقة فعّاله وجعله مرئيًا.

تحاول هذه الورقة الإجابة عن سؤال العنوان انطلاقًا من فرضيّتين أساسيّتين، تتمثّل أولاهما في قدرة المنظّمات على استشعار[1] البيئة التي تنشأ بها والاستجابة لها. فالشركات الرأسماليّة تنظّم عمليّة الإنتاج وتستشعرها بما يضمن استمراريّة استخراج القيمة المضافة. أمّا الدولة فتستشعر طرقًا لإبطال الاضطرابات الشعبية أو تحييدها. فما الذي تستشعره المنظّمات الثوريّة؟ تتمثّل الفرضيّة الثانية في أن المنظمات ذات طبيعة تركيبيّة، فهي تتركّب من منظّمات أصغر. فالشركات الرأسماليّة تتألّف من عمليّات إنتاج، تتكوّن بدورها من قوى عاملة ووسائل إنتاج، تستلزم وجود أفراد يبيعون جهدهم، وتتركّب حياة هؤلاء الأفراد أيضًا من رغبات، وحاجات، وتواريخ، وكلّ مركّب لديه بيئة مختلفة وشكل مختلف من التنظيم. فبأيّ طريقة تقتحم المنظمة الثوريّة هذا المركّب؟ تطرح هذه الورقة جوابًا يتلخّص في كون المنظمة الثوريّة تستشعر في البداية ملامحَ عالم مختلف عن العالم القائم، رغم أنه موجود فيه، ثمّ تطوّر بعد ذلك تركيبها الخاصّ الذي يتيح لنثار هذا العالم المختلف أن يعمل معًا باعتباره بيئة متكاملة قائمة بحدّ ذاتها وتحوي المنظّمات الأخرى.

تتبنّى هذه الورقة إحدى فرضيات المفكّر السوفييتي المبكّر ألكساندر بوغدانوف، الذي يقترح أنّ بإمكاننا معاملة كل علم من العلوم باعتباره أحد تخصّصات علم أشمل هو علم المنظّمة (أو علم التنظيم). يطلق بوغدانوف على هذا العلم الأكثر شموليّة اسم التكتولوجيا.[2] تحاول هذه الورقة إيضاح الكيفيّة التي تجسّر فيها التكتولوجيا بين العلوم المُعتَرف بها عالميًّا وبين الحركات الاجتماعيّة المختَلَف على وجودها، والتي تقع ضمنها العديد من الحركات السياسيّة، التي، كغيرها من مكوّنات هذه الفئة، لا تنشأ مع شرعيّة جاهزة مسبقًا، بل تحاول اكتساب شرعيّة وجودها عبر نضالاتها، وذلك على خلاف الظواهر الطبيعيّة القابلة للإثبات على نطاق عالمي. رغم ذلك، نلاحظ أنّ مثل هذه الحركات تحيا فيما يمكن اعتباره عالمًا خاصًّا بها. يحتوي هذا العالم على جميع العناصر الكفيلة بتحقّق اندماج أعضاء هذه الحركات في هذا العالم، الأمر الذي يجعل بعض الأمور المستحيلة قبل اندماجهم في هذا العالم ممكنةً الآن، ويشكّل مصدرًا لتزويدهم بالموارد اللازمة. هذا ما نلاحظ أثره على صعيد الأفراد في شكل تغيّر ذاتي من نوعٍ ما، ويصعب تقفّي أثر هذه الحركات على أصعدة أكثر بنيويّة تتعلّق بالمنظّمة. وهنا نطرح هذا السؤال «التكتولوجي»: ما هي الأشكال التي يمكن أن تنبثق عن حركة سياسيّة ما دون أن تكون قابلة للاختزال إلى مجرّد تجارب فرديّة؟

لماذا يعتبر هذا سؤالًا تكتولوجيًّا جيّدًا؟ لأنّ بمقدورنا مع التكتولوجيا أن نتجنّب الفصل التقليدي بين الجوانب الذاتيّة والموضوعية للظاهرة -أو ما يطلق عليه بوغدانوف عادةً الفصل بين النفسي والمادّي- مما يدفعنا مباشرة للأخذ بعين الاعتبار كيف تتركّب معظم خصائص الظاهرة المثيرة للاهتمام من الجانبين معًا. وهذا يعني أن بمقدورنا أن نضمّ طريقة إدراكنا للشيء إلى صفاته. تجعلنا التكتولوجيا ننظر إلى الأجسام السياسية باعتبارها كائنات حيّة، فالشعب مثلًا مع كلّ التعقيدات المتعلّقة بتصوّره أو إساءة تصوّره التاريخي عن ذاته، له دورة حياة يعيد بها إنتاج نفسه، وتتكوّن على حدّ سواء من عناصر ماديّة (يشترك الجميع بها، مثل حاجة هذا الشعب للغذاء والأمن) وأخرى أيديولوجيّة (قد تقصي فئات دون غيرها). هذا يجعلنا نأخذ في الحسبان، عند التفكير في الآثار الحقيقيّة لحركة ما، قدرتها على إحداث تغيّرات أيديولوجية إلى جانب التغيّرات الماديّة. من هذا المنطلق، تعمل التكتولوجيا بمثابة دارة كهربائيّة قصيرة وغريبة توصل النمذجة العلمية للظواهر الطبيعية بالمواقف السياسية المشحونة بالذاتيّة، والتي تكمن فيها الطاقة الإبداعيّة.[3]

تشكل قضايا مثل عنف الدولة والكوارث البيئية والاقتصادية والجوائح أمثلة على ظواهر خارجيّة تقوم بعض المنظّمات بالأساس من أجل التعامل معها. ولكنّ اشتقاق تعريف المنظّمة من القضايا التي نشأت لمناهضتها أو التخفيف من حدّتها لا يكفي.

ولكن، ما هو الدّور المنوط بمثل هذا «العلم» عندما يتعلّق الأمر بالممارسة السياسيّة؟ يبدو استدعاء العلم في سياق كهذا مخاطرةً قد توقعنا في أحد فخاخ المثالية التي تطالب بالحصول على صورة كاملة ودقيقة علميًّا عن أيّ صراعٍ سياسيّ قبل اتّخاذ قرار الخوض فيه. ربّما يخطر لنا ما هو أسوأ من ذلك، فقد يُحضر هذا النوع من العلم إلى أذهاننا مفهوم دولوز عن «مجتمعات التحكّم»،[4] وعن استخدام إجراءات علميّة ورقمية لضبط المجتمع بدلًا من تطبيق القمع المباشر، (وهو ما ندعوه «السيطرة الرقابيّة» بمصطلحات العصر). لا جَرَم أن التكتولوجيا تضمّ كلًّا من إنتاج المعرفة العلمية التقليدي، وأنظمة التحكّم، كونهما شكلين تنظيميّين، ولكنّ هذا لا يعني أنّها بالضرورة تختزل السياسة في هذين النوعين من الأنظمة. لا يكمن أساس التنظيم السياسي في نمذجة سلوك الأفراد والأشياء وتوقّعه، بل يجب أن ننظر إليه باعتباره سلسلة من التجارب التي تتيح لنا التعرّف على الواقع الاجتماعي أثناء إرباكنا أو تغييرنا له. يُقصَد من ذلك ضرورة استعراض الأوضاع الاجتماعية بالجودة التي تمكّننا من جمع معلومات تفيدنا عنها. مثلما نحتاج إلى مجهر لرؤية الأجسام البيولوجية على مستوى مختلف، فإنّ فحوى السياسة تكمن في إنشاء طرق جديد «لرؤية» الأجسام الاجتماعية أو «استشعارها».

سيلجأ أيّ نظام يسعى للسيطرة على بعض جوانب المجتمع إلى النمذجة، ولكنّ تصميم النماذج الاجتماعيّة يستلزم تصنيف نسبة كبيرة من مدخلات النظام على أنّها ضوضاء.[5] لا تشير الضوضاء بالضرورة إلى ما هو «عديم التنظيم»، ولكنّها تعني فقط أنّ هذه المدخلات لا تقدّم نفعًا للنظام المقصود. تمكّننا معرفة الضوضاء الموجودة في النظام السائد من إيجاد تلك الأشكال التي نتخطّى عبرها القدرة الإسنادية وبالتالي التنبّؤيّة لأنظمة السيطرة هذه.

ستبقى هذه الأشكال غير متمايزة فرديًّا ضمن النماذج التي يعمل ضمنها النظام السائد، وذلك بسبب اعتماد هذه النماذج الدائم على منطق فراغي[6] (Spatial logic) معيّن من أجل تمييز الحالات الفرديّة. يمكننا هنا تطبيق أحد الافتراضات التكتولوجيّة الأساسيّة، التي تقول باستحالة وجود كيان منعدم التنظيم، فحدوث أي حركة يتضمّن التنظيم، حتّى وإن لم تكن متمايزة عن غيرها بشكل كامل أو منسجمة العناصر.

لا يقتصر هذا النوع من التنظيمات الحركيّة على مجموعة من الأفراد الذين يشكّلون أعضاءه، لأنّه يتألّف أيضًا من علاقات قانونيّة واقتصاديّة واشتراكيّة تتيح طريقةُ تنظيم هذه الحركات نشوءَها. ونحن هنا لا نتحدّث فقط عن العلاقات المحلّيّة التي تنشأ في النطاقات التي تتشكّل ضمنها هذه التنظيمات، ولكن أيضًا عن تلك التي تنفذ إلى الخارج بطرق غير متوقّعة وفي ظروف مختلفة. عندما يحدث هذا، يصبح بمقدورنا تحصيل معلومات جديدة تتعلّق بالبُنى العالميّة التي تدعم الواقع الاجتماعي.[7]

فما الذي نعنيه هنا بـ«المنظّمة»؟ باستخدام مصطلحات عامّة، يمكنا أن نقول بدايةً إنها تختلف عن المنظّمات السياسيّة. تمتلك «المنظّمة» نوعًا من الديناميكيّة الذاتيّة (بمعنى أنّها تتغيّر عبر الزمن) بالإضافة إلى قدرة تفاعليّة مع بيئتها المحيطة (والتي تشكّل بدورها نوعًا آخر من التنظيم). نضيف إلى ذلك أن كلّ جزء منظّم هو وليد جزء منظّم آخر، ممّا يعني أنّ ديناميكيّة المنظّمة الداخليّة تتحدّد وفقًا لديناميكيّات مكوّناتها وطرق تفاعلها المتنوّعة. أي أنّ المنظّمة لا تقتصر فقط على ديناميكيات ذاتية وتفاعلات خارجيّة، ولكنّها تضمّ تركيباتٍ جزئيّة أيضًا. وسنتطرّق لاحقًا إلى شرح هذه المفاهيم.

تشترك جميع أشكال المنظومات بثلاثة أسس، فهي تتغيّر، وتتفاعل، وتتركّب من أنظمة فرعيّة أخرى. وهذا ينطبق على كلّ من أشكال المنظومات الطبيعيّة والسياسيّة. نجد على الأقلّ فائدتين للمنهج التكتولوجي: فنحن أولًا نستطيع أن نشتقّ أفكارًا من التنظيمات الطبيعية ونطبّقها أثناء دراسة التنظيمات السياسيّة. وفي بعض الحالات يمكننا أن نستعير أفكارًا من عدّة علوم متنوّعة. ولا جديد في هذا بحدّ ذاته، فلطالما اعتمدت العلوم الاقتصادية والاجتماعية على الرياضيات والفيزياء لبناء نماذج عن السلوك البشري، ولكن هذه العلاقة أعطت للإنسان امتيازًا جعله «وحدة أساس» العالم الاجتماعي، أو «صندوقه الأسود»، أمّا هنا فنحن نسعى لتكوين تجمّع يضمّ أجزاءً بشريّة وغير بشريّة بنفس المقدار من الأهمية.

أصعب لحظة في حياة أي منظّمة ثوريّة، هي اللحظة التي تدرك بها أنّها قد تعيد في تركيبتها إنتاج بعض جوانب الوضع السائد.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ على هذه العلوم أن تبقى منفصلة عن الظاهرة التي تدرسها إذا أرادت أن تنتج معرفة عالمية وشاملة. أما عن الممارسة السياسية فتنتج شكلًا من المعرفة التي يستفيد منها (لحظيًا على الأقلّ) من ينخرط بها ويناصرها فقط. يتعلّق هذا بالجانب الآخر من الفائدة التكتولوجيّة، والتي تتمثّل في إمكانية التفكير في المنظّمة بحدّ ذاتها على أنّها تجربة. إذا اعتبرنا أنّ الحركات السياسيّة تنتج علاقات جديدة في العالم، فإنّ هذا يتضمّن أيضًا مجموعة من الافتراضات حول الكيفية التي ترتبط بها الأشياء من الأساس، وحول ما قد ينشأ بينها من علاقات جديدة قادرة على الاستمرار. يمكن النظر إلى الصراع السياسي باعتباره محاولات للإقرار بصحة هذه الافتراضات أو خطئها. ومع استمرار هذه العملية السياسية، فإنها تنقّح الأسئلة لتبقي ما يتعلّق منها بالموضوع، كما لو أنّها تنحت من مادّة العالم القائم[8] حيّزًا جديدًا يحتضن تطوّر أشكال المنظّمات الناشئة.

تمتلك المنظومات خصائص داخليّة أو جوهريّة (تنشأ من الطبيعة الداخليّة للمنظومة) وأخرى خارجية أو عَرَضيّة (تنشأ من تفاعل المنظّمة مع بيئتها المحيطة).[9] ترتبط الخصائص الخارجيّة بمجموعة المشاكل التي يفرضها المحيط وتنشأ المنظّمة بالأساس من أجل التغلّب عليها. تشكل قضايا مثل عنف الدولة والكوارث البيئية والاقتصادية والجوائح أمثلة على ظواهر خارجيّة تقوم بعض المنظّمات بالأساس من أجل التعامل معها. ولكنّ اشتقاق تعريف المنظّمة من القضايا التي نشأت لمناهضتها أو التخفيف من حدّتها لا يكفي. توجد طرق تنظيم عديدة، وفي حالة تنظيم الناس، يجب اتّخاذ العديد من القرارات للتجاوب مع العالم الخارجي بشكل موائم. تبدأ السياسة عندما يصبح من الممكن معارضة طرق التنظيم أو الاختلاف حول القرارات المُتّخذة داخل المنظّمة، وهذا ما يشكّل جزءًا من الخصائص الداخلّية للمنظّمة. بشكل عام، تحتوي المكوّنات الداخليّة للمنظّمة على خصائص لا تحدّدها (تمامًا) البيئة الخارجيّة.

وهنا يجدر بنا أن نسأل: كيف يمكن أن تتشكّل هذه الخصائص الداخليّة وتتحدّد بمنأى عن تأثير الضغوط الخارجية؟ تُستخرج الخصائص الداخليّة في حالة الأنظمة البيولوجية مثلًا، بما يبقى حاضرًا من خصائص الكائن بعد حدوث الطفرات العشوائيّة على المستوى الفردي، أو الانحرافات الجينيّة على المستوى الجماعي. وفي حالة الأنظمة الاجتماعية، فإنّ بعض الخصائص تحدّدها القرارات التي تُتّخذ، مثل ما يحدث في المواثيق والقوانين الدولية. غالبًا ما تتطوّر هذه الخصائص دون وعي الأفراد بها. يمتلئ النظام القانوني لدولة ما على سبيل المثال بالهفوات والتناقضات غير المُدركة التي تتكشّف عبر ظهور المزيد من الحالات أو القضايا الجديدة التي لا يوجد لها طريقة تعامل واضحة حسب القانون. بإمكاننا أن نخطو أبعد في هذا الاتجاه عبر استحضار مفهوم جيجيك عن الأيديولوجيا باعتبارها مجموعة من القواعد الخفيّة الراسبة التي تحكم الحياة اليومية، والتي ربّما تفقد فاعليتها إذا ظهرت للعلن. تعلّمنا الحركات اليساريّة في القرن العشرين أن هذه المحدّدات الداخليّة التي تكمن في النشاط الإنساني نفسه حاسمة. لا يقتصر الأمر على افتقارنا إلى نظريّة لفهم هذه الظاهرة الأيديولوجية، إنّما يتعدّاه إلى عدم إدراكنا للمنظّمات بصفتها فضاءً للتجارب الأيديولوجيّة.

لا نستطيع، بصفتنا أفرادًا، أن نميّز البُنى التي تُنتِج المُحددّات الداخليّة مثل الأيديولوجيا. بإمكاننا صياغة نظريّات، ولكن حدود هذه النظريات تبقى ملتبسة ومحطّ خلاف دائم. لا يوجد شيء من قبيل موقف عالميّ محايد لدرجة اعتماده في تقييم أيديولوجيا ما. وفي معظم الحالات، تظهر النظريّات في مراحل متأخرة، بعد اختفاء المنظّمة ذاتها (الأمر الذي تمثّله بومة هيغيل الشهيرة).[10] يمكن تفسير ذلك في كون هذه النظريات تتعلّق بنا بصفتنا أفرادًا، بعيدًا عن المنظّمة بحدّ ذاتها. وعلى الرغم من أهمّيّة هذه النظريات، فعلينا أيضًا الاهتمام بالكيفية التي تستكشف فيها المنظّمة بحدّ ذاتها خصائصها الداخليّة أثناء تطوّرها. ومن أجل تحقيق ذلك، فإننا بحاجة إلى نظرية تُعنى بالطبيعة التجاربيّة المتعلّقة بالمنظومات عامّةً،[11] بدلًا من آليّات التاريخ السببية التي قد تفيد فيما يخصّ الأخطاء التي يجب تجنّبها، ولكنها لا تقول شيئًا عمّا يمكن ابتكاره من إمكانيّات.

لا تنبثق المنظّمة الثوريّة من العدم (حتّى لو أنّها نتجت عن حدثٍ ما)، فهي مركّب يتألّف من نثار العالم القائم. كل جزء في هذا النثار يتكوّن بدوره من جزيئات أخرى. أمّا المبدأ الذي ينظم الطريقة التي تتركّب وفقها هذه الأجزاء فيرتهن للتجريب.

سأطرح هنا طريقة قيد التطوير نعمل عليها في مجموعة STP[12] لتخدم كاقتصاد سياسي ظواهراتي. تعني الظواهراتية ببساطة «علم المظاهر»، مما يعني أننا نتعامل مع المظاهر باعتبار أنّ لها وجودًا ومنطقًا مستقلّين، فنحن نفترض أنّ الأشياء تظهر للمنظومات بذاتها. ينطوي هذا الفرض على أنّ المنظّمة تستطيع إدراك بيئتها واستشعارها، حتى عندما يعجز أفراد هذه المنظّمة عن ذلك. قد يبدو هذا في أحسن حالاته أحد الأخطاء الناتجة عن الطبيعة البشرية، أمّا في أسوئها فقد يبدو ادّعاءً ميتفايزيقيًا متطرّفًا. ولكن عندما نفهم مصطلح «الاستشعار» بطريقة بعيدة عن أبعاده البشرية، ونعتبره وصفًا لعلاقة بين الأنظمة التي يجمعها شيء مشترك، فيمكن أن تصبح هذه طريقة نافعة للتعامل مع المشاكل السياسية.

أحد الأمثلة التي يتحتّم طرحها في هذا السياق هو الطريقة التي «تستشعر» بها الشركات الرأسمالية فائض القيمة. لماذا نقول إنها الشركات بحدّ ذاتها هي من يستشعر ذلك، لا مدراؤها أو مالكوها مثلًا؟ لأننا نعلم أنّه حتى لو تبدّل هؤلاء المدراء، فإن أخلافهم سيتبعون الخُطى ذاتها (ربّما بكفاءة أكبر). يتواءم هذا مع ملاحظة ماركس حول أنّ الرأسمالية لا تنتمي للمكوّنات النفسية للفرد ولكنّها تشكّل بالنسبة له قيدًا سلوكيًّا مُمنهجًا. يمثّل على ذلك أيضًا اضطرار مرشّح مكتب سياسي ما إلى تبنّي سياسات أسلافه رغم اختلافها مع برنامج حملته. ربّما نعزو ذلك لقضايا مثل الفساد، ولكنّني أعتقد أن لبّ الموضوع ظاهراتي (فينومينولوجي)، فالمنظّمة تتفاعل فقط مع «ما تراه»، حتّى وإن كان هذا الذي تراه يختلف عمّا يظهر لأفرادها. الدولة التي ترى فقط الناتج المحلّي الإجمالي، والقوّة العسكريّة، ومناطق النفوذ… بإمكانها فقط أن تتجاوب على أساس هذه المتغيّرات، حتّى لو اختلفت مع وعود قادتها.

بإمكاننا الآن أن نوظّف مفاهيمًا مثل الخصائص الداخليّة مقابل الخارجيّة، وقدرة المنظّمة على الاستشعار، في نقاشنا حول ماهيّة المنظّمة الثوريّة. قد يبدو واضحًا أنّ المنظّمة الثوريّة تسعى لتغيير المجتمع على صعيد جذريّ. وفق المنهج الظاهراتي، يتضمّن هذا المسعى قدرة المنظّمة على إدراك شيء لا يدركه المجتمع، بكلمات أخرى، فإنّها قادرة على إدراك عناصر غير مرئية في النّظام المهيمن. وفقًا لآلان باديو، تسعى المنظّمة الثوريّة لإعادة تنظيم الأشياء من أجل إكساب بعض العناصر اللامرئية منها وجودًا واقعيًّا.[13] يقع هذا الدور ضمن المكوّنات الخارجيّة لتعريف منظّمة من هذا النوع.

أمّا داخليًّا، فالمنظّمة الثوريّة تتركّب من الأساس بطريقة تتيح لها إدراك العناصر غير المرئية. يعني هذا غالبًا أن أعضاء هذه المنظّمة المنتمين إلى طبقات اجتماعيّة مهمّشة، يتمتّعون ضمن هذه المنظّمة حصريًّا بدرجة من القوّة والحضور اللذين لا يمكنهم تحصيلهما خارجها.[14] يتطلّب خلق هذه الظروف المعدومة خارج نطاق المنظّمة جهدًا خاصًّا. ولكن من أجل اكتساب سلطة فعّالة على العالم، فإنّ على المنظّمات أن تتفاعل في نهاية المطاف مع الأنظمة الموجودة في هذا العالم. عليها أن تطوّر منظّمات فرعيّة، أو ما يطلق عليه ألان باديو أعضاءً (organs) ملائمة للتواصل مع الأنظمة الخارجيّة. لا يمكن لهذه الأعضاء أن تتحدّد حسب مكوّناتها الداخليّة فقط، لأنها يجب أن تمتلك القدرة على تشارك المعلومات مع العالم الخارجي، ولذا فإنّ هذه الأعضاء قد تتشكّل وفق منطق بعض الجزئيّات ذاته الذي تسعى المنظّمة لمناهضته. يقود هذا إلى أصعب لحظة في حياة أي منظّمة ثوريّة، وهي اللحظة التي تدرك بها أنّها قد تعيد في تركيبتها إنتاج بعض جوانب الوضع السائد.

نجد هذه الإشكالية حاضرة عند التطرّق إلى نطاق عمل المنظّمة الفعّالة، فمن أجل أن تؤثّر المنظّمة الثوريّة على البُنى الاجتماعيّة عليها أن تعمل على مستوى يوائم حجم هذه البُنى. ولكن كيف يمكن للمنظّمة الثوريّة أن تعمل على نطاق حجم هذه البُنى دون التنازل لصالح العالم الخارجي ومنطقه القائم على تكديس السلطة والعنف وما إلى ذلك؟ لا يمكن لأيّ شخص يدّعي كونه ماديًّا أن يتجاوز هذه المشكلة. في معظم الحالات، خصوصًا في حالة اليسار، من المرجّح أن تعيق خصائصُ المنظّمة الداخليّة قدرتَها على توسيع نطاقها. قد تسعى المنظّمة لتغيير الوضع الرأسمالي، ولكنها ستفشل إذا كانت تركيبتها تفتقد للأعضاء الاقتصاديّة الملائمة. لا يمكننا أن نغيّر بطريقة ناجعة شيئًا لا نراه بوضوح. إنّ نظامًا اقتصاديًّا بحجم النظام البيئي، أضخم من أن ندركه على مستوى محلّي. يصبح السؤال هنا: ما نوع المعدّات اللازمة لتمكيننا من إدراك الخصائص العالمية لهذه الأنظمة؟ أشهر النماذج المطروحة لمقاربة هذا السؤال هو الشيوعيّة، والذي يعاني بالضرورة من إشكالية متعلّقة بالانتقال من نطاق عمل محدود إلى نطاق أوسع. تعثّرت الحركات اليساريّة عند هذا الإشكال لقرن من الزمان، مما أدّى إلى جميع أنواع الانقسامات بين أفرادها.

إنّ ما يجعل منظّمة ما ثوريّة هو تجريبيّة تركيبها، أي، انبثاق هذا التركيب أثناء تطوّر المنظّمة، بدلًا من تحديده مسبقًا كمعطى جاهز.

ولكن بدلًا من النظر إلى هذه الانقسامات في حركة ثوريّة ما على أنّها مجرّد إخفاقات بسيطة، أو على العكس من ذلك، اعتبارها مشاكل جوهريّة تتعلّق بالطبيعة البشريّة وصفاتها، علينا اعتبار هذه الانقسامات تطبيقات تجريبيّة لفرضيات مختلفة تتنافس للعثور على صيغة الاستشعار الصحيحة. فالتجارب الفاشلة أيضًا تزوّدنا بمعلومات قيّمة. يمكن وضع أيّ فرضيّة حول معيق (أو مجموعة معيقات) لسلوك نظام ما (أو مجموعة أنظمة). يمكننا حتّى أن نقسّم هذه المعيقات إلى ثلاثة أنواع تخصّ إمّا الديناميكيّة، أو تفاعل، أو التركيب.

ما يخصّ الديناميكيّة منها هو ذلك الذي قد يمنع حدوث تغيّرات معيّنة في المنظّمة. نجد أوضح أمثلة هذا النوع من القيود في الطبيعة والقوانين الفيزيائيّة، وما إلى ذلك. على سبيل المثال، ترتهن إنتاجيّة أي منظّمة لما يتوفّر لديها من مصادر طاقة. ولكن القيود الأشدّ إثارة للاهتمام هي تلك التي تفرضها المنظّمة على نفسها. نجد مثالًا على ذلك في منظّمة مناهضة للعنصرية مثلًا، وبسبب هذه الخاصيّة فإنّها لا تتسامح مع أيّ شكل من أشكال العنصريّة في صفوفها [حتّى وإن كان ذلك اقتصار أفرادها على أبناء عرق واحد مضطهد تمارَس ضدّه العنصرية خارج المنظّمة]. تحدّ المنظوماتِ الثوريّة قيودٌ تعكس بطبيعتها الوضع الجديد الذي تسعى تلك المنظومات لإنشائه، ولكنّ هذا غالبًا ما يحفّه الغموض. فكما ناقشنا سالفًا، تقبع تحت مستوى الإدراك قيودٌ أيديولوجيّة أو لا شعوريّة بحاجة إلى استكشاف. ط

قد تجد المنظّمة أنّ أفرادها ينتمون بالغالب لنفس العرق، رغم أنّها متاحة على العلن لجميع الأعراق.[15] مثلما نحتاج جهازًا ما ذا خصائص معيّنة لإجراء القياسات المتعلّقة بالمجال الكهربائي، مثل الملتيميتر، ينطبق الأمر ذاته على المنظّمة، فمن الممكن أن تفتقر المنظّمة للعضو المسؤول عن كشف العنصريّة. وإذا لم تمتلك المنظّمة ما يؤهّلها للتفاعل مع هذه الظاهرة ضمن نطاقها داخلي، فلن نتوقّع منها أن تتفاعل بصورة مثمرة مع الظاهرة نفسها في العالم الخارجي.

يوجد معيق ديناميكيّ ثانٍ يتعلّق بقضيّة إعادة الإنتاج الاجتماعي وتوزيع الموارد. في عالمٍ رأسمالي، تشكّل المنافسةُ قيدًا على الشركات. تُرحّل الوظائف إلى أيدٍ عاملة في الخارج، لا بسبب جشع الأفراد، ولكن لأنّ الشركات قد لا تصمد أمام منافسيها إن لم تفعل ذلك. ولكنّ هذا النوع من القيود لا ينشأ بشكل طبيعيّ، إنّما يأتي نتاج قرارات سياسيّة. عند الانتظام في مجموعة، يمكن أن تتحوّل المعيقات التي يواجهها الفرد الواحد إلى معيقات جديدة تخصّ المجموعة، ممّا يعني أيضًا تحويل الحلول من المستوى الفردي إلى الجماعي. يمكننا هنا استحضار أعمال الاقتصاديّة إلينور أوستروم، التي تلاحظ أنّ ما يُدعى «مأساة المشاع»[16] ليست نتيجة حتمية الحدوث. يحتوي التاريخ على عدّة أمثلة عن موارد أديرت بنجاح وفق منطقٍ لا يرتهن للدولة أو السوق. تورد أوستروم مجموعة مبادئ مشاركة تعتمد عليها هذه الأمثلة، ضمنت بالفعل توزيع واستدخال عوائد سلع عامّة (common goods)، (وهو ما تدعوه بالموارد المشتركة common pool resource) وتكاليف إنتاجها بطريقة صحيحة.

إلى أي مدى يجب أن تعمل المنظّمة ضمن البُنى القائمة؟ إلى أي حدّ عليها أن تساهم في الاقتصاد القائم؟ أو في آليات عمل الدولة؟ كيف يمكنها أن تجد حلفاءً في مجتمعات ربّما لا تمتلك ذات الحماس الثوري الذي تمتلكه المنظّمة؟ كل هذا يعتمد على مقدار ما يمكن للمنظّمة أن تصبح بحدّ ذاتها «بيئة» للبُنى القائمة.

عند مناقشة القيود بشكل عام، فمن المهم أخذ المعايير التي يقيس بها المرء هذه القيود بعين الاعتبار. تُقاس القيمة في النظام الرأسمالي العالمي بعلاقتها مع السلع، والذي يتحدّد في النهاية بمقدار فائض القيمة الذي قد تنتجه مجموعة سلع. ممّا يجعل نطاق الأمور التي تسعى المنظّمة الرأسمالية لتحقيق أفضل نتائج ممكنة فيها ضيّقًا جدًّا. في مقابل ذلك، تستطيع المنظّمة الثوريّة أن تستحدث طرق قياس مختلفة مستفيدةً من أفكار الفن والفلسفة. من أجل الوصول إلى هذه الطرق ذات الخصائص الأمثل، على المنظّمة أن تُجرّب مع المقاييس. من شأن هذه العملية بحدّ ذاتها أن تتلاعب بالقيود الديناميكيّة وتغيّرها.

تأتي لدينا بعد ذلك القيود المتعلّقة بالتفاعل. عندما تقوم المنظّمة بفعل ما، فإن هذا يحدث ضمن بيئة يمكن اعتبارها بحدّ ذاتها نظامًا. يُعدّ هذا التفاعل نوعًا من الترابط، وبما أننا أشرنا إلى أنّ المنظّمة الثوريّة تستحدث روابطها، فهذا يعني أنّ طُرق تفاعلها أيضًا مستحدثة. ممّا يقودنا إلى استنتاج عام مفاده أن هذه التفاعلات لا بدّ أن تكون صِداميًّة، لما يمكن أن يحتويه المجتمع الذي تنشأ فيه هذه المنظّمات من آليّات تسعى للحفاظ على ديمومة الوضع القائم. يمكن أن تصبح التفاعلات الصداميّة تدميريّة بطريقة ربّما تُفقِد المنظّمة الثوريّة فعاليتها وجدواها.

هذا ما يحاول باديو من أجله أن يميّز بين كلّ من الطرح والهدم.[17] عند التفكير بقيود التفاعل المتعلّقة بالمنظّمة الثوريّة، بإمكاننا أن نختصرها إلى قيود خاصّة «بنوع المعارك التي نختار أن نخوضها» ضمن وضع معقّد ما. لدينا من جهةٍ أخرى السؤال الذي يقول: إلى أي مدى يجب أن تعمل المنظّمة ضمن البُنى القائمة؟ إلى أي حدّ عليها أن تساهم في الاقتصاد القائم؟ أو في آليات عمل الدولة؟ كيف يمكنها أن تجد حلفاءً في مجتمعات ربّما لا تمتلك ذات الحماس الثوري الذي تمتلكه المنظّمة؟ إنّ الجواب الذي نقترحه لكل هذه الأسئلة يعتمد على مقدار ما يمكن لهذه المنظّمة أن تصبح بحدّ ذاتها «بيئة» للبُنى القائمة. لدينا هنا مسألة دقيقة يصعب تحديدها، تتمثل في تفسير الكيفيّة التي تختلف فيها دلالة التفاعل نفسه -فليكن معاملة ماليّة مثلًا- وتختلف أيضًا الآثار المترتّبة عليه بمجرّد اختلاف المكان الذي يحدث فيه هذا التفاعل. إذا كانت القيود التي يفرضها العالم الخارجي تحكم هذا التفاعل فهذا يجعل المنظّمة الثورية في وضع مساومة وتنازل. ولكن طالما انبثقت القيود من المنظّمة نفسها، فعليها أن تساهم قدر الإمكان مع هذه البُنى الخارجيّة القائمة.

أّما بالنسبة للنوع الأخير من القيود، فيتعلّق بتكوين المنظّمة أو مركّباتها، ممّا يجعله مرتبطًا أيضًا بالسؤال السابق. لا تنبثق المنظّمة الثوريّة من العدم (حتّى لو أنّها نتجت عن حدثٍ ما)، فهي مركّب يتألّف من نثار العالم القائم. كل جزء في هذا النثار يتكوّن بدوره من جزيئات أخرى. أمّا المبدأ الذي ينظم الطريقة التي تتركّب وفقها هذه الأجزاء فيرتهن للتجريب. إنّ ما يجعل منظّمة ما ثوريّة هو تجريبيّة تركيبها، أي، انبثاق هذا التركيب أثناء تطوّر المنظّمة، بدلًا من تحديده مسبقًا كمعطى جاهز. ممّا يجعل هذا النوع من القيود محض سياسيّة، حتّى لو أطاعت مكوّناتُها القوانينَ الفيزيائيّة للعالم. تقوم هذه المنظّمات بمثابة عدسات لاستعراض الروابط الجديدة التي تنشأ في العالم. وهذا ما يجعلها بحدّ ذاتها تشكّل نوعًا من الموارد لأعضائها (ولغير أعضائها أيضًا).

إذا أردنا تبسيط ذلك، نقول إنّ ربط بعص العناصر مستحيل قبل الثورة، ولكنّه ممكن بعد قيامها. يمكن التمثيل على ذلك من خلال حراك أصحاب الهويات الجنسية المختلفة، التي تقوم على افتراض أساسي مفاده أنّ الجنسانيّة لا يمكن اختزالها في بعدها العضوي وحده. نلاحظ أنّ هذا التعريف قائم على النفي، فهو لا يحدّد ما هي الجنسانيّة، ولا يسعى لذلك. ما يهمّ في هذا الحراك هو إتاحته لخلق روابط جديدة بين الناس، وإمكانيات حبّ وتكوينات عائلية لم توجد مُسبقًا أو تحتّم على وجودها أن يكون خفيًّا. لا تنبع ثوريّة هذا الحراك من خصائص إبستمولوجيّة، بل من تعامله مع القيود القانونيّة والثقافية والاقتصاديّة المفروضة على من يمثّلهم هذا الحراك.

يمكننا أن نلخّص ما سبق بتعريف المنظّمات الثوريّة على أنها عمليّات تتحرّى المعيقات والعقبات الموجودة في العالم، وأثناء قيامها بذلك تطوّر سُبُلًا جديدةً لاكتشاف معلومات ظوهراتيّة ومشاركتها بينها. سنختم هذه الورقة بمناقشة بعض المفاهيم البيئيّة من المنظور الذي طورّناه. من الواضح وجود العديد من الحركات السياسية في لحظتنا الحاضرة. وقد رأينا كيف تجد النضالات المحليّة صدى لها في أجزاء أخرى من العالم، وهذا ما يحدث أغلب الأحيان عبر توظيف شبكة الإنترنت. ولكن كيف يمكننا خلق روابط بين الحركات (باعتبارنا منتمين لهذه الحركات) بطريقة لا تقتصر على مجرّد تبادل الدّعم بيننا؟ هذا السؤال أيضًا يتعلّق بالماديّة التي تحاول إيجاد صياغة أخرى لها. تصبّ مجموعة (STP) التي أمضت وقتًا طويلًا تناقش هذه المواضيع اهتمامها حاليًّا على مفهوم «الموارد المشتركة» الذي يجري تطويره حاليًّا ضمن مجتمع الرياضيات التطبيقيّة[18] ليشكّل قاعدة ترابط متينة بين المنظومات، يكون القصد منها تجاوز مجرّد الاعتراف المتبادل أو الهويّات الفردية لكلّ واحدة من هذه الحركات، والتركيز على الأنظمة الفعلية التي تعتمد عليها هذه الحركات المتعدّدة في عملها المشترك. يتضمّن هذا أن ينتج العمل الثوري أنظمة تشاركيّة جديدة، وأن يُصلح القائمة حاليًا منها أو يعيد بناءها. تعمل هذه الأنظمة عمل الأنسجة الضّامة التي تتيح لنا أن نشتقّ معًا حركات جديدة من رحم الحركات القائمة.

  • الهوامش

    دينيس ياو هو مطوّر برمجيّات ومختصّ في الفلسفة المتعلّقة بالتداخلات بين الاقتصاد السياسي، والمنظومات السياسيّة، والرياضيّات. عضو في «مجموعة فرعيّة للممارسة النظريّة» وهي مجموعة قراءة تهتم بهذه المواضيع، وأحد أعضاء لجنة تحرير مجلّة الأزمة والنقد، ومؤلّف كتاب «هيغيل، لاكان، جيجيك».

    [1] ملاحظة المترجمة: يقصد الكاتب «بالاستشعار» قدرة المنظّمة على الإحساس بمجموعة العناصر المهمّة بالنسبة لها وانتقائها فطريًّا من بين كل عناصر البيئة الخارجيّة التي لا تؤثّر على عملها ولا تتفاعل معها. وذلك مثلما يستشعر القطّ المنزلي مثلًا وجود الطعام ونوعيّته ورائحته وربّما كمّيّته ومكان حفظه، ولكن لا يستشعر ارتفاع أسعاره أو انخفاضها أو طريقة تصنيعه أو تغليفه أو كمّيّة السعرات الحراريّة التي يحتويها.

    [2] ملاحظة المترجمة: اشتُقّ مصطلح تكتولوجيا من اليونانيّة، فكلمة τεκτονικός تعني «بنيوية»، بينما تشير كلمة τεκτον للشخص الذي «يبني ويقوّض».

    [3] لا عجب أن بوغدانوف حقّق شعبية كبيرة بين الطليعة السوفييتية رغم انتقاد لينين وإقصائه له.

    [4]ملاحظة المُترجمة: يسمّي فوكو ثلاثة أشكال تاريخيّة للرقابة والضبط في المجتمعات، تبدأ بالمجتمعات الانضباطية التي سادت في القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين، ثم مجتمعات السيادة التي أعقبتها، لنصل أخيرًا إلى مجتمعات التحكّم.

    [5] ملاحظة المترجمة: تتمثّل الضوضاء الكهربائية على سبيل المثال في إشارات غير مرغوب بها ترافق الإشارات المرغوبة في الدائرة الكهربائية وتصدر إما عن مؤثّرات خارجيّة أو تتسبب بها عناصر من داخل الدائرة نفسها.

    [6] ملاحظة المترجمة: تقوم فكرة المنطق الفراغي على أن بإمكاننا التنبؤ بأيّ موضوع تقريبًا من خلال تمثيله على هيئة حيّز نقطيّ مجرّد، ثم نبدأ بترتيب عناصر الموضوع عليه حسب موقعها في هذا الحيّز، ثمّ نحدّد صفات هذا الحيّز وأسسه بناءً على معاييرنا القياسيّة المُعتمدة. لو أردنا مثلًا قياس فرصة نزول أمطار بناءً على المنطق الفراغي، فإننا أن نخلق حيّزًا تتألف أبعاده المكانيّة من عناصر الموضوع مثل الرياح والرطوبة والارتفاع والضغط الجوي… ونحاول أن نعيّن ضمن هذا الحيّز تلك النقاط التي ارتبطت تاريخيًا بنزول الأمطار، فنأخذ مثلًا بعد شدّة الرياح ونحدد الشدّة التي تتزامن مع حدوث الأمطار وهكذا بالنسبة لبقيّة الأبعاد. وبهذا نحصل على نموذج فراغي يعيننا في تنبؤ الأمطار في المستقبل.

    [7] ملاحظة المُترجمة: من أمثلة هذه البُنى: الأسواق والقوانين وشبكات الاتصال وسلاسل الإمدادات وكلّ ما من شأنه أن يساهم في إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي، دون أن يكون وجوده و/أو طريقة عمله ملحوظين لنا بالضرورة.

    [8] تعتمد هذه الفكرة على كتابات آلان باديو.

    [9] بعد أن تصبح المنظّمة على درجة كافية من الفعالية في تعاملها مع عقباتها، تبدأ بإظهار خصائص لا تتعلّق بهذه العقبات بشكل مباشر، وإنّما تبدو كخصائص تعيق فاعلية المنظّمة. نجد مثالًا على هذا النوع من الخصائص في البيروقراطية، التي تصبح «شرًّا لا بدّ منه» لتحقيق نطاق واسع من التنسيق وتركيز الجهود. بالرغم من أنّ البيروقراطيّة هي أحد مكوّنات المنظّمة، فهي تظهر بالعادة كما لو أنّها مفروضة علينا من خارج المنظّمة. فنحن لا نستطيع تعيين مصدرها الداخلي لأننّا لا نقرّر بشأنها (وهذا يشير إلى الدرجة التي تستقلّ فيها المنظّمة عن أفرادها).

    [10] ملاحظة المترجمة: يقول هيغيل: تنشر مينيرفا أجنحتها فقط عند حلول الظلام. ومينيرفا هي إلهة الحكمة التي تمثّلها بومة في الثقافة اليونانية. ويقصد بذلك أنّ الإنسان يبدأ بفهم التاريخ لحظة ينتهي التاريخ الإنساني.

    [11] تدرس مجموعتنا (STP) هذه المسألة من خلال توظيف أدوات من حقل الرياضيات وغيره من الحقول. طرحتُ في عملٍ سابق (بعنوان: من الخرائط الذهنية إلى الحزم) أنّ تحليل الاقتصاد السياسي يستلزم منّا دمج المزيد من المقاربات الحاسوبيّة والطوبولوجيّة. تشكّل كلّ منظّمة بحدّ ذاتها نوعًا من آلة ذاتيّة التعلّم، فهي تستكشف العناصر المكانية لمحيطها، وفي الوقت ذاته تطوّر تكوينها الخاصّ. تخطّ السياسةُ الخارطةَ التي تجمع البيئة المحيطة مع التكوين الداخلي، ويشكّل التجريب في هذه الحالة الغراءَ الذي تلتصق بواسطته أجزاء هذه الخارطة.

    [12] ملاحظة المترجمة: وهي اختصار Subset of Theoretical Practice.

    [13] ملاحظة المترجمة: يعرّف الوجود المرئي «أو المُدرك حسيًّا» هنا على أنّه وجود واقعي، وذلك لأنّنا نتحدّث في سياق ظاهراتي، فالوجود الفينومينولوجي للشيء يتعلّق بظهوره، لا بكينونته.

    [14] نورد مثالُا على الخصائص الجوهرية للمنظّمة في ضرورة بناء ثقافة معيّنة تلائم عبرها المنظّمة بيئتها مع أعضائها من الطبقات المهمّشة. يبدو تطوير ثقافة كهذه نصرًا بحذّ ذاته، حتّى لو لم تعمل «مباشرة» على تغيير المجتمع.

    [15] وقد يكون هناك منظومات تنتقي جميع أعضائها من عرق أو طبقة مضطهدة واحدة، وبهذا لا يمكن اعتبارها عنصرية بسبب هذه الانتقائيّة.

    [16] ملاحظة المترجمة: يفترض غاريت هاردن (حسب أوستروم) في إشكاليّة مأساة المشاع أنّ استخدام مجموعة من الأفراد موردًا محدودًا بشكل مشاعي سيؤدّي بالضرورة إلى استنزاف هذا المورد وضرر البيئة، بسبب تغليب المصالح الفردية قصيرة الأمد على المصالح الجماعية بعيدة الأمد.

    [17] ملاحظة المترجمة: الطرح والهدم هما مصطلحان يستخدمهما باديو للتعبير عن طرفي أي عملية نفي في سياق انبثاق أوضاع مُستجدّة. أي، في سياق علاقة النفي التي تربط الجديد بما كان سائدًا (المُستجدّ باعتباره نفيًا أو تقويضًا للسائد، وإثباتًا لذاته). تتكوّن عملية النفي من طرفين: نفي (سلب) وإثبات (إيجاب). يتمثل الجانب السلبي لعملية النفي فيما يدعوه باديو بالهدم (وهو تخريب الوضع السائد)، ويتمثل الجانب الإيجابي فيما يدعو باديو بالطرح (أي، استقلاليّة القواعد الخاصّة بالمستجدّ عن القواعد التي كانت تحكم السائد وطرحها منها، فلا هي تحتكم لها ولا هي تناقضها). يمكن الاستماع لمحاضرة يلقيها باديو عن هذه المفاهيم عبر هذا الرابط.

    [18] تعتبر صوفي ليبكيند (2020) مرجعيتنا الأساسية في هذا المجال، ولكن يوجد العديد من المشاريع التي تمارس في يومنا هذا نظرية الفئات التطبيقية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية