مصعب وخليفة يعبران إلى فلسطين وبلدتهما صمّا تستحضر قصتها مع العدو

الأحد 23 أيار 2021
مطل قرية صمّا المشرف على الشونة الشمالية وفلسطين. تصوير شربل ديسي.

لا يبدو أن هناك مَن يملك تفاصيل ما جرى مع الشابين مُصعب الدعجة وخليفة العْنُوز، اللذين تمكنا من اجتياز الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي والعبور إلى فلسطين يوم السبت 15 أيار. يرجّح معارفهما وأصدقاؤهما في قريتهما صمّا، الواقعة على مسافة 15 كيلومترًا غرب مدينة إربد، أن قرار دخول الأراضي المحتلة اتخذه الشابان في لحظته، إذا لا  يُعرف عنهما أي نشاط سياسي أو توجه أو استعداد مسبق لمثل هذا الفعل. لقد كانا صديقين يعملان فيما يعرف بقطاع «الأعمال الحرة»، وهي تسمية للعمل غير الثابت والمتنقل وغير المستقر.

انتشر الخبر أولًا صباح الأحد، 16 أيار، عن طريق مصادر إعلامية إسرائيلية تحدثت عن اعتقال الشابين، كما نشرت صورتهما في مكتب للتحقيق كما يبدو. وفي اليوم التالي بدأت سلسلة من الأخبار المحلية المتناقضة حول الموضوع، ففي جلسة لمجلس النواب قال رئيس المجلس عبدالمنعم العودات إن وزير الداخلية أكد له أن «الشابين اللذين عبرا النهر عادا إلى أهلهما سالمين وهما الآن بين أهلهما»، وعلى الفور نقلت الخبر وسائلُ إعلام مختلفة داخليًا وخارجيًا.

لكن سرعان ما تبين أن خبر العودة هذا غير صحيح مطلقًا، وقد بلغ الارتباك إلى درجة أن وكالة الأنباء الرسمية «بترا» نقلت تصريحًا لوزير الداخلية يؤكد عودة الشابين، لتعود بعد ساعات من اليوم ذاته لنشر تصريحات مناقضة منسوبة لهيئة الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين تؤكد استمرار اعتقالهما. وكانت وسائل إعلام أخرى قد بادرت للتواصل مع هيئة الدفاع عن الأسرى، ونقلت تصريحات لمحام فلسطيني ينتمي إلى تلك الهيئة. ولكن في تلك الأثناء، كانت قناة تلفزيونية محلية قد أجرت مقابلة مصورة مع والد أحد الشابين، الذي قدم شكره للذين عملوا على الإفراج عن ابنه، وأفصح في المقابلة أنه تبلّغ أن ابنه موجود لدى الأجهزة الأردنية.

ترك هذا الارتباك أثره على تداول الخبر والتفاعل معه، ولم تُقدم أية توضيحات من قبل الشخصيات الرسمية التي شاركت في صناعة هذا الارتباك، فلم تصدر تصريحات أخرى من طرف وزير الداخلية أو رئيس مجلس النواب، اللذين كانا أول من أعلن عن استلام الشابين.

يتناول أهالي بلدة صمّا ممّن التقيتهم ما جرى من تناقض في الأخبار بالكثير من الأسى. وتتحفظ أسرتا الشابين عن الحديث بتوسع عن الموضوع، بما في ذلك في أحاديثهم داخل البلدة نفسها، وقد اكتفى والد أحدهم بالقول لحبر إنه حصل على تطمينات حول مصير ابنه.

في يوم الجمعة الفائت، 21 أيار، كان قد أعلن على نطاق محدود عن إجراء وقفة احتجاجية بعد صلاة الظهر أمام مسجد صمّا الكبير. وبالفعل بعد انتهاء الصلاة، رفع عشرات الشباب ثلاث يافطات تحمل صور الشابين وتشيد بـ«العمل البطولي» الذي قاما به، ورددوا بعض الهتافات، غير أن الوقفة لم تستمر طويلًا لأن منظمي الاحتجاج كانوا قد قرروا بالاتفاق مع نظرائهم من القرى القريبة الالتحاق بالتحرك المركزي في منطقة الكرامة على الحدود مع فلسطين. وبالفعل أسرع كثيرون إلى سيارات حملتهم إلى هناك.

صورة من الوقفة الاحتجاجية منقولة عن صفحة «صمّا خبز مرمّى».

لكن اللافت والأكثر أهمية ربما (وهو ما دفعني للبقاء في البلدة طيلة اليوم)، هو طبيعة النقاش العام بين المواطنين، والذي يعكس تبدلًا ملحوظًا في المزاج العام تجاه الحدث العام، أي المواجهة بين العدو والمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وبلا شك فقد أسهم حدث اعتقال الشابين مصعب وخليفة في رفع مستوى الاهتمام وفي تحفيز المزاج الشعبي في تلك البلدة أكثر من غيرها.

لقد استحضر أهالي صمّا قصتهم الخاصة مع العدو ذاته. تقع قرية صمّا على خط قرى يبدأ من أقصى الشمال في بلدة أم قيس، ضمن ما كان يعرف خط المواجهة في فترة حرب الاستنزاف، وهي السنوات الثلاث التي تلت حرب حزيران 1967، على الجبهات الثلاث المصرية والسورية والأردنية. وقد شهدت تلك السنوات مواجهات متواصلة، وبالطبع مع بروز خاص للجبهة المصرية التي كان استنزاف العدو فيها قرارًا رسميًا اتخذته الدولة، إلى أن توقفت بهدنة برعاية دولية في منتصف عام 1970.

على الجبهة الأردنية، شهدت المنطقة حضورًا عسكريًا كثيفًا مكونًا من ثلاثة أطراف، هي الجيش الأردني والجيش العراقي والمنظمات الفدائية، وكانت قواعد هذه الأطراف متجاورة تمامًا ومنتشرة حول القرى المختلفة، ولا تزال آثار ذلك موجودة بوضوح في المنطقة على شكل خنادق وتحصينات.

رافقني السيد موسى المَقابْلة (أبو علاء)، وهو الآن يبلغ 67 عامًا، في جولة في القرية وحولها، شارحًا لي ما كان يجري، ومشيرًا إلى المواقع العسكرية الأردنية والعراقية ومواقع المنظمات الفدائية. كان أبو علاء فتىً يبلغ 14 عامًا في عام 1968 -وهو العام الذي شهد مع العام الذي يليه أقسى المواجهات والاعتداءات التي كانت تجري أمام عيون السكان-، ويتذكر أن أغلب السكان اعتبروا الملاجئ مكان النوم الاعتيادي في تلك الفترة.

أبو علاء وأبو رياض. تصوير أحمد أبو خليل.

يقول أبو علاء إنها كانت سنوات قاسية، «لكننا لم نكن نشكو، بل كان الناس في غاية الحماس، وشهدَتْ القرية حالة فريدة من التكافل والتعاون». ويوضح أنه كفتى مع أقرانه من العمر ذاته لم يكونوا يعرفون معنى الخوف، وكانوا يندفعون نحو مواقع القصف وكأنه «فُرْجة». ولكن أبو علاء بعد ذلك بأقل من سنتين، وفي مطلع العام 1970 بعد أن تجاوز 15 عامًا بقليل، التحق بالخدمة العسكرية ضمن حملات التجنيد التي نظّمت من خلال جولات على المدارس.

تقع القرية على بعد سبعة كيلومترات من المنطقة الحدودية، يقابلها على الجهة الأخرى في فلسطين مناطق بيسان ومرج بن عامر، وللمنطقتين المتقابلتين علاقة اجتماعية وتجارية عميقة وطويلة، وبعض السكان يحتفظون بعلاقة قرابة هنا وهناك، وإثر النكبة عام 1948 اختار الأصدقاء والمعارف من النازحين قريةَ صمّا كموقع للجوء باعتبارها مألوفة لديهم.

لكن أبو علاء، مثله مثل كل من التقيتهم في البلدة، استحضر تاريخًا أسبق، يرى فيه ميدانًا للفخر، فأهالي صمّا مثلًا يتبنون رواية منافسة لرواية دارجة في الأردن أن كايد مفلح العبيدات هو أول شهيد أردني في فلسطين، فهم يقولون إن أول شهيد في مواجهة المستوطنين اليهود هو من قريتهم في عام 1919، واسمه أحمد القعاونة النصيرات. وكانت صفحات على فيسبوك تهتم ببلدة صما وأخبارها الاجتماعية، منها صفحة باسم «أخبار بلدتي صما» وأخرى باسم «صمّا خبز مرمّى»، قد بادرت إلى تغيير منشوراتها لتواكب الحدث، ونشرت إضافة لصورة الشابين مصعب وخليفة، صورة قديمة للمرحوم احمد القعاونة باعتباره أول شهيد.

رافقني أبو علاء إلى رجل أكبر سنًا يحمل تجربة وذاكرة أطول، هو أبو رياض المقابلة، الذي يبلغ اليوم حوالي 80 عامًا. التحق أبو رياض بالجيش لمدة 26 عامًا، منها تسعة أعوام بين 1958 و1967 في الخليل والقدس، ومن بينها سنة كاملة في حي الشيخ جراح الذي يحمل عنوان المعركة الحالية. كان أبو رياض جندي لاسلكي، وقد أصيب بجرح في اليوم الثاني من الحرب، وأسر من قبل قوات الاحتلال، وأمضى في «معسكر عِتْليت» مع أسرى آخرين مدة 28 يومًا، وأعيد بعدها ضمن عملية تبادل أسرى بعد توقف الحرب.

كانت زيارتي لأبي رياض بلا موعد مسبق، ولكنه سرعان ما اندفع في سيل من الذكريات وخاصة عن خدمته في القدس. لقد ردد أكثر من مرة قوله إن «القدس ليست مدينة، إنها عالم كامل. لما تْفوتْها صدرك بِنْفَتِح. بِتْشُوف إشي عُمْرَك ما شُفْته. حضارة! وأهلها ولا أحسن منهم». كان متأثرًا وختم حديثه بأنه رغم مرور سنوات طويلة على مغادرته القدس «لكني ما بَوَقفِلْهاش طاري» (بمعنى يتذكرها ويذكرها دومًا).

بعد عودته من الأسر والتحاقه بالجيش مجددًا انتقل للخدمة في عمل إداري، لكنه بالطبع يحمل الكثير من الذكريات عن سنوات المواجهة اللاحقة وما تعرضت له قرية صما من اعتداءات، ويتذكر اليوم بشكل خاص حادثة استثنائية: ففي شتاء عام 1968 كان عائدًا في إجازة إلى قريته برفقة عسكريين آخرين. وقد صادف وهم على مداخل القرية أن هوجمت قاعدة عسكرية عراقية كانت تقيم معسكرها بشكل مجاور تمامًا لقريتهم صمّا. لم تتمكن السيارة التي نقلتهم من دخول القرية فاضطروا للمشي إليها سيرًا على الأقدام. كان القصف شديدًا وقريبًا منهم، ويصف كيف اختبأ مع رفيقه وابن قريته واسمه محمد الغزلان، خلف كوم كبير من الرمل، ولكن رفيقه جُرِح في أعلى ساقه، فربط أبو رياض جرحه بالحطة التي كان يعتمرها وساعده على الوصول إلى مركز إسعاف تابع للجيش العراقي.

انطلق في تذكر أحداث تلك الأيام، وكيف أقام مع جيرانه ملجأً عامًا في إحدى المغارات، ولكنه يقول إن والده، الذي كان حينها في مثل عمره اليوم، رفض أن يدخل أي ملجأ، كما رفض فكرة مغادرة القرية وقال: «بِدّي أقعد على آخر حجر فيها».

واقع الأمر أن حالة انتعاش الذاكرة يمكن ملاحظتها بسهولة هذه الأيام. لقد سبق أن أجريت متابعات مماثلة لما تحمله ذاكرة الناس في تلك المناطق عن تلك السنوات، منها مادّة عن بلدة كفر أسد التي ارتكب فيها العدو مجزرة راح ضحيتها 14 مواطنًا ومواطنة في يوم واحد، وكنت احتاج لبذل جهد في دفع المتحدثين للتذكر والكلام، ولكن هذه المرة تجلّى تبدل المزاج العام على المستوى الشعبي في بلدة صما، بعد أن شعرت أن لها مساهمة في الأحداث، من خلال الشابين مصعب وخليفة. إنهم يرون أن هذين الشابين رفعا اسم بلدتهم من جديد.

آثار شظايا عدوان إسرائيلي على جدران أحد المنازل في صمّا. تصوير أحمد أبو خليل.

لا تزال بعض جدران منازل القرية وجذور بعض الأشجار المعمرة المحيطة بها تحمل آثار شظايا قذائف الاعتداءات الإسرائيلية قبل أكثر من  نصف قرن. لقد أنعشت المقاومة الفلسطينية للمحتل هذه الأيام ذاكرة الناس. ولعلها فرصة مناسبة أمام المشتغلين بمسألة «ثقافة المقاومة» وصورة العدو في ذاكرة الشعوب.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية