مرفأ بيروت: ركام في انتظار صفقة إعادة الإعمار

الإثنين 09 آب 2021
صورة جوية تظهر صوامع القمح المدمرة في موقع انفجار مرفأ بيروت، بعد عام على الانفجار. 4 آب 2021. أ ف ب.

بعد نحو عام على انفجار المرفأ الشهير، يمكن لجولة صغيرة أن تكشف للمشاهد أن كل شيء ما زال متروكًا على حاله: الصوامع التي كانت تستوعب مخزون القمح الاستراتيجي للبلاد متروكة كأطلالٍ مهشّمة وآيلة للسقوط في أي لحظة، مع ما يشكله ذلك من خطر على السلامة العامّة. وبمحاذاتها لا يمكن للمرء إلّا أن يعثر على الحفرة الهائلة التي خلّفها الانفجار، والتي أطاحت بأحد الأرصفة البحريّة التي كانت تُستعمل لتفريغ السفن. حتّى السفن والسيّارات التي اشتعلت فيها النيران قبل سنة ما زالت مكانها، فيما تحتل مساحات واسعة من أرضيّة المرفأ ركام المستودعات والعنابر الضخمة التي كانت تخزّن بضاعة المستوردين والمصدّرين. باختصار؛ يحيلنا كل هذا المشهد إلى خلاصة واحدة، مفادها أن أحدًا لم يبذل أدنى جهد للتعامل مع الآثار التي خلّفها الانفجار.

ما لا يعرفه كثيرون، أن المرفأ كان قد استعاد بعد أيام قليلة من الانفجار ما يقارب 75% من قدرته التشغيليّة، رغم كل الدمار الذي ألمّ به، ورغم عدم بذل أي جهد حكومي للتعامل مع الخراب الناتج عن الكارثة. فالغالبيّة الساحقة من عمليات المرفأ كانت تمرّ أساسًا من خلال ما يُعرف برافعات محطّة الحاويات، وهي محطّة عادت إلى العمل بعد أسبوع واحد من الانفجار، نظرًا لبعدها النسبي عن موقع المواد المتفجرة. مع الإشارة إلى أنّ مداخيل المرفأ في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام لم تتراجع إلا بنحو 4.63% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، التي سبقت الانفجار، ما أكّد قدرة المرفأ على استعادة جزء كبير من نشاطه بسهولة.

لكنّ ما لم يفعله الانفجار، فعلته تطورات الفترة الماضية، من حيث تعطيل عمليات المرفأ وإحالته تدريجيًّا إلى التقاعد والشلل الكامل. فمحطة الحاويات التي سلمت من الكارثة في البداية، وعادت إلى العمل بعدها، لم تعد تعمل اليوم إلا من خلال أربع رافعات من أصل 16، نتيجة تراكم الأعطال ونقص قطع الغيار وتأخّر أعمال الصيانة. علمًا أن خروج الرافعات من العمل، وتدني قدرة المحطة الانتاجيّة، حصل خلال الأسابيع الماضية لأسباب لا تتصل بالانفجار، بدلالة عدم انخفاض إنتاجيّة المحطة بعد الانفجار وحتّى شهر أيار الماضي. أما الأسباب، فهي مزيج من امتناع المصرف المركزي عن توفير الدولارات المطلوبة للصيانة، وحجز القضاء اللبناني على واردات المرفأ بالعملة الصعبة، وعدم توفّر السيولة لتعديل أتعاب المتعهدين والعمال المقوّمة بالليرة اللبنانيّة بعد تدهور سعر الصرف، مما دفع عددًا منهم للإضراب. 

إن السباق الدولي على ملف إعادة إعمار المرفأ، هو أيضًا سباق على تشغيله واستثماره كنقطة نفوذ هامّة في حوض شرق المتوسّط.

هنا تتداخل العوامل الناتجة عن الأزمة الماليّة، مع عوامل الإهمال المتعمّد والتقاعس عن التعامل مع تداعيات الأزمة الماليّة على المرفأ، خصوصًا حين يتّصل الأمر بتوفير العملة الصعبة المطلوبة لأعمال الصيانة. مع العلم أن محطة الحاويات بالتحديد، تُعتبر من المرافق العامّة المدرّة للعملة الصعبة، من خلال رسوم الخدمات التي تقدمها، ما يعني أن تأمين استمراريتها في ظل الأزمة كان يفترض يكون أولويّة لدى الدولة اللبنانيّة.

وسواء كان الأمر متصلًا بالتآمر المقصود لتفليس المرفأ كما يعتقد البعض، تمهيدًا لتلزيم استثماره أو حتّى خصخصته، أم كانت المسألة مجرّد نموذج عن الإهمال المستشري في جميع مرافق الدولة، فالنتيجة واحدة: مرفأ بيروت يترنّح، بانتظار الصفقة التي سيتم بموجبها تلزيم عملية إعادة إعمار واستثمار المرفأ. علمًا أن ثمّة سباق دولي واضح على هذه الصفقة تحديدًا، في حين أن أقطاب النظام السياسي اللبناني يدركون أن بإمكانهم المساومة لإعادة تعويمهم دوليًّا مقابل هذه الصفقة بالذات، من خلال منحهم الغطاء الدولي الكفيل بعودة المساعدات الماليّة الخارجيّة، والحصول على غطاء الدول الكبرى السياسي.

إفلاس أم تفليس؟

عند مراجعة أحداث الفترة الماضية، يصعب وضع الحد الفاصل ما بين الإفلاس الناتج عن الإهمال العبثي، والتفليس الناتج عن قرارات مقصودة. فأزمة المرفأ التمويليّة الأولى، تكمن في القرار القضائي الذي جرى اتخاذه في أواخر العام الماضي، والذي قضى بالحجز الاحتياطي على جميع الأموال التي استحقّت أو ستستحق لمصلحته من قبل أطراف ثالثين، وتحديدًا الشركات المستوردة والمصدّرة التي تدفع في العادة الرسوم بالدولار لإدارة المرفأ. أما هدف القرار، فهو حبس هذه الأموال لتأمين أي تعويضات يمكن أن تستحق في المستقبل لأهالي ضحايا انفجار المرفأ. وبذلك، تحوّل المرفأ بأسره إلى صندوق تعويضات، يقتصر دوره على جباية الأموال لهذه الغاية وإيداعها صندوق المحكمة، دون أن يتمكّن من تحصيل الأموال بالعملة الصعبة لصيانة المنشآت ودفع تكاليف التشغيل. 

الإشكاليّة الأولى في القرار القضائي، تمكن في أنّ الأموال المشار إليها تصنّف في قانون الموازنة كأموال دولة، لا يصح وفقًا لقانون أصول المحاكمات المدنيّة الحجز عليها بهذا الشكل. بل كان من المفترض أن تكون مسألة التعويضات على المتضررين جزء من خطة متكاملة تعدّها الدولة اللبنانيّة، تُحدد مصادر التمويل وقيمة التعويضات، في ضوء توزّع المسؤوليات بحسب نتائج التحقيق التي لم تبصر النور بعد. وفي كل الحالات، كان من المستغرب طريقة تعامل الدولة اللبنانيّة مع هذا الملف الذي يهدد اليوم استمراريّة المرفق العام، إذ لم تبادر منذ نهاية العام الماضي للقيام بأي خطوة للتعامل مع هذه الإشكاليّة، باستثناء مؤتمر صحفي عقده وزير الأشغال العامّة والنقل في أواخر شهر حزيران الماضي، أشار فيه إلى عدم قانونيّة هذا الحجز.

الأزمة التمويليّة الثانية ارتبطت بمنع مصرف لبنان تحويل أموال من ودائع الشركات المشغّلة لمحطة الحاويات إلى الخارج، لتمويل عمليات الصيانة والتشغيل، بذريعة تناقص الاحتياطات المتبقية لديه من العملة الصعبة، والمتأتية أساسًا من أموال المودعين. مع العلم أن مصرف لبنان استمرّ منذ حصول الانهيار المالي باستعمال هذه الاحتياطات لتمويل الحاجات الأساسيّة للدولة بالعملة الصعبة، كعقود شراء الفيول لمؤسسة الكهرباء مثلًا، في حين أن كل من الحكومة والمصرف المركزي أهملا منذ انفجار المرفأ ضرورة تأمين الحد الأدنى من التمويل المطلوب للاستمرار بتشغيل محطة حاويات المرفأ، التي تمرّ من خلالها 70% من تجارة لبنان مع الخارج، والتي يؤمّن تشغيلها استرداد تكاليف صيانتها بالعملة الصعبة.

أما فيما يخص إعادة إعمار الجزء المدمّر من المرفأ، فمن الطبيعي ألا تملك الدولة في ظل حالة الانهيار المالي القائمة اليوم القدرة على تمويل مشروع ضخم كهذا، ما يحيل المشروع بأسره إلى تلزيمات الشراكة مع القطاع الخاص المطروحة من قبل الكثير من الجهات الأجنبيّة، والتي تقوم على إعادة الإعمار ومن ثم استثمار المرفق خلال مدة زمنيّة معيّنة. لكنّ الغريب هو أن الدولة ما زالت لا تملك اليوم، وبعد أكثر من سنة على الانفجار، دراسة واحدة متكاملة توثّق حجم الأضرار الموجودة، أو تقدّر حجم التمويل المطلوب لإعادة الإعمار. كما لم تحاول الدولة حتّى وضع رؤية لكيفيّة البدء بمعالجة الأضرار التي لا تحتاج إلى استثمارات كبيرة، كرفع الأنقاض والخردة، لإعادة استعمال مساحات التخزين المتاحة على أرضيّة المرفأ.

قد يعتقد البعض أن ربط القرار القضائي وأزمة تمويل مصرف لبنان بالتآمر لتفليس المرفأ تمهيدًا لصفقة تلزيم إعادة الإعمار والتشغيل فيه شيء من المبالغة. لكنّ الأكيد أن الإهمال المتعمّد الذي يحيط بملف المرفأ من جميع الجهات، يتصل اليوم بتريّث الجميع في انتظار صفقة التلزيم الكبيرة، التي تثير شهيّة الكثير من الدول الأجنبيّة، والتي تنتظر القوى السياسيّة المحليّة ما يمكن أن تجنيه منها في المقابل.

السباق الدولي على مرفأ بيروت

في الدول التي لا تمتلك السيولة اللازمة لبناء المرافق العامة، كلبنان، أو تلك التي لا ترغب بتحمّل مخاطر المشاريع الكبرى وعبء إدارتها، غالبًا ما تقوم مشاريع الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص على تلزيم عمليّة بناء المرافق العامّة ومن ثمّ إدارتها واستثمارها لمدّة من الزمن، وفق عقود قد يمتد أجلها لعشرات السنوات. بمعنى آخر، فالسباق الدولي على ملف إعادة إعمار المرفأ، يمثّل أيضًا سباق على تشغيله واستثماره كنقطة نفوذ هامّة في حوض شرق المتوسّط، وخصوصًا في ظل السباق المستعر على مساحات النفوذ البحريّة في هذه المنطقة بالذات. وبينما تتقاسم كل من روسيا وإيران عقود استثمار وتشغيل الموانئ السوريّة، وتمتلك الصين عقودًا استثماريّة وتشغيليّة في موانىء حيفا وأشدود في فلسطين المحتلّة، يظهر مرفأ بيروت على الخارطة كنقطة جذب لجميع الأطراف الراغبة بالمنافسة للحصول على موطىء قدم في منتصف الشاطىء الشرقي للمتوسّط.

لكل هذه الأسباب، انهمرت العروض على لبنان من مختلف الدول المهتمّة بهذه الفرصة الاستثماريّة. الشركات الألمانيّة قدّمت عرضًا طموحًا جدًا، تصل قيمة خططه إلى نحو 15 مليار دولار، لكنّ العرض ذهب إلى ما هو أبعد من إعادة إعمار المرفأ وتشغيله، ليشمل إقامة مناطق سكنيّة وسياحيّة ومتنزهات. ولذلك توجّس كثيرون من الطابع العقاري التوسّعي والنَهم للمقترح، الذي يذكّر اللبنانيين بتجربة شركة سوليدير في إعادة إعمار وسط العاصمة، والتي انتهت بتغيير النسيج الاجتماعي للمناطق التي شملها المشروع، وسلخها عن محيطها المُدني.

لا يملك لبنان خطة للتعامل مع ملف إعادة إعمار المرفأ، ولا يملك حتّى رؤية لكيفيّة الحفاظ على دوره واستمراريّته في ظل الأزمة الماليّة التي تمر بها البلاد.

المرشّح الأكثر جديّة لهذه المهمّة كانت شركة سي إم أيه سي جي إم الفرنسيّة (CMA CGM)، التي طرحت خطة أكثر واقعيّة، اقتصرت على إعادة إعمار المرفأ واستثماره بكلفة تتراوح ما بين 400 و600 مليون دولار. أما جديّة المقترح فتنطلق من تاريخ الشركة الطويل في العمل في لبنان والموانىء اللبنانيّة، وعلاقاتها مع المسؤولين اللبنانيين، لا بل وقربها من الرئيس الفرنسي الذي حرص على اصطحاب مديرها العام، لبناني الأصل، في أولى جولاته في لبنان بعد الانفجار، في إشارة إلى اهتمام فرنسا بملف إعادة إعمار المرفأ. علمًا أن انغماس الفرنسيين في تفاصيل الملف الاقتصادي اللبناني يعزّز من فرص فرنسا في الفوز بهذه الصفقة، لا بل يشير البعض إلى علاقة هذا الانغماس باهتمام الفرنسيين بعدة ملفات استثماريّة في لبنان، منها ملف إعادة إعمار المرفأ.

إلى جانب العرضين الفرنسي والألماني، أبدت تركيا اهتمامًا شديدًا بهذا الملف، وهو اهتمام نابع من تسابقها مع فرنسا على مساحات النفوذ في المنطقة على مختلف الجبهات. كما دخلت روسيا على الخط من خلال زيارات لوفود ضمت ممثلين عن شركات روسيّة تعمل في مجال البنى التحتيّة وشؤون المرافىء، في محاولة للاستفادة في دعم نفوذها المستجد في المنطقة.

أي مرفأ يريد لبنان؟

كل ما سبق يقودنا إلى خلاصة أخيرة: لا يملك لبنان خطة للتعامل مع ملف إعادة إعمار المرفأ، ولا يملك حتّى رؤية لكيفيّة الحفاظ على دوره واستمراريّته في ظل الأزمة الماليّة التي تمر بها البلاد. ما هو مطلوب في المرحلة الراهنة، ليس سوى حرق الوقت، بانتظار حلول لحظة الصفقة الكبيرة التي سيتم من خلالها تلزيم بناء وتشغيل المرفأ لعشرات السنوات. وفي هذا المسار، لن يملك لبنان أي أولويات اقتصاديّة واضحة ليفرضها على الجهات التي ستلتزم عمليات البناء والتشغيل لاحقًا، طالما أن الدولة لا تملك أساسًا إجابةً على سؤال بالغ الأهميّة: أي مرفأ نريد ولأي وظيفة؟ ففي العادة، لا يُنظر للمرافىء على أنها مساحة مستقلة عمّا يحيط بها من أنشطة اقتصاديّة، بل تُصمم وتُدار بما يتكامل مع سائر الوظائف والقطاعات الاقتصاديّة، وهذا ما لا يجري حاليًا.

في الوقت الحالي، يستفيد الكيان الصهيوني من الوضع الراهن، عبر الاستعداد لافتتاح ميناء حيفا الجديد في أيلول القادم، وهو ميناء يُنتظر منه أن يؤدّي دورًا إقليميًا بارز على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسّط، في ظل الشلل الذي يصيب مرفأ بيروت اليوم. كل ذلك يشير إلى أن حرق الوقت له كلفة، والكلفة هذه المرّة قد تكون خسارة الموقع التنافسي الذي كان يلعبه مرفأ بيروت في الماضي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية