هل يحسم الاقتصاد نتيجة الانتخابات التركية؟

الأربعاء 01 شباط 2023
أردوغان
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. تصوير تيموثي أ.كلاري. أ ف ب.

هذه ترجمة بتصرّف عن المقال الذي نشر للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة نيو ليفت ريفيو، بتاريخ 23 كانون الثاني 2023.

اتسمت السياسة الاقتصادية التركية، منذ العام 2019، بتحولات أردوغان المتكررة. في البداية، تبنى نظامه برنامجًا يقوم على أسعار الفائدة المنخفضة والتوسع الائتماني، مخالفًا بذلك العقيدة النيوليبرالية، بغية تعزيز الدعم السياسي له في أوساط الشركات الصغيرة والمتوسطة (SMEs)؛ وهو الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمة الليرة، وارتفاع معدلات التضخم وزيادة عجز الحساب الجاري والديون الخارجية، نظرًا لاعتماد تركيا الكبير على الواردات. ثم في محاولة لموازنة هذه التأثيرات، ركزت الحكومة على برنامج نيوليبرالي تقليدي؛ تمثّل في إيجاد أسعار فائدة عالية لجذب رأس المال الأجنبي واستقرار قيمة الليرة التركية، وترافق ذلك مع انكماش الائتمان من أجل محاربة التضخم والمديونية. ورغم ذلك، ونتيجة لأن سياسات من هذا القبيل تجعل القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية عرضةً للخطر، فقد عاد الحزب مرارًا لاتباع نهجٍ بدعيّ، يتذبذب جيئة وذهابًا، وهو ما يحلله أوميت أكجاي

ما دام الاقتصاد التركي مدمجًا في النظام الاقتصادي النيوليبرالي العابر للأطلسي، فمن الجلي أن تعرّجات أردوغان لا بدّ منها. لقد تعذّر التوفيق بين الاستراتيجية الملحة للحفاظ على صمود الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال السياسات الاقتصادية التوسعية، في ظل مكانة الدولة ضمن السوق العالمية. ومع ذلك، يبدو في الآونة الأخيرة أنّ تخليًا حصل عن هذه الحركة المتذبذبة لصالح التزام راسخ بالاقتصاد البدعي. خُفضت أسعار الفائدة للبنك المركزي، منذ ربيع 2021، إلى الحد الذي يجعل أسعار الفائدة الحقيقية الآن تمتد لتصل إلى المنطقة السلبية (تقترب من 80% في أدنى مستوياتها). كما أن ودائع الليرة التقليدية، التي تحتفظ بها الغالبية العظمى من السكان، تسفر عن خسائر فادحة. ومن ناحية أخرى، توّسع الائتمان التجاري والاستهلاكي بصورةٍ هائلة. 

وكما كان متوقعًا، مكّنت هذه الإجراءات تركيا من تحقيق معدلات نمو عالية في 2021، غير أن كلفة ذلك تمثلت في انخفاض قيمة الليرة والتضخم الهائلين. لقد أخفى معدل النمو المرتفع الانخفاض الجسيم في مستويات المعيشة لغالبية السكان، الذين لم تواكب دخولهم التضخم رغم الإجراءات التعويضية المتبعة مثل رفع الحد الأدنى للأجور وضبط الأسعار والتخفيضات الضريبية. أدت هذه الديناميكية إلى تحول اقتصادي بحلول نهاية عام 2021، إذ لم تعد الشركات قادرةً على إجراء حسابات سليمة للأسعار، كما خسرت في العقود التجارية المقوّمة بعملة أجنبية. لقد جرى تفادي كارثة اقتصادية شاملة بشق الأنفس، وذلك حين أعلن أردوغان ما كان يعد في الأساس ضمانًا من الدولة للودائع التحوطية من النقد الأجنبي في 20 كانون الأول 2021. 

وبعد ذلك بمدة وجيزة، طرح بنك تركيا المركزي ما يسمى بـ«استراتيجية الليرة»، التي تنطوي على آليات مراقبة النقد الأجنبي الفعلي؛ من خلال تقييد الوصول إلى قروض البنك المركزي التركي للشركات التي تمتلك مبالغ ضخمة من النقد الأجنبي، وكذلك حظر استخدام العملات الأجنبية في التعاملات المحلية، وخلق حوافز للبنوك للتحول إلى ودائع الليرة التركية. جاء هذا بغية تعزيز طلب القطاع الخاص على الليرة التركية وإبقاء انخفاض قيمة العملة تحت السيطرة. لكن نظرًا لعدم وجود تغييرات هيكلية عميقة في الاقتصاد التركي، فإن كل العلل الناجمة عن هذا النهج البدعي -كانخفاض قيمة العملة وارتفاع التضخم وارتفاع عجز الحساب الجاري- عادت أو استمرت. لكنها ترافقت، هذه المرة، مع ارتفاع الفائدة والدين.

كان أردوغان، بغض النظر عن زلاته المتعددة، بارعًا في الحفاظ على الصلة الهوياتية بين حزبه وقاعدته، بالإضافة لبرنامجه الشعبوي وبرنامج إعادة توزيع الدخل والثروة قصير الأمد.

لقد أفضى ذلك إلى ظهور مفارقة اقتصادية أشد فتكًا. بدأت تركيا، على مدار عام 2022، باختبار سلسلة من «الإجراءات الاحترازية الكلية» لاحتواء الأزمة، مثل ضوابط رأس المال الفعلي -كالعقوبات الاقتصادية المفروضة على البنوك التي تمنح قروضًا بمعدلات فائدة تزيد عن 30%- لتعزيز الإقراض منخفض التكاليف بالليرة التركية للقطاع الخاص. ورغم تباطؤ انخفاض قيمة العملة نتيجةً لاستراتيجية الليرة، إلا أن معدل التضخم ظلّ أعلى من معدل انخفاض العملة، وذلك بسبب التأثير المتأخر لخفض قيمة العملة على التضخم والضغوط التضخمية الناجمة عن الاقتصاد العالمي. أدى هذا، بدوره، إلى ارتفاع القيمة الفعلية لليرة التركية. 

وبعبارة أخرى، لقد آلت سياسات أردوغان إلى نقيض مبتغاها تمامًا. وارتفع سعر سلع التصدير عوضًا عن تخفيضه. وبالمثل، ترافق خفض سعر الفائدة مع تباطؤ هائل للإقراض من قبل البنوك الخاصة، التي شهدت تقلصًا في هوامش ربحها وتبارت لتعويض الآثار الناجمة عن سياسة الحكومة. ولم تتم موازنة ذلك سوى بارتفاع آخر في الإقراض العام في خريف عام 2022.

لذا، فإن الاقتصاد التركي سيظل كالمستجير من الرمضاء بالنار. فحزب العدالة والتنمية في حيرة من أمره بشأن فرض تدابير نيوليبرالية تصحيحية؛ إلا أنه عاجز عن صياغة بديل قابلٍ للتطبيق. وبحلول الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستجري في صيف 2023 على أبعد تقدير، تصبح الهيمنة الحكومية أكثر جلاءً. وفي ظل هذا الظرف، تكشفت ثلاثة مسارات متمايزة: أولها مزيج من السياسات الاقتصادية المرتجلة وتوطيد السلطوية، وهو المسار الذي تفضله الحكومة؛ والثاني إصلاح نيوليبرالي شامل، تفضله قطاعات من رأس المال والمعارضة الرئيسية؛ والثالث برنامج الإصلاح الشعبي الديموقراطي، وهو المسار الذي يحبذه اليسار.

تمثل النهج الضمني في سياسة أردوغان الجديدة في استراتيجية «التصنيع لإحلال الواردات»، التي تسعى لتعزيز الاستثمار الصناعي في ظل التكاليف الباهظة للاستيراد، إلى جانب التكلفة المنخفضة لتمويل الاستثمارات ومزايا التكلفة الناتجة عن انخفاض قيمة العملة وانخفاض أسعار الفائدة أيضًا، وهو ما يفترض أن يمهد الطريق أمام تركيا للخروج من معضلة فرط الاعتماد على السوق العالمية. ومع ذلك، من غير المرجح أن يتحقق هذا المطمح، لكون نجاحه يعتمد على تخطيط و/أو استراتيجية استثمار تقودها الدولة؛ الأمر الذي لطالما كانت شديدة العوز إليه. ربما يكون دقيقًا وصف التحول البدعي الأخير لتركيا بأنه محاولة أخرى لإدارة الأزمة عوضًا عن الانتقال إلى نظام تراكم جديد؛ الغرض منه حماية قطاعاتٍ كبيرة من السكان، لا سيما أولئك العاملين في الشركات الصغيرة والمتوسطة، من آثار السقوط الحر للاقتصاد، لكسب وقت لصالح حزب العدالة والتنمية حتى الانتخابات العامة القادمة.

سيترتب على العودة للسياسة النيوليبرالية الاقتصادية البدعية تكاليف سياسية أكثر بكثير من أي نهجٍ يسعى للحد من آثار الأزمة على الشركات الصغيرة والمتوسطة والاستهلاك المحلي عن طريق تدبر أمورهم بكل بساطة. على سبيل المثال، قد تختار الشركات الصغيرة والمتوسطة ذات الأداء العالي، والتي تشعر أن باستطاعتها تحمل الضغوط التنافسية للسياسة النقدية البدعية، التحالفَ مع الرأسماليين المطالبين بتوسيع دور تركيا في الاقتصاد العالمي. وفي واقع الأمر، شرعت فصائل رأس المال الأقرب لحزب العدالة والتنمية -وأغلبها ذات توجه تصديري مع اعتماد أقل على الواردات- بالفعل في انتقاد الحكومة لخفضها الفاشل لسعر العملة.

وحتى الآن، لم تُنجز قطيعة حاسمة بين تيارات رأس المال الرائدة وبين نظام أردوغان؛ حيث لا تزال معظم القطاعات تحقق أرباحًا عالية (فقد شهدت البنوك زيادة ضخمة بلغت خمسة أضعاف)، والفضل يعود بذلك جزئيًا إلى خفض الأجور الناتج عن التضخم. لكن توسياد، رابطة الصناعة والأعمال التركية، وهي رابطة الأعمال الرائدة في البلاد، باتت أكثر صراحةً في مطالبتها بإعادة فرض سياسات نيوليبرالية، بهدف يطمح في نهاية المطاف إلى تعزيز مركزية تركيا في سلاسل الإنتاج العالمية. كما تدعو أيضًا إلى التحول من سلطوية حزب العدالة والتنمية والتوجه نحو نموذج يضمن مزيدًا من الحريات المدنية والتوازنات الدستورية، للحد مما تعتبره آثارًا لزعزعة الاستقرار الاجتماعي بسبب النظام الحالي.

ولمّا تباينت مصالح حزب العدالة والتنمية باطراد عن مصالح رأس المال الكبير، وصل الصراع بين النظام وخصومه السياسيين إلى ذروته كذلك. إذ تظهر استطلاعات الرأي بأن المزاج العام منقلب ضد الحزب الحاكم، وأن فوزه في الانتخابات القادمة أمرٌ بعيد المنال. دفع هذا كتلة المعارضة، بقيادة حزب الشعب الجمهوري، إلى مواصلة هجومها. غالبًا ما يعني هذا محاولة الالتفاف على أردوغان وحلفائه باستغلال القومية والشوفينية التركية. قدمت المعارضة، حال وصولها إلى السلطة، وعودًا بملاحقة اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى وطنهم، وسيترافق ذلك مع حرب شاملة على حزب العمال الكردستاني. كما تعهد وزير الاقتصاد المحتمل، علي باباجان، بمواصلة حظر الإضرابات. وما يزال التكتل حازمًا ضد أي شكلٍ من أشكال الحشد الشعبي. كما أكد زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال قلجدار أوغلو أن «المعارضة النشطة شيء، والنزول إلى الشوارع أمرٌ آخر (..) لدينا رغبة واحدة فقط هي أن يبقى شعبنا هادئًا قدر الإمكان، على الأقل حتى يحين موعد الانتخابات». 

تهدف المعارضة إلى إعادة تأسيس نظام نيوليبرالي على نطاق واسع، وتطهير هيكله الرئاسي الأعلى الحالي، بالإضافة إلى دمج بعض العناصر السلطوية والأيديولوجية والقومية المرتبطة بحزب العدالة والتنمية وأسلافه، مع المضي قدمًا في تسريح السكان ونزع الطابع السياسي عنهم. وستكون هذه المساومة بمثابة المقدمة لتحقيق أي قدرٍ ضئيل من الإصلاح الديمقراطي. 

هل بمقدور هذه الرؤيا، غير الملهمة، أن تنجح في تهييج الناخبين للإطاحة بالرئيس؟ تظهر الاستطلاعات قدرًا عاليًا من الاستياء من الحكومة، لكنها تشير أيضًا إلى الارتياب من المعارضة. كان أردوغان، بغض النظر عن زلاته المتعددة، بارعًا في الحفاظ على الصلة الهوياتية بين حزبه وقاعدته، بالإضافة لبرنامجه الشعبوي وبرنامج إعادة توزيع الدخل والثروة قصير الأمد (بما في ذلك دعم الفواتير المنزلية ورفع الأجور والإسكان الاجتماعي وبرنامج الائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة الذي تقوده الدولة). قد تكون هذه أسبابًا كافية لإبقائه في السلطة. حيث تظهر أحدث استطلاعات الرأي ارتفاعًا طفيفًا لصالح حزب العدالة والتنمية بعد الإعلان عن إجراءاتٍ كهذه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية