نيران كايل ريتنهاوس: حقوق القاتل والجريمة الأمريكية المستمرة

كايل ريتنهاوس ومحاميه أثناء محاكمته، 18 تشرين الثاني 2021. تصوير شون كراجاكيتش، أ ف ب.

نيران كايل ريتنهاوس: حقوق القاتل والجريمة الأمريكية المستمرة

الأربعاء 08 كانون الأول 2021

في الخامس والعشرين من آب لسنة 2020، حمل الصبي الأبيض ذو السبعة عشر عامًا كايل ريتنهاوس بندقية آلية وذهب بها إلى ساحة المظاهرات المناهضة للعنصرية في وسط مدينة كينوشا بولاية ويسكونسن ليتصدى لـ«أعمال الشغب» و«إشعال الحرائق» ولكي «يحمي الممتلكات والناس» (بهذا الترتيب).   

حدث هذا وسط حملة إعلامية يمينية وحكومية تصور الحركة الاحتجاجية كما لو كانت محض فوضى وتخريب. أراد ترامب وقتها إرسال الحرس الوطني لقمع المتظاهرين وقال مقولته الشهير «متى بدأ التخريب بدأ إطلاق النار»، وعندما لم ينزل الحرس الوطني شعر بعض المواطنين البيض أن عليهم أن يأخذوا الأمور على عاتقهم، تُعينهم ترسانة من القوانين التي تضمن «الحق» في «حمل السلاح» وفي إطلاق النار عند الشعور بالتهديد.

كانت الشرطة الأمريكية قد أطلقت النار قبلها بيومين في المدينة ذاتها على الشاب الأسود جيكوب بليك لتصيبه إصابات بالغة. لم يكن جيكوب بليك مسلحًا ولكن استدارته نحو الضابط جعلت هذا الأخير يشعر بالتهديد ويطلق النار، ثم يتذرع بماضي جيكوب بليك الإجرامي، ويفلت بذلك من المساءلة. هذا المشهد، بتفاصيله التي تبدو جانبية، يضعنا في لب المسألة: كيف يصبح شخص أعزل مصدر تهديد يستوجب إطلاق النار؟ وكيف يصبح من يحمل سلاحًا شخصًا مهدَدًا يحق له إطلاق النار دفاعًا عن نفسه؟

تجددت الاحتجاجات، التي كانت قد بدأت قبلها بثلاثة أشهر بعد مقتل الشاب الأسود جورج فلويد على يد عناصر الشرطة، بعد مقتل جيكوب بليك، وأصبحت كينوشا إحدى بؤر الحركة الاحتجاجية.  وبحسب الرواية الإعلامية، التي تقبلها القضاء فيما بعد، فإن ريتنهاوس الذي كان يحمل السلاح في وجه المتظاهرين شعر بالتهديد. ألقى أحد العُزل المتواجدين في محيط المظاهرة عليه كيسًا بلاستيكيًا ثم حاول أن ينتزع منه سلاحه، فأطلق ريتنهاوس النار وأرداه قتيلا. اشتعل غضب الجماهير (وخوفها من ذلك المسلح الذي يطلق النار عليها، وهو ما لم تأخذه المحكمة في الحسبان) فازداد شعور ريتنهاوس بالتهديد. هاجمه بعضهم وحاول أحدهم أن يصيبه بلوح تزلج وينزع منه بندقيته، فأطلق ريتنهاوس عليه النار وقتله. حاول آخر بعد أن رآه يقتل زميليه، أن يصوب عليه من مسدسه فأطلق ريتنهاوس عليه النار وأصابه. ساد الهرج والمرج وانتشر الغبار وصوت إطلاق النار. هنا أدرك ريتنهاوس أن المكان لم يعد آمنًا بالنسبة له، فانسحب إلى كمين قريب للشرطة. كان واثقا، بحسب روايته هو، من أنه لم يرتكب أي خطأ. ذهب ببساطة لأحد الضباط وقال له: «I just had to shoot somebody» (لقد اضطررت لتوي إلى إطلاق النار على أحدهم)، فقالوا له: «عد إلى بيتك». عاد ريتنهاوس إلى بيته وفي اليوم التالي توجه إلى شرطة ولاية إلينوي المجاورة ليسلم نفسه موقنًا ببراءته. وفي الأسبوع الماضي، في التاسع عشر من تشرين الثاني، حكمت المحكمة لكايل ريتنهاوس بالبراءة من كل التهم الموجهة إليه ورأت أنه كان يتصرف «دفاعًا عن نفسه».

ظهر ريتنهاوس بعدها على عدد من المنصات الإعلامية اليمينية، وكان اللافت، في لقائه على فوكس نيوز على سبيل المثال، غياب أي نوع من الشعور بالذنب أو المسؤولية أو حتى مراجعة الذات في سرده للأحداث التي انتهت بموت رجلين وإصابة الثالث إصابات بالغة. كان يسرد الأحداث كما لو كان يحكي عن نزهة، بينما كان محاوره يحاول أن يصوره كضحية الإعلام الليبرالي والنظام القضائي وضحية الجماهير الفوضوية والعنيفة التي اضطر أن يطلق النار عليها.

كايل ريتنهاوس، يسار الصورة، ليلة إطلاقه النار على متظاهرين في مدينة كينوشا بولاية ويسكونسن، 25 آب 2020. تصوير آدم روغان، أسوشيتد برس.

لا شك أن ريتنهاوس ليس ضحية، وليس هو المجرم الوحيد (يمكننا أن نقول إن الجريمة نُفذت من خلاله، من دون أن يعني هذا تبرئته في نظرنا، وأن نعتبر ذنبه الأساسي أنه سمح لفصل من فصول الجريمة المستمرة ضد الأقليات في الولايات المتحدة أن ترتكب من خلاله). والجرم لا يقتصر على القاضي الذي نطق بالحكم أو هيئة المحلفين التي نطقت به أو حتى مجموعة القوانين التي برأته. كل هذا جزء من منظومة أكبر تضع السلاح في يد الرجل الأبيض وتعطيه الحق في أن يشعر بالتهديد، والحق في أن يحمي ذاته، وأن يطلق النار، وقد تبرّئه حين تصيب هذه النيران أهدافها في مقتل لأنه لم يطلقها إلا لشعوره بالتهديد، ولأن الرجلَ الأبيض في هذا التصور هو سيد النار الذي يعرف أنَّى يوجهها وكيف يُصَوِّبُها.

الحق في حمل السلاح كامتياز أبيض

تكفل المادة الثانية من تعديلات الدستور الأمريكي الحق في حمل السلاح وتكوين تنظيمات مسلحة وتبرر هذا الحق بأن «الميليشيا المنظمة تنظيمًا جيدًا هي ضمانة ضرورية من أجل الدولة الحرة». وإن كان هذا الحق، نظريا، يشمل جميع المواطنين ويهدف، على الورق، إلى أن يجعل الناس وتنظيمهم الشعبي قادرين على فرض توازن قوى على الدولة التي لا تحتكر السلاح، فإن هذا الحق قد مورس تاريخيًا كامتياز عرقي أبيض. ظل هذا الحق، عمليًا، امتيازًا أبيض حتى بعدما امتدت المواطنة نظريا للسكان الأصليين والسود وأصبحوا، أيضًا نظريًا، سواسية أمام القضاء.

 ففي ستينات وسبعينات القرن المنصرم حاولت عدة مجموعات مناهضة للعنصرية أن تمارس هذا الحق لتدافع عن نفسها في وجه العنف المستمر للشرطة؛ وتَشَكَّلَ «حزب الفهود السود» مستغِلًا قانون ولاية كاليفورنيا الذي يستند على التعديل الثاني للدستور ويسمح بحمل السلاح وتشكيل التنظيمات المسلحة ما دام هذا السلاح ظاهرًا. قامت الدنيا؛ واجتمع الجمهوريون والديمقراطيون على مشروع قانون للحد من حقوق حمل السلاح في ولاية كاليفورنيا أيده لوبي السلاح ممثلا بـ«رابطة المسدس الوطنية» المعروفة بتشددها في معارضة أي قوانين تحد من بيع السلاح أو انتشاره، ووقعه حاكم ولاية كاليفورنيا آنئذ رونالد ريجان. هذا بينما لجأت المباحث الفيدرالية (الإف بي آي) إلى سلسلة من العمليات الأمنية العلنية والسرية، بعضها كما تبين كان خارج إطار ما يسمح به القانون، من أجل تقويض هذه الحركة وتفتيتها، وصولًا إلى اغتيال زعمائها داخل السجن وخارجه

مورس الحق في حمل السلاح في الولايات المتحدة كامتيازٍ عرقيّ أبيض حتى بعدما امتدت المواطنة نظريًا للسكان الأصليين والسود.

في المرحلة نفسها نشأت ما بين السكان الأصليين «الحركة الهندية الأمريكية» التي لم تخلُ أنشطتُها من المظاهر المسلحة. ومرة أخرى استنفرت السلطات الأمريكية للقضاء على هذه الظاهرة؛ وصل الأمر إلى حصار الجيش الأمريكي لمحمية «الركبة الجريحة» عام 1973 حيث كانت الحركة الهندية الأمريكية تعتصم بسلاحها. توالت محاولات الإف بي آي لاختراق الحركة وتخريبها من الداخل (بالفعل ستحل الحركة الأم نفسها في عام 1978 إثر الخلافات الداخلية التي أثارها عملاء المباحث الفيدرالية وإن بقيت بعض الأفرع بعد ذلك نشطة). وتصاعد الأمر في محمية «حافة الصنوبر» التي كانت أحد معاقل الحركة، إذ بدأ عملاء السلطة الأمريكية (برعاية رئيس الحكم الذاتي في المحمية) منذ انتهاء الاعتصام في «الركبة الجريحة» بتعقب أعضاء الحركة وترهيبهم وقتلهم. بدأت بذلك سلسلة من أعمال العنف في محمية «حافة الصنوبر» بين أعضاء الحركة الهندية الأمريكية الذين كانوا يدافعون عن أنفسهم، والحكومة الأمريكية وعملائها، انتهت في عام 1975 بتبادل لإطلاق النار سقط فيه قتيلان من رجال الإف بي آي. وما زال ليونارد بيلتييه، الذي كان عضوًا في الحركة الهندية الأمريكية، يقبع في السجون الأمريكية بتهمة قتل رجلي المباحث، بعد محاكمة صورية حكمت عليه بالسجن فترتين مدى الحياة. هذا بالرغم من أنه لا دليل إلى الآن على مشاركة بيلتييه في إطلاق النار في ذلك اليوم (شاهدة العيان التي أكدت للمحكمة وجوده في ساحة إطلاق النار في ذلك اليوم عادت وقالت إنها لا تعرف من يكون). 

ويمكننا هنا أن نقطع عرضنا التاريخي لتدخل السلطات الأمريكية لكي تمنع انتشار الحق في حمل السلاح وتشكيل التنظيمات المسلحة إلى غير البيض، لنتأمل التناقض بين حالة بيلتييه وحالة ريتنهاوس، وكيف يحرم بيلتييه، الذي لا دليل على إطلاقه النار، من محاكمة عادلة ناهيك من الحق في أن يكون قد شعر بالتهديد وأطلق النار دفاعًا عن نفسه، وحالة ريتنهاوس الذي أطلق النار على رؤوس الأشهاد وأمام الكاميرات وقتل اثنين غير آسف ليهنأ بعدها بالبراءة.

الحق في قتل الهندي، الحق في إطلاق النار على الزنجي، الحق في الشعور بالتهديد والدفاع عن النفس

انتشر في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع من فيلم كارتون قديم للأرنب باغز باني وهو يطلق النار على «الهنود الحمر»، الذين يطلقون بدورهم الأسهم عليه، وهو يغني أغنية الأطفال الأمريكية «عشرة هنود صغار» بينما يحصي عدد القتلى. هذا المشهد تكرر في كثير من أفلام الصغار والكبار (ما قبل الصوابية السياسية، وإن كان هذا المشهد ما زال يتكرر في السينما الأمريكية بأشكال أكثر تخفّيا، أو أكثر فجاجة عندما يكون التهديد الذي يستوجب إطلاق النار عليه عربيًا أو مسلمًا كما في الفيلم العنصري «فريق أمريكا: شرطة العالم»). وفي أفلام الكارتون القديمة نرى البطل (الذي عادة ما يكون حيوانا بريئا مثل الأرنب الأبيض باغز باني) محاطا بالأفارقة آكلي لحوم البشر الذين يريدون طبخ بطلنا بينما يعزفون على الطبل إيقاعا بدائيا مخيفا، أو بجحافل «الهنود الحمر» الذين يثيرون الضجيج ويطلقون السهام أو يرقصون رقصة الحرب استعدادًا للمعركة، فيشعر بالتهديد ويضطر إلى إطلاق النار عليهم. المقطع الكارتوني نفسه هو جزء من حلقة عنصرية يجد الأرنب باغز نفسه فيها قائدًا لقوة عسكرية أمريكية في «منطقة هندية» وطوال الحلقة يجد نفسه مواجهًا من قبل جموع السكان الأصليين الفوضوية التي تثير الغبار والضجيج وتطلق الأسهم عشوائيًا (بينما لا يجيدون إطلاق النار كأن بدائيتهم تمنعهم من ذلك) بينما يطلق هو والأمريكيون الآخرون النار عليهم بكفاءة. هذا المشهد يتكرر بنفس التفاصيل في فيلم كارتون للعصفور تويتي (من إنتاج الشركة ذاتها) يسافر فيه تويتي مع صاحبته المسنة في الصحراء فيجدون أنفسهم محاطين بالقطط-الهندية فيشعر المشاهد بالشفقة مع العصفورة والجدة البريئتين واللتين تضطران إلى إطلاق النار على القطط-الهندية.

هذه المشاهد تطبع في عقل مشاهديها (الصغار، وإن كان لها تأثير أيضًا على الكبار) حق الرجل الأبيض (والمرأة البيضاء في بعض الأحيان) أن يحمل السلاح ويطلق النار وأن يشعر بالتهديد من محيطه ويجعل من ذلك مبررًا للعنف الدموي الذي سيمارسه (بشكل ما، هذا نفس منطق الحرب على الإرهاب، ونفس المشهد الذي نجده في أفلام مثل «قناص أمريكي» أو «سقوط النسر الأسود»، ويمكننا أن نستعيد هنا ملاحظة المفكر الكندي سكوت لوريا مورغنسن في أن سياسات بوش الابن كانت تمثل ذروة السياسات التقليدية الأمريكية لا الاستثناء عنها).

لا أظن أن هذا المشهد بالذات كان في عقل ريتنهاوس وهو يطلق النار (وإن كان المشهد الذي يرسمه ريتنهاوس في نهاية روايته للأحداث إذ يفرّ من الجموع الغاضبة التي تثير الضجيج والغبار وتشعره بالخطر، إلى كمين الشرطة، يشبه بالضبط المشهد الذي يفرّ فيه الأرنب باغز من جموع الهنود الحمر الفوضوية إلى فرقة الخيالة الأمريكية التي تظهر فجأة وتلعب دور المخلّص). ما لدينا هنا هو نمط متكرر في الثقافة الأمريكية وفي سينما الكبار والصغار، هذا النمط السائد هو المسؤول عن براءة ريتنهاوس، وهو، وهذا هو الأهم، المسؤول عن وضع ريتنهاوس في الموضع الذي استطاع أن يطلق النار منه بضمير مستريح.

هذا النمط ليس أمريكيًا بحتًا، ولكنه يرتبط بشكل أعمّ بالثقافة الأوروبية وتاريخها الاستعماري، يقول فرانز فانون (الذي تصلح نظرياته لفهم نفسية المستعمِر كما تصلح لفهم نفسية المستعمَر): «قصص طرزان، وحكايات المستكشفين الصغار، ومغامرات ميكي ماوس، وكل القصص المصورة تهدف إلى تفريغ النزعة العدوانية بشكل جماعي. هذه الحكايات يكتبها رجال بيض من أجل أطفال بيض، وهذا هو لب المسألة»، فيصبح قارئ هذه القصص «مستكشفا، مغامرا، أو مبشّرًا، يخشى أن يأكله الزنوج الأشرار». أما في الولايات المتحدة، وفي المستعمرات الاستيطانية عمومًا، فإن هذا النمط يعيد إلى الأذهان تجربة «المستكشف» الأوروبي الذي جاء إلى هذه البلاد غازيًا فوجد نفسه محاطًا بالسكان الأصليين الذين لم يفهمهم ولم يعرف لغتهم فشعر بالتهديد وبادر إلى تقتيلهم (ولهذا ليس غريبًا أن يذكرنا مشهد الصبي ريتنهاوس وهو يطلق النار على المتظاهرين بمشهد «رشاش على مستوطن لم يبلغ العشرين بعد» الذي كان من أوائل المشاهد التي يرصدها الشاعر تميم البرغوثي في القدس). المسألة ليست مجرد الحق في حمل السلاح وإنما أيضًا الحق في الشعور بالتهديد، والحق في أن يصبح هذا الشعور مبررًا للفعل العنيف، ومن ثم دليلًا للبراءة. 

لم تحدْ محاكمة ريتنهاوس عن هذا النمط؛ فقد طلبت المحكمة من هيئة المحلفين أن ينظروا إلى الواقعة، قبل أن يصدروا حكمهم، من وجهة نظر ريتنهاوس، وأن يحاولوا أن يروها بعيون صبي في السابعة عشر لكي يحكموا إن كان منطقيًا أن يشعر بالتهديد أو لا. هذه المركزية الممنوحة للمتهم، هذا الحق في أن يرى الأمور ويشعر بالمشاعر وأن تصبح رؤيته ومشاعره (لا رؤية الضحايا أو مشاعر ذويهم) مركزَ المحاكمة لا تمتد بطبيعة الحال للمتهمين السود أو العرب، ولا للمعارضين السياسيين.

كايل ريتنهاوس وسيّد النار

في بداية المحاكمة، تذرع محامو ريتنهاوس بأنه كان يطلق النار «ضمن ميليشيا منظمة»، هذا الدفاع، الذي يقتبس نص التعديل الثاني للدستور الأمريكي، يسجل، ربما دون قصد، الحق التاريخي للرجل الأبيض في حمل السلاح وتشكيل الميليشيات (ويسجل كذلك التاريخ الذي أقصى الجماعات الأخرى من هذا الحق). ثم أدرك ريتنهاوس أن هذا الدفاع يدينه بأكثر مما يبرئه، ويلمح إلى رابط بينه وبين الميليشيات اليمينية والعنصرية البيضاء. أقال ريتنهاوس بعدها محاميه، خاصة بعد أن ظهرت صورة لريتنهاوس بصحبة أعضاء ميليشيا «الأولاد الفخورون» اليمينية البيضاء وقال إن محاميه هو الذي ورطه في هذه الصورة وإنه لم يكن يعرف من هم هؤلاء ولا يعتقد بما يعتقدون.

قد أُصدق أن ريتنهاوس لا يعتنق عقيدة التفوق الأبيض (بأكثر مما يعتنقها المواطن الأمريكي العادي وتنشرها الأيديولوجيا الحاكمة)، وأنه نزل بدافع فردي لا ضمن ميليشيا عنصرية، وأنه ربما لم يعرف من يكون «الأولاد الفخورون» أو لم يلقِ بالًا للأمر؛ وأُرَجِّح أنه في ذلك الصباح قبل أن يتوجه إلى ساحة المظاهرات في كينوشا لم يقل لنفسه «سأذهب إلى المظاهرة لأقتل الزنوج» وإنما «سأذهب إلى المظاهرة لأدافع عن الممتلكات في وجه الغوغاء كما ينبغي للرجال البيض أن يفعلوا».

ما بين مصطلح «الميليشيا المنظمة» الذي استخدمه محاميه السابق، ومصطلح «الدفاع عن الممتلكات» الذي استخدمه ريتنهاوس بالفعل وتناقله الإعلام (بما فيه الإعلام الليبرالي)، وبين وصف الجماهير بأنها مثيرة للشغب ومشعلة للحرائق العشوائية، يتكرس ميراث تاريخي، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتجربة الاستعمارية،[1] يجعل نيران الرجل الأبيض منظمة ومنتجة.

ينتمي عنف ريتنهاوس إلى العنف السائد الذي أنتجته حضارة الغرب وإمبراطورياته الحديثة، وينتجه المجتمع الأمريكي بمؤسساته.

في رواية روبنسون كروسو، التي مثلت إحدى محطات الميلاد الأدبي للخيال الإمبراطوري الإنجليزي (ومثلت كذلك ميلاد الرواية الإنجليزية)، يرهب كروسو برصاصه الرجال الإفريقيين والفهود السوداء ليثبت بذلك سيادته على بقية المخلوقات. ينقاد الأفارقة بعدها له احترامًا ورَهَبًا، ويَتّخذ كروسو منهم رفيقًا وعبدًا يُسَمّيه «فرايداي» (لأنه وجده في يوم جمعة)؛ وفي معالجة الكاتب اليساري آدريان ميتشل التي تحكي الحكاية من وجهة نظر «جمعة» نرى كروسو متفاخرًا ومتبخترًا بقدرته على إشعال النار وعلى استخدام البنادق ويسمي ذلك «سحر الرجل الأبيض». هذا الميراث نفسه يجعل نيران آخري الرجل الأبيض (بما فيهم الجموع الاحتجاجية سواء كان أفرادها بيض أم سمر) عشوائية ومدمرة. وفي أرشيف العدوان البريطاني على مدينة الإسكندرية عام 1882 في طليعة الغزو الإنجليزي لمصر، يصف الإنجليز نيران الأوروبيين التي كانوا يطلقونها على الوطنيين بأنها كانت نيرانًا «حيوية»، بينما يظهر أبناء الإسكندرية وقادة الثورة العُرابية فوضويين مُشِعلِين للحرائق المدمرة. وبالرغم من أن ضحايا ريتنهاوس الثلاثة كانوا من البيض، فإن وجودهم ضمن مظاهرة مناهضة للعنصرية، وضمن جمع يفقد المنخرطون فيه فرديتهم («فينحدرون في سلم التطور» بحسب وصف غوستاف لوبون الذي ما تزال آراؤه الرجعية عن الجموع وعن التطور سائدة في الفكر الغربي)، جعلهم في مصاف الهمج المخربين، بينما أصبح ريتنهاوس مقابلهم هو ممثل حضارة الغرب التي تطلق النار «الحيوية». 

نفهم من هنا إصرار ريتنهاوس في شهادته وفي لقائه مع فوكس نيوز على أن الجماهير الغاضبة كانت تشعل النيران في السيارات، وأن هذا هو الذي جعله ينزل إلى المظاهرة بسلاحه؛ المسألة هنا ليست فقط التراتبية التي تجعل سيارات بعض الناس أغلى من حياة البعض الآخر وأولى بالحماية، وإنما كذلك تراتبية النار التي تجعل نار ريتنهاوس «حيوية» وإن قتلت، ونار المحتجين مدمرة وإن لم تطل إلا الجماد. هذه التراتبية تفسر تفصيلة عبثية في سرد ريتنهاوس للأحداث إذ يقول إنه حضر بسلاحه إلى المظاهرة من أجل إسعاف المصابين، وإنه بعد أن أطلق النار على أحد ضحاياه أراد أن يقدم له إسعافًا لكن الجماهير الغاضبة حالت دون وصوله إلى ضحيته لينقذه (فنيرانه بحسب التصور السائد هي نيران «حيوية» تسير هي والإسعاف جنبًا إلى جنب). نفهم من هنا أيضا مغزى إصرار ريتنهاوس على التَذكِرة، في الدقيقة الأولى من شهادته أمام المحكمة وفي لقاءاته التلفزيونية يذكّر بأنه تلقى تدريبًا كرجل إطفاء (أو «محارب حريق» بحسب التعبير الإنجليزي)؛ فمحاربته للجموع وإطلاقه النار عليها هو محاربة للحريق (الذي تمثله هذه الجموع وتشعله).

النار الإمبراطورية

هذه التراتبية ما بين النار الحيوية والمنتجة، والنيران المميتة والمخربة؛ بين سيد النار الأبيض، الذي يعرف كيف يشعلها ويوجهها، وبين آخريه الذين إن أشعلوا النار استحالت في أيديهم آداة حرق وتخريب؛ بين الصاروخ الموجه، وبين الإرهابي الذي يتفجر ذاتيًا فيحرق نفسه والآخرين، (والتي ترتبط كذلك بتخيل النار أول اختراع للإنسان الأول، وبالتي هي ما ميز بينه وبين الحيوانات، ووضعته على أول طريق التطور والحضارة الذي لم يقطعه إلى آخره، بحسب تصوراتهم العنصرية والثقافوية، إلا الرجل الأبيض) ورثتها الإمبراطورية الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية. 

يحكي «كتاب الأدغال»، في نسخته الأصلية التي كتبها روديارد كيبلنج، المؤمن بـ«عبء الرجل الأبيض» والدور الحضاري للإمبراطوريتين البريطانية والأمريكية، والذي يمثل الجهاز الثقافي للإمبراطورية البريطانية خير تمثيل؛ وفي الفيلمين اللذين أنتجتهما شركة والت ديزني، التي تمثل بدورها الجهاز الثقافي للإمبراطورية الأمريكية خير تمثيل، حكاية مشابهة عن ارتقاء ابن الإمبراطورية من خلال تعلمه التحكم في النار؛ إذ يبدأ انفصال الطفل البشري موغلي عن الأدغال حيث تربى حين يتعلم أن يحمل جذوة النار ويرهب بها بقية المخلوقات. ولكن موغلي، الهندي والمراهق، لا يجيد توجيه النار بدقة كما يفعل الرجل الأبيض البالغ، فيشعل (في النص الأصلي وفي الفيلم الأحدث) النيران في الطريق مما يدل على رجولة مراهقة وغير مكتملة، ثم يغادر الأدغال مع تهديد أنه إن عاد فسيعود إلى الأدغال صيادًا. وبالرغم من أن ريتنهاوس يقدم نفسه سيدًا للنار ومتحكمًا في سلاحه الناري فإن المحكمة عندما نظرت إلى الأحداث من منظور «صبي ذي سبعة عشر عاما» فقد هيأت نفسها لكي تبرر إطلاق النار من باب أنه كان إطلاقًا متسرعًا من قبل صبي ما زال في طريقه إلى أن يصبح سيد النار.

من هنا نجد أن عنف ريتنهاوس لا ينتمي بالضرورة إلى العنف المتطرف على هامش المجتمع الأمريكي الذي تمارسه، على سبيل المثال، الحركات التي تجاهر بتبنّيها لتفوّق العرق الأبيض، وإنما إلى العنف السائد الذي أنتجته حضارة الغرب وإمبراطورياته الحديثة، وينتجه المجتمع الأمريكي بمؤسساته. العنف الذي مارسه ريتنهاوس ينبع من إعجابه بالشرطة، الذي يعبر عنه في كل مناسبة، وتمنيه أن ينضم ذات يوم إلى عدادها، وإيمانه (الذي عبر عنه بشكل ما في لقائه مع فوكس نيوز) بأن نزوله بسلاحه ليرهب المتظاهرين لم يكن إلا تكملة لدور قوى الأمن. وقد تلقى ريتنهاوس بالفعل تدريبًا ضمن برنامج لإعداد المراهقين لكي ينضموا إلى الشرطة عندما يكبرون (مما يجعلهم عمليًا قوة رديفة للشرطة النظامية). وكما يعد روديارد كيبلنج في «كتاب الأدغال» بأن موغلي سيتعلم أن يلجم نيرانه فيصبح ذات يوم صيادا، فإن تبرئة ريتنهاوس كأنها وعد بأن نيرانه المتسرعة ستنتظم ذات يوم ربما ضمن القوى الأمنية أو العسكرية الأمريكية وتمارس دورها في تأديب وترهيب العناصر الهمجية داخل الولايات المتحدة أو خارجها. 

  • الهوامش
    1. أناقش، في ورقة بحثية صادرة حديثًا، بعضًا من تاريخ تراتبية النار وارتباطها بعقيدة التطور والتجربة الاستعمارية وكيف تمثلت هذه التراتبية في عدة مواجهات ما بين الاستعمار وضحاياه كان آخرها ما حدث في كينوشا. الورقة بعنوان The Threshold of Fire: Man the Shooter, and his Subhuman Incendiary Other ونشرت في دورية «الفلسفة الجذرية» Radical Philosophy في 6 كانون الأول.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية