«ذمّ وقدح وتحريض على التجمهر»: معلمون حوكموا بسبب منشوراتهم

الأحد 09 أيار 2021
المعلمون محمد سريوة، وبكر القطاونة، وليلى حديدون. تصميم عبير عنبتاوي.

مساء أحد أيام أيلول الماضي، كانت المعلمة ليلى حديدون تجلس مع أطفالها عندما جاءها اتصال هاتفي يستدعيها في اليوم التالي إلى قسم الجرائم الإلكترونية في البحث الجنائي. «قلتله لتكون مخربط بالإسم (..) المخالفة الوحيدة بحياتي إني مش دافعة فاتورة الكهربا، ومتأخرة بترخيص السيارة»، قالت حديدون للمتصل، «شغلة نص ساعة» ردّ عليها.

بدأت حديدون قبل ست سنوات عملها معلمةً للغة العربية في مدرسة أمّ السمّاق الجنوبي، بعدما اغتربت لسنوات في الصين رفقة زوجها وأطفالها الثلاثة، أكبرهم لا يتجاوز اليوم 15 عامًا من عمره. ثم أصبحت المسؤولة الأولى عن المنزل والأبناء إذ سافر زوجها للعمل في تركيا بعدما تعثّرت تجارته في الأردن.

اعتقدت حديدون في البداية أن قضيتها «بسيطة» فذهبت إلى البحث الجنائي بدون محامي، «مين أنا عشان يركزوا عليها؟ معلمة درجة سادسة عليها ثلاث قروض»، تقول حديدون. لكنها فوجئت أن منشوراتها على فيسبوك التي تضامنت فيها مع نقابة المعلمين، وانتقدت تصريحاتٍ لوزير التربية والتعليم السابق، تيسير النعيمي، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، شكّلت ملفًا جُمع فيه 11 منشورًا اعتبرت المحكمة أنها «تسيء بها إلى هيئات رسمية وهي وزارة التربية والتعليم والسلطة التنفيذية»، بحسب قرار المحكمة.

أدانت المحكمة حديدون «بجرم ذمّ موظف رسمي وذمّ هيئة رسمية»، وحكمت عليها بالحبس ثلاثة أشهر.

تستغرب ليلى استدعاءها أصلًا، فمعظم تفاعلها على وسائل التواصل الاجتماعي هو مشاركات أدبية واجتماعية، ولم يكن لها سابقًا تفاعلٌ نقابي يُذكر. «أنا حتى بالانتخابات [النقابية] ما بصوّت، ولا بعرف مين نزل» تقول حديدون، مضيفة أن منشوراتها عن النقابة اقتصرت على تضامنها مع أعضاء مجلس النقابة خلال إضرابهم عن الطعام بعد اعتقالهم أواخر تموز الماضي، «المجلس قاد مطالبنا وانتزع الزيادات (..) مستحيل ما أتعاطف».

نهاية كانون الأول الماضي، أدانت المحكمة حديدون «بجرم ذمّ موظف رسمي وذمّ هيئة رسمية» خلافًا لأحكام المادة 191 من قانون العقوبات مكررًا 11 مرة، وحكمت عليها بالحبس ثلاثة أشهر عن كل جرم، مع تنفيذ إحدى العقوبات فقط لتصبح العقوبة الواجبة النفاذ ثلاثة أشهر.

يتيح القانون للقاضي في مثل هذه الحالات استبدال الحبس بالغرامة المالية، بحسب المحامي إسلام الحرحشي، مدير مركز إحقاق للدراسات القانونية. «قانون العقوبات يعطي صلاحيات للقاضي استبدال السجن بالغرامة المالية (..) إذا لم يتم الاعتراض خلال المدة القانونية» يقول الحرحشي. لم تعترض حديدون على الحكم، تقول: «سكّرت الطابق على أساس استبدال بغرامة وننهي الملف».

لكن، فوجئ مالك أبو عرابي، محامي حديدون، برفض المحكمة طلبه استبدال العقوبة بغرامة مالية. «العرف بيننا إنه أي حكم ثلاث أشهر أو أقل يتم استبداله مباشرة بمبلغ مالي (..) دينارين عن كل يوم سجن»، يقول أبو عرابي.

سريوة والقطاونة: جرائم إلكترونية

تزامنًا مع اعتقال أعضاء مجلس نقابة المعلمين أواخر تموز الماضي، كتب معلم التربية الرياضية محمد سريوة (37 عامًا) منشورات على فيسبوك تضامن فيها مع النقابة، ودعا في أحدها إلى المشاركة في الوقفات الاحتجاجية على الدوار الرابع بالقرب من رئاسة الوزراء.

يصف سريوة نفسه كفاعل في الشأن النقابي، وهو ينشط في مناصرة القضية الفلسطينية في مخيم البقعة حيث يسكن، وسبق أن استدعته الأجهزة الأمنية على خلفية نشاطه هذا. بعد منشوراته عن النقابة، اتصل به شخصان قالا إنهما يريدان الاشتراك في مسبحٍ يديره في المخيم بعد انتهاء دوامه، وما إن وصلا حتى اعتقلاه. «عاد لو رنّولي كان رحت لحالي» يقول سريوة، ليتم توقيفه 32 يومًا قضاها بين سجني السلط وسواقة، قبل أن تقبل المحكمة تكفيله، ليوقفه بعدها محافظ البلقاء أسبوعًا.

يرعى سريوة والدته المقعدة، ويقول إن كل عائلته عاشت حينها حالة من الترقب والانتظار: «يعني أمّي وقت ما كنت موقوف كانت ما ترضى حتى تروح مع صحابي على المستشفى».

لاحقًا أدانته المحكمة، أوائل شباط الماضي، بجرم نشر بيانات ومعلومات عن طريق الشبكة المعلوماتية تنطوي على الذم والقدح والتحقير خلافًا لأحكام المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية، كما أدانته بجرم التحريض على التجمهر غير المشروع وفقًا لأحكام قانون العقوبات، وحُكم بالحبس ثلاثة أشهر. ومثلما حصل مع حديدون، رفضت المحكمة -حينها- طلب أبو عرابي، محامي سريوة أيضًا، استبدال العقوبة بالغرامة.

«المعلم اللي اشتكى علينا حكالي انجبرت أشتكي عليك، حتى راح بعدها تنازل»، يقول القطاونة.

وبعد أيام من صدور الحكم بحقّ سريوة، أدانت المحكمة معلمًا آخر، هو بكر القطاونة (45 عامًا) معلم اللغة العربية في المزار الجنوبي في الكرك. كان القطاونة قد كتب منشورات على الفيسبوك تحدثت عن المعلمين الذين رفعوا قضية على النقابة، فاشتكى أحدهم عليه، لتجد المحكمة أن في أحد منشورات القطاونة ما يسيء للمعلم المشتكي، فأدانته بجرم الذم والقدح والتحقير خلافًا لأحكام المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية، ولمّا كان المشتكي قد أسقط حقه الشخصي أثناء إجراء الدعوى، فقد حكمت المحكمة على القطاونة بعقوبة مخفضة هي الحبس لشهرٍ واحدٍ. «المعلم اللي اشتكى علينا حكالي انجبرت أشتكي عليك، حتى راح بعدها تنازل»، يقول القطاونة.

وكان القطاونة قد اعتقل سابقًا بعد مشاركته مع معلمين آخرين، أوائل آب الماضي، في وقفة احتجاجية في الكرك رفضًا لاعتقال أعضاء مجلس النقابة، إذ تم توقيفه حينها أربعة أيام في سجن الكرك، ثم أوقف ثلاثة أخرى في سجن عين الباشا.

لم يُبلّغ القطاونة بحكم المحكمة رسميًّا بعد، وهو بكل الأحوال لا يقبل به وينوي الطعن فيه بعد عيد الفطر، «هذا معناه إقرار بالعقوبة (..) رح نخليه آخر خيار عنا» يقول المحامي إبراهيم القطاونة، وكيل بكر القطاونة. ومما يزيد في تمسك القطاونة ببراءته ورفضه استبدال العقوبة بالغرامة، هو خشيته من أن تتخذ الوزارة عبر لجانها إجراءات تأديبية بحقه.

يقول المحامي أبو عرابي إن الحكم القضائي قد لا يعفي من المساءلة الإدارية أو الوظيفية: «ممكن الوزارة تشكّل لجان تأديبية وتطلع بقرارات (..) سابقاً في موظفين طلعوا بعفو عام، ورجعوا أخذوا إجراءات تأديبية».

«ارفعوا الظلم عن ليلى»

بعد إصدار الأحكام بحق حديدون وسريوة، رفضت المحكمة أربع طلبات تقدم بها وكيلهما أبو عرابي لاستبدال العقوبة بغرامة مالية، فما كان من حديدون إلا أن شاركت قضيتها على وسائل التواصل الاجتماعي. ثم دعا ناصر النواصرة، نائب نقيب المعلمين، نهاية نيسان الفائت عن «عاصفة إلكترونية» تضامنًا مع المعلمين الثلاثة، رافقها عدة وسومات كان أبرزها «#ارفعوا_الظلم_عن_ليلى»، و«#لا_لظلم_ليلى». وقد وافقت المحكمة الأسبوع الماضي على استبدال عقوبة الحبس بحق حديدون وسريوة بالغرامة.

وقد حاولت «حبر» الحصول على ردٍّ من وزارة التربية والتعليم حول القضايا المرفوعة بحق المعلمين لكن دون استجابة منها.

يرى المعلمون الثلاثة أن منشوراتهم تندرج تحت حقهم في الرأي والتعبير، «بروحوا على الحلقة الأضعف المعلمين والحراكيين (..) هاد [قانون] الجرائم الإلكترونية لازم يلتغى»، تقول حديدون.

ويعتقد باسل الحروب، رئيس اللجنة القانونية في نقابة المعلمين المنحلّة، أن مثل هذه القضايا بحق المعلمين تأتي استمرارًا لسياق التوظيف السياسي لملف النقابة والسعي إلى تأزيمه، «هذا تجاوز للأعراف، مئات القضايا رُفعت، عدا عن القضايا الإدارية الوظيفية (..) هذا تعامل بعقلية أمنية مع الملف، وليس بعقلية دولة»، يقول الحروب.

أمّا النائب بلال المومني، رئيس لجنة التربية والشباب النيابية، فيعتبر أنه من الضروري كفالة حرية إبداء الرأي للمعلمين، لكنه يعتقد أن هذه الحرية يجب أن تكون مقرونة بالمسؤولية و«ملتزمة بالثوابت الوطنية»، قائلًا إن «المعلم موظف عام (..) أحيانًا الانتقاد بوصل مرحلة اغتيال الشخصية، ومو لازم يوصل مرحلة الشخصنة والكلام الجارح».

من جهتها، ترى هديل عبد العزيز، المديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية، أن هناك خللًا أساسيًّا في تعريف «النقد المباح» في المنظومة التشريعية، فقوانين العقوبات والجرائم الإلكترونية لا تراعي حرية التعبير، ولا تفرّق بين الانتقاد لغايات المصلحة العامة عن الذم والقدح والتحقير لمصالح شخصية، قائلةً أن الدستور هو المرجعية في مثل هذه المسائل، والذي تنص المادة 128 منه على أنه «لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر الحقوق أو تمس أساسياتها».

وفي ما يتعلق باتخاذ إجراءات تأديبية من قبل الوزارة بحق المعلمين، يقول المومني إن القرار القضائي يجب أن يكون هو الفيصل، فلا تطال الموظف إجراءات وزارية في حال برّأته المحكمة، ولا يعاقب مرتين في حال إدانته: «لسة ما ناقشنا الأمر مع الوزارة (..) لكن إذا صدر أي إجراء تأديبي رح نتدخل مباشرة».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية