مسار الانقلاب على الثورة لم يبدأ اليوم، و«الرئيس المنقذ» لن يعكسه

السبت 31 تموز 2021
تونسيون يتظاهرون أمام قوات الأمن في مدينة تطاوين الجنوبية مطالبة بالتشغيل، في حزيران 2020. تصوير فتحي نصري، أ ف ب.

في الذكرى الـ64 لإعلان الجمهورية التونسية، يعلن رئيس الجمهورية في اجتماع مع القيادات العسكرية والامنية تجميد أعمال البرلمان وتولي رئاسة النيابة العمومية القضائية. يتحدث الرئيس والجيش والقيادات الأمنية على يمينه ويساره، ينادي باحترام الدستور ويحتكر تأويله في نفس اللحظة، مستفيدًا من عشر سنوات من الخيبات، تتحمل فيها أحزاب مسار الغنيمة المسؤولية بعد سطوها على ثورة الهوامش.

في هذه اللحظة، يقود رئيس الجمهورية انقلابًا يقول إنه يعتمد فيه على الدستور. لكن المعركة ليست على النصّ الدستوري إنما عبر نصّ الدستور، وصاحب القوة الميدانية هو الأقدر على الحسم لصالحه. منذ مدة، وقيس سعيد يغازل الجيش ويطلب ود وزارة الداخلية، عندما أصر على كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، العسكرية والمدنية. وفي المقابل، يقود رئيس مجلس النواب جماهيره التي استنزفها منذ عشر سنوات دون أي منجزات نحو مواجهة سلاحه فيها حملة إعلامية خطابية، فيما الجماهير المساندة لقيس سعيد في الشارع تقدم له ما يشبه التفويض قبل حتى أن يطلبه. 

لم يكن قيس سعيّد شخصًا يسهُل احتواؤه، خلافًا لما توقعت حركة النهضة وهي التي تحالفت مع الرئيس السابق الراحل الباجي قايد السبسي، الذي قاد بصحبة راشد الغنوشي -رئيس حركة النهضة- ما عُرف بـ«توافق الشيخين»، الذي اعتبرته حركة النهضة توافقًا خدم مصلحة البلاد، فيما رآه كثيرون توافقًا على حساب الثورة، باعتباره أعاد تدوير القديم في الحياة السياسية، وأنتج نفس الممارسات السياسية لنظام بن علي.

تمادت حركة النهضة في نسج تحالفات لم تدم طويلًا، وورّطها ارتباطها بمنظومة الحكم القديمة التي تزداد تشظيًّا في تعقيدات سياسية سببت سخطًا شعبيًّا عليها، ولم تشفع لها سنوات معارضة الاستبداد، خاصة عندما أصبح جليًّا للتونسيين انخراطها في تبييض الفساد المالي والإداري ودفاعها عن الخيارات السياسية لمنظومة الحكم التي أصبحت جزءًا منها. وشهدت الحركة محاولاتٍ للعصيان من مجموعة من قيادات الصف الأول فيها، لكن هيمنة شيخ الحركة راشد الغنوشي على مفاصلها أضعف قدرة هؤلاء على إحداث تغيير في التحالفات والتوجهات السياسية للحركة.

يحاول سعيد إعادة إنتاج لحظة زعامة فردية في مواجهة الانتقال الديمقراطي الذي أدى لاستبعاد مصالح المهمشين من السياسة. لكنه يفعل ذلك على حساب المهمشين أنفسهم.

أما قيس سعيّد، فقد مثّل منذ صعوده لرئاسة الدولة إمكانية لتشكّل بديل سياسي خارج الامتيازات المادية والرمزية القديمة. لكن الإشكالية في البديل الذي يقترحه سعيّد، والقائم على إعادة بناء السلطة السياسية من تحت وتفكيك مركزيتها، تكمن في أنه يحمل إمكانية إعادة إنتاج الصراعات والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي نراها على المستوى المركزي منذ عقود. فالمجتمع يشهد على المستوى المحلي صراعات بين أصحاب مصالح متناقضة، وتبقى إمكانيات الأقوى ماديًا في فرض خياراته عبر العملية الديمقراطية أعلى من غيره. كما أن الخطاب الذي يقدمه بشعار «الشعب يريد»، والحديث عن مؤامرات يعرفها الشعب بأسلوب عمومي غامض تحت عنوان مصلحة البلاد، يجعله يتغافل عن مراجعة السياسات التي أنتجتها التحالفات الاجتماعية والاقتصادية القديمة التي أتت ثورة 17 ديسمبر للإطاحة بها. 

وبعد أن جمع كل السلطات في يده، يتجه سعيّد الآن لتسليم عدد من الملفات للجيش بحجة أن النخبة السياسية والإدارية فشلت في إدارتها. يرافق ذلك حالة من الإنكار الواسعة لوجود انقلاب في البلاد، والتهليل لكل خطوة يتخذها سعيّد. هذه بداية لعسكرة إدارة الشأن العام، ولن يكون التخلص من هذه الإجراءات الاستثنائية سهلًا أبدًا.

يحاول قيس سعيد إعادة إنتاج لحظة زعامة فردية في مواجهة الانتقال الديمقراطي الذي أدى لاستبعاد مصالح المهمشين من السياسة. لكنه يفعل ذلك على حساب المهمشين أنفسهم بأن ينصب نفسه العارف بما يريدون، ويحرمهم بذلك من ممارسة السياسة والدفاع عن مصالحهم الطبقية والسياسية، لمدة ثلاثين يومًا لا ندري إن كانت ستمتد لسنوات. 

السياسة ليست اصطفافًا فحسب. إنها أمر يتطلب النقاش والتفكير، دون انتقاص من مشروعية الغضب أو الفرح. والعطش الجماعي لزعيم مخلّص من ديمقراطية فاسدة تقودها حركة النهضة لا يمكن أن يؤدي إلى تغافل أن هذا الوله المفاجئ بالرئيس المنقذ هو هروب من الأزمة الحقيقية، وهي فشل كل النخبة السياسية في الاستجابة لضرورات ثورة 17 ديسمبر، وقيام مشهد سياسي أزاح الثورة من السياسة وزحفت فيه الثورة المضادة منذ عشرة سنوات. أما التذرع بالكذبة الرائجة المسماة «الاستثناء التونسي»، وتعطيل التفكير وتخوين الآخرين واتهامهم بالاصطفاف مع حركة النهضة، إضافة الى التهليل لأي خطوة يتخذها رئيس السلطات الثلاث وصاحب القوة المطلقة، كل هذا يمهد للاستبداد ويطلبه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية