لماذا لا يستطيع اليوان أن يحل محل الدولار

من موقع شترستوك

لماذا لا يستطيع اليوان أن يحل محل الدولار

الخميس 27 نيسان 2023

في شباط الماضي نشرت وزارة الخارجية الصينية تقريرًا بعنوان «الهيمنة الأمريكية ومخاطرها». يفند الصينيون في ذلك التقرير محاور الهيمنة الأمريكية المختلفة، العسكرية والاقتصادية والسياسية. وفيما يتعلق بالهيمنة الاقتصادية، يقول التقرير إن الصين ترى «هيمنة الدولار الأمريكي المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار وعدم اليقين في الاقتصاد العالمي»، وذلك ليس جديدًا، فلدى الصين -وغيرها من الدول- انتقادات حول هيمنة الدولار منذ سنوات مضت. لكن تلك الانتقادات تفتقد لنموذج حقيقي طويل المدى لاستبدال الدولار، أو بمعنى أصح، لا يمكن التفكير خارج فخ الدولار في الوقت الحالي لعدد من الأسباب والعوامل الهيكلية المرتبطة بوضعية الرأسمالية المعولمة الحالية، والتي تهيمن الولايات المتحدة بشكل كبير على قطاعها المالي، الذي أخذ يتوسع في العقدين الأخيرين بشكل كبير على حساب الاقتصاد الحقيقي.

تبدو هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي فخًا ومشكلةً كبيرة تكلف الكثير من الدول ثمنًا غاليًا، على شكل أزمات عملة متكررة، وبالأخص الدول النامية. لكن لم تنجح الانتقادات الصينية والروسية الجديدة، ولا حتى الانتقادات الأوروبية واليابانية في الثمانينيات في إزاحة الدولار عن عرش الاقتصاد العالمي. يبدو أن الصين تدرك ذلك أيضًا، إذ يعتمد نموذج تدويلها الحالي لليوان على زيادة استخدامه في التجارة العالمية، والتسويات التجارية باليوان أو محاولة استحداث نظام معلومات بنكية بديل لنظام سويفت الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاءها، ويمكنها من خلاله أن تفرض عقوبات مالية وبنكية مؤلمة على من يقف أمام السياسات الأمريكية في أي منطقة في العالم.

لكن هل يمكن فعليًا الهروب من فخ الدولار، وهل يمكن لليوان أن يستبدل بالدولار كعملة احتياطية عالمية؟ هل يمكن أن تستبدل التبعية للتكتلات التجارية الإقليمية بالدولار عملات مختلفة في عمليات التبادل التجاري وتسوية المدفوعات البنكية وغيرها؟

سأسعى في هذا المقال للإجابة عن هذه الأسئلة، ليس كمحاولة لاستشراف المستقبل -وهو شيء شديد الصعوبة-، ولكن كمحاولة لفهم اللحظة الحالية وما يمكن أن تتضمنه الشروط اللازمة لاستبدال هيمنة الدولار، وتحديدًا من قبل الصين؟

الجميع لا يريد هيمنة الدولار

اليوم، على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، والتغيرات الجيوسياسية في علاقة الولايات المتحدة بكثير من الدول حول العالم، لا تريد دول كبرى مثل الصين والهند وروسيا وغيرها أن تجد نفسها أو شركاتها تحت طائلة العقوبات الأمريكية في المستقبل، ولا تريد لأصولها المستثمرة في المركز الرأسمالي -تحديدًا في أوروبا والولايات المتحدة- أن تخضع للتجميد. كما يمكننا أن نفهم التحركات الصينية الأخيرة لوضع اليوان على رادار العملات العالمية، سواء من خلال استخدامه في تسوية المعاملات التجارية بين الصين وشركائها التجاريين، أو من خلال الحديث عن تسعير البترول، السلعة الأهم حاليًا في الاقتصاد العالمي باليوان، وإطلاق عصر البترو-يوان.

بدأ التذمر من هيمنة الدولار منذ منتصف الستينيات، حتى قبل إنهاء الرئيس الأمريكي نيسكون لقاعدة الذهب في عام 1971، والذي عنى أن الولايات المتحدة صار بإمكانها وبحرية أكبر أن تطبع المزيد من الدولارات. مع عودة الاقتصادات الأوروبية واليابان لتحقيق معدلات نمو مرتفعة وميزة تصنيعية جيدة، حاولت هذه الدول الدفع باتجاه إنهاء الهيمنة الأمريكية التي ترسخت بعد الحرب واتفاق بريتون وودرز، الذي كان شرطًا لمشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. في عام 1965، صك وزير المالية الفرنسي، فاليري جيسكار ديستان، والذي أصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية الفرنسية، مصطلح (Privilège Exorbitant) أو الامتياز الباهظ، للتعبير عن الوضعية الاستثنائية للدولار والولايات المتحدة، والتي تعني ببساطة أن الولايات المتحدة ليست كما بقية دول العالم عرضة لحدوث أزمات في الميزان التجاري أو ميزان المدفوعات، لأن عملتها هي العملة الاحتياطية للعالم. وبالتالي إذا حدث عجز في ميزان المدفوعات، فإن ذلك لا يمكن أن يشكل أي خطر على مستويات معيشة المواطن الأمريكي، لأنه ببساطة لن يتطلب تخفيضًا مستمرًا في قيمة العملة من أجل سد ذلك العجز عن طريق زيادة تنافسية الصادرات، وجعل الواردات أغلى بالعملات المحلية.

ثمة العديد من العوامل الأخرى التي تجعل النقاش حول نهاية هيمنة الدولار شديد العقلانية، بل وتصبح أكثر إثارة مع الوقت، فبعيدًا عن العقوبات التي تدفع البنوك المركزية لمراكمة احتياطيات من الذهب أو العملات الأخرى، تلعب الديون الأمريكية المتزايدة دورًا في التفكير في البديل. فمع ارتفاع الدين الفيدرالي والنقاشات السنوية حول رفع سقف الديون في الكونجرس، وما يتطلبه ذلك من معارك مطولة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يفكر الجميع في أن الولايات المتحدة تفقد هيمنتها. ارتفع الدين الفيدرالي الأمريكي من 31% في بداية الثمانينيات لما يقرب من 120% حاليًا من الناتج المحلي، وهذا الارتفاع المستمر يعني نظريًا أن الدولار يصبح عملة أضعف. إذ كلما زادت الديون الحكومية الأمريكية فإن ذلك يعني إصدار المزيد من الديون من أجل تسديد الديون القديمة، وذلك فعليًا ما يسمى بطباعة الأموال، لأن العجز المستمر في الميزانية الأمريكية يجب في النهاية أن يموّل من خلال إصدار ديون ثم إعادة شراء تلك الديون عبر إصدار ديون جديدة وهكذا.

وضعت أيضًا المعجزة الصينية ومعدلات النمو الاقتصادي في العقدين الماضيين المزيد من الضغوط حول وضعية الدولار، فالاقتصاد الصيني أصبح على بعد سنوات قليلة من تجاوز الولايات المتحدة كأكبر ناتج محلي في العالم، وبالتالي من مصلحة الصين أن تبحث عن بديل للدولار أو على الأقل أن تجد لعملتها وضعًا أفضل في الاقتصاد العالمي. أيضًا، خلال السنوات الماضية، نرى الكثير من التحركات من دول كبرى للاعتماد على عملات أخرى في التجارة البينية، آخرها كانت الاتفاقات على العملة المشتركة بين البرازيل والأرجنتين، أكبر دولتين في أمريكا اللاتينية، «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة. كذلك، فالصين توسع من تحركاتها لاعتماد اليوان كعملة للتبادل التجاري بينها وبين شركائها التجاريين في جنوب شرق آسيا، وحتى أنها تحاول أن تصنع لنفسها بترو-يوان من خلال تقييم أسعار البترول باليوان، بما أنها المستهلك الأكبر للبترول. كذلك دول البريكس (BRICS) وهو تجمع اقتصاديات كبرى في العالم تضم الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، أعلنت نيتها إطلاق عملة تحل محل الدولار الأمريكي.

الجميع إذن يتحدث عن نهاية هيمنة الدولار، وعن عالم ما بعد الدولار، والمثير أن ذلك الحديث يخرج من أطراف شديدة التناقض، من الصين بوصفها قوة اقتصادية كبرى في العالم منذ ما يزيد عن عقدين، ومصنع العالم بكل ما يحمله ذلك من ثقل اقتصادي، ومن روسيا التي تريد إعادة بناء مجال حيوي استراتيجي لها في آسيا وشرق أوروبا، وحتى من اليمين المحافظ في الولايات المتحدة الذي يرى تهديدًا حقيقيًا لسطوة الدولار العالمية بوصفه عملة التجارة الدولية والاحتياطي النقدي في العالم، بسبب سياسات التيسير الكمي وأزمة الديون الأمريكية المتزايدة.

في كتابه الصادر عام 2012، بعنوان «فخ الدولار: كيف عززت الولايات المتحدة من قبضتها على النظام المالي العالمي»، يحلل إسوار براساد، أستاذ سياسات التجارة بجامعة كورنيل تلك المعضلة. يعترف الكاتب بالحاجة للخروج من فخ الدولار، وتنويع الاعتماد على عملات أخرى كجزء من احتياطيات الدول، وبالأخص الدول النامية، لكنه في الوقت ذاته يرى ذلك أمرًا بعيد المنال، بل يمكن القول إنه مستحيل في المستقبل المنظور، لأنه ببساطة لا يوجد بديل عن الدولار، إذ خلال العقود الخمسة الماضية، كان الدولار هو الملاذ الأمن في أوقات الأزمات التي تعصف بالاقتصاد العالمي.

وبالتالي، بما أن النسخة الحالية من الرأسمالية المالية مبنية دائمًا على احتمالية الأزمة بسبب الفقاعات المالية المنتشرة في كامل النظام الاقتصادي، من سوق العقارات إلى السندات إلى الأسهم، فإن تلك الدائرة من الاعتماد على الدولار تغذي نفسها، وتصبح الوضعية الاستثنائية للدولار في تلك الحالة نبوءة ذاتية التحقق (Self-Fulfilling Prophecy)، بمعنى أنه كلما حدثت أزمة حتى داخل النظام المالي الأمريكي، كان ذلك دافعًا أساسيًا للمزيد من الطلب على الدولار كعملة احتياطية عالمية، إذ يريد الجميع في وقت الأزمة أن يضع أمواله في دولة يمكنها أن تتدخل كما يتدخل الأمريكيون وتضخ نصف تريليون دولار كما حدث في أزمة عام 2008 لضمان استقرار النظام المالي.

التنافس الصيني الأمريكي

تشتعل حدة التنافس الصيني الأمريكي في كل شيء، من الحرب التجارية التي بدأتها الولايات المتحدة مع ترامب، وحتى محاولة الأمريكيين حصار الصين وطموحاتها في بحر الصين الجنوبي، إلى حرب الرقائق الإلكترونية الأخيرة، والتي منعت فيها الولايات المتحدة الصين من الحصول على تكنولوجيا متطورة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من الرقائق الإلكترونية. وفي هذا السياق تطرح فكرة أن يصبح اليوان عملة عالمية، لكن ليس معروفًا ما الذي يريده الصينيون حقا، هل يريدون أن يستبدل اليوان الدولار كعملة احتياطي عالمي أم يريدون تنويعًا أكبر لسلة الاحتياطات العالمية من العملات الأجنبية، أم يريدون استخدامًا أكبر لليوان في التجارة الدولية بديلًا عن هيمنة الدولار الحالية.

تبدو إذن استراتيجية الحزب الشيوعي والدولة الصينية غير مفهومة إلى حد كبير. على الأقل على المدى الطويل والاستراتيجي، يمكننا أن نفهم طموح الصين في تعزيز استخدام اليوان في التجارة البينية بينها وبين الدول المحيطة لها على أنه محاولة لتدويل استخدام اليوان، وما يمكن أن يجلبه ذلك من ميزات اقتصادية للاستثمارات الصينية في الخارج، وخاصةً مع مشروعات كبرى مثل الحزام والطريق يمكننا أن نفهم سعي الصين لتسعير البترول الخليجي باليوان، أو إطلاق ما سمي بالبترو-يوان كمكافئ للبترو- دولار على أنه هدف مهم، فتسعير سلعة مهمة كالبترول باليوان يمكنه أن يمنح الصين، أكبر مستهلك للبترول في العالم، ميزة اقتصادية كبرى، ويجنبها الارتباط بالدولار في توفير المواد الخام لقطاعها الصناعي، وعلى رأسها الطاقة. لكن لا يبدو أن لدى الصين رؤية طويلة المدى لإحلال اليوان محل الدولار، لأن ذلك يتطلب أن تتخلى الصين عن نموذجها الاقتصادي الحالي كليًا من أجل أن يستبدل اليوان الدولار، والاستبدال هنا بمعنى تحقق وضعية الدولار الحالية كعملة احتياطي عالمي، تشغل ما يقرب من 58% من مجمل الاحتياطات الدولية لدي البنوك المركزية في العالم، بل وأيضًا كعملة استثمار مستقرة تقوّم من خلالها الأصول المالية، مثل السندات والأسهم، وتجعل السوق المالية الصينية مكافئة لوول ستريت.

الوضعية الاستثنائية للدولار

بُنيت العولمة الاقتصادية على تسهيل حركة رؤوس الأموال من المركز الرأسمالي (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) نحو الأطراف، من أجل استغلال فائض العمل الموجود في تلك الدول، وتحقيق هوامش أكبر للربح بالنسبة للمركز الرأسمالي. كانت الصين، وغيرها من دول جنوب شرق آسيا هي درة التاج في رحلة صعود النسخة الحالية من العولمة. ولكن بالتوازي مع تلك العولمة وجبَ وجود عولمة مالية، ليس بالشكل المتطرف الحالي، والتي تزيد فيه حصة الديون والقطاع المالي عن الاقتصاد الحقيقي، ولكن عولمة مالية تضمن استثمار الفوائض المالية المتكوّنة في الجنوب، وتحديدًا في الصين وجنوب شرق آسيا.

كانت تلك الرحلة التي يُستغلّ فيها فائض العمل في الجنوب العالمي ودول الأطراف من أجل إنتاج فائض من القيمة يستثمر لاحقًا في المركز الرأسمالي، سمة مؤسسة في الوضعية الرأسمالية الحالية، ومميزة للكثير من المناطق في العالم، بدايةً من الفائض الصناعي الصيني الضخم الذي انعكس في معدلات تشغيل ورفع نسبة ضخمة من سكان هذا البلد من تحت خط الفقر، وأيضًا لا مساواة كبيرة في الثروة، فالصين اليوم هي أكثر بلد في العالم لديه مليارديرات، وتلك الفوائض الضخمة لا يمكنها أن تظل ساكنة، بل ستبحث عن استثمارات مالية سهلة، وهنا يأتي دور وول ستريت.

من المثير أن الحديث عن نهاية هيمنة الدولار يخرج من أطراف شديدة التناقض؛ من الصين بوصفها مصنع العالم، ومن روسيا التي تريد إعادة بناء مجال حيوي استراتيجي لها، وحتى من اليمين المحافظ في الولايات المتحدة الذي يرى تهديدًا حقيقيًا لسطوة الدولار العالمية.

رسخت العولمة والأمولة المتزايدة من الوضعية الاستثنائية للدولار، والذي أصبح الأساس لتقييم معظم الأصول المالية المستقرة في العالم، كان تفسير بن برنانكي، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي، لتلك الوضعية الاستثنائية للدولار، بأن العالم يريد للدولار أن يكون قويًا لأن لديه «تخمة ادّخار» لا يعرف أين يستثمره، بالتالي توفر السندات الأمريكية والدولار ذلك الملاذ الآمن. تعني فكرة «تخمة الادخار العالمي» (Global Saving Glut) ببساطة أن الولايات المتحدة يمكنها الحفاظ على عجز مستمر في الحساب الجاري وفي الميزان التجاري، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الدولار كعملة قوية، فقط لأن العالم لا يجد أفضل من السندات الأمريكية ملاذًا آمنًا للاستثمار. ساهمت في ذلك عدة ظروف موضوعية، منها معدلات التضخم المنخفضة التي عاشتها الولايات المتحدة، ولكن الأهم في رأيي كان صعود التصنيع خارج المركز الرأسمالي التقليدي، أي في الصين ودول جنوب شرق آسيا وحتى أمريكا اللاتينية، وبالطبع طفرة النفط التي استمرت منذ السبعينيات.

كانت كل تلك التغيرات تعني أن هناك بالفعل فوائض مالية لدى المستثمرين والحكومات في بلدان العالم المختلفة، وأن تلك الفوائض بحاجة لملاذ آمن للاستثمار. بحسب أحدث الأرقام وصل الدين الفيدرالي للولايات المتحدة لحوالي 31 تريليون دولار، منها ما يقرب من 7.2 تريليون مملوكة لدول أجنبية بشكل مباشر، تأتي على رأسها اليابان والصين. لكن ليست الدول والحكومات وحدها التي تسعى لتملك سندات الخزانة الأمريكية كجزء من مراكمة الاحتياطيات، فالقطاع المالي الأمريكي الخاص هو الأكبر على مستوى العالم من حيث التدفقات الخارجية، وهو ما يمثل ذروة الوضعية الاستثنائية للدولار.

يمثل رأس المال السوقي لسوق الأسهم الأمريكي الجزء الأكبر من قيمة أسواق الأسهم في العالم، بحوالي 46%، مع العلم أنه حاليًا في مستويات منخفضة على المدى المتوسط. إذا ما قارنا ذلك بالناتج المحلي الأمريكي والذي يمثل 20% من الاقتصاد العالمي يمكننا أن نفهم ببساطة الوضعية الاستثنائية للدولار، والتي تجعل فائض المدخرات العالمي يذهب للسوق الأمريكي بشكل أساسي، سواء في الأوقات العادية أو في أوقات الأزمات.

ويشكل سوق السندات الأمريكي أيضًا ما يقرب من 40% من سوق السندات العالمية مجتمعة، رغم أن الاقتصاد الأمريكي يمثل 20% فقط من الناتج المحلي العالمي.

هذا التركز في القطاع المالي العالمي أتى عبر الوضعية الاستثنائية للدولار منذ السبعينيات، ولكنه ترسخ كذلك مع صعود القطاع المالي داخل بنية الرأسمالية الحديثة، فيما يسمى اصطلاحًا بالأمولة، أو العولمة المالية، التي تعني ببساطة صعود القطاع المالي ليشكل حجمًا أكبر من الاقتصاد الحقيقي. في 2021 كان حجم الأصول المالية (السندات، والأسهم، والأموال) في العالم حوالي 379 تريليون دولار، بينما وصل الناتج المحلي العالمي في 2021 إلى 94 تريليون دولار فقط، أي أن الأصول المالية تشكل ما قيمته أربعة أضعاف الناتج المحلي العالمي.

على الصين أن تتخلى عن الكثير

لقد اكتسب الدولار وضعية استثنائية في البداية من بريتون وودز ونمو الاقتصاد الأمريكي في فترات ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، ولاحقًا ترسخت مع النسخة الحالية من العولمة الأمريكية، وبالطبع لعبت القوة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة دورًا مهمًا في تلك العملية التي وضع فيها الدولار على عرش العملات العالمية. لكن رغم ذلك لا يمكن القول إن الصين إذا أرادت أن يصبح اليوان عملة احتياطي عالمي فإنه يمكنها أن تتبع نفس المسار الأمريكي، وذلك لأن الوضع العالمي وطبيعة الرأسمالية نفسها قد تغيرت. لا يمكن القول إن تجمعات تجارية وقوة عسكرية صينية ومعدلات نمو مرتفعة يمكنها أن تجعل اليوان عملة احتياطي عالمي، وذلك لأن الصين عليها أن تبدأ مما انتهت إليه الرأسمالية المعولمة الحالية بنسختها الأميركية.

على سبيل المثال، إذا أرادت الصين أن تجعل اليوان أسهل في التداول العالمي، فإن عليها أن تحافظ على سيولة مستمرة من اليوان في الأسواق العالمية، من خلال المحافظة على عجز، بل وعجز كبير في الميزان التجاري، يسمي ذلك بمعضلة تريفين -نسبة إلى الاقتصادي الأمريكي من أصل بلجيكي روبرت تريفين-، والذي كتب في الستينيات أن الدولة التي تريد أن تصبح عملتها عملة احتياطي عالمي عليها أن تحافظ على عجز مستمر في الميزان التجاري، بمعني أن تستورد أكثر مما تصدر، من أجل الحفاظ على تدفق عملتها للبنوك المركزية حول العالم من أجل مراكمته كاحتياطي، ولكن مع تفاقم عجز الميزان التجاري كما في الحالة الأمريكية حاليًا فإن الثقة في عملة تلك الدولة تقل.

كان الجزء الأول من معضلة تريفين حقيقيًا في حالة الولايات المتحدة، فمن أجل الحفاظ على وضعية الدولار الاستثنائية، راكمت الولايات المتحدة عجزًا مستمرًا في الميزان التجاري كما يوضح الشكل التالي.

لكن على الجانب الآخر، لم يكن تنبؤ تريفين دقيقًا تمامًا، إذ لم تنخفض ثقة المستثمرين في الدولار بشكل كبير لأن الولايات المتحدة حصلت على ميزة جيدة وهي استمرار تدفق رأس المال. يمكننا أن نفهم ذلك فقط من خلال مقاربة الأرقام، ففي حين يسجل الميزان التجاري الأمريكي عجزًا بحوالي 800 مليار دولار في 2022، سجل الحساب الجاري الذي يشمل الميزان التجاري والحساب الرأسمالي أي تحويلات الدخل والاستثمار من الخارج عجزًا قدره 220 مليار دولار. تظهر تلك التحويلات فائضًا مستمرًا للولايات المتحدة، لأن المستثمرين في كل مكان في العالم ببساطة يعتبرون الأصول المقوّمة بالدولار الأقل خطورة، وتحديدًا سندات الخزينة الأمريكية. لذلك حين يسجل عجز الميزان التجاري الأمريكي ما يقارب من 800 مليار دولار، فإن عجز الحساب الجاري يساوي حوالي 220 مليار دولار، إذ تحصل الولايات المتحدة على تعويض عن عجز ميزانها التجاري في صورة استثمارات.

بالتالي إذا أرادت الصين تدويلًا أكبر لاستخدام اليوان في التجارة العالمية، وتسعير الأصول وبالتالي الاستثمار، فإن عليها أن تتخلى عن مجمل نموذجها الاقتصادي الحالي القائم علي التصدير، بل والأكثر صعوبة من ذلك هو عملية إصلاح جذرية للاقتصاد تذهب به بعيدًا عن سيطرة الحزب الشيوعي الصيني، والذي جعل «الرأسمالية على الطريقة الصينية» وهي رأسمالية فريدة تمزج بين متطلبات التخطيط المركزي طويل المدى وآليات السوق الحر.

يمكن القول إن السعي الصيني في السنوات الأخيرة ما هو إلا محاولة لزيادة حصة اليوان من سلة الاحتياطات العالمية، وتعميم استخدامه بشكل أكبر في التجارة البينية بين الصين وشركائها التجاريين في محيطها الجغرافي والجيوسياسي المهم.

تتطلب عملية تغييرٍ كاملٍ لوجه «الرأسمالية على الطريقة الصينية» إصلاحًا جذريًا للقطاع المالي غير البنكي، بمعنى أسواق الأسهم والسندات تحديدًا، ما يعني أنه يجب على القطاع المالي في الصين أن يصبح أكثر تطورًا وبعدًا عن الرقابة الشديدة من الهيئات الصينية، ويجب أن يتضمن ذلك أيضًا عملية إدارة للمخاطر تمكن المستثمرين من شراء المشتقات المالية لتعويض الخسائر في الأصول نتيجة تقلبات الأسواق -سوق المشتقات المالية هو الذي أدى بشكل كبير للأزمة المالية الأخيرة في 2008-، ويجب أن يتم ذلك كله من خلال نطاق من الشفافية والحوكمة التي هنالك شكوك كبيرة حول التزام الحزب الشيوعي الصيني بها، لأن ذلك سوف يعني إنهاء سيطرة الحزب نفسه على البلاد، ورأينا غيضًا من فيض ذلك في 2021 حينما انتقد جاك ما، مؤسس علي بابا وأحد أشهر أوجه الرأسمالية على الطريقة الصينية، القوانين المنظمة شديدة التقييد للقطاع المالي غير البنكي في الصين، وبعدها اختفى جاك ما ليدخل في معركة طويلة ما زالت مستمرّة مع الحزب الشيوعي كلفته المليارات.

يمكن القول إن الصين وحدها، أو تحالفًا عالميًا بقيادة الصين، يمكنه أن يهز عرش الدولار نسبيًا، ويقلل من حصة الدولار في التسويات البينية في التجارة الدولية، لكن أيضًا يمكن الجدال بأن رحلة صعود الصين الاقتصادية تخفي الكثير من الجوانب الهامة والخطيرة فيها. فرغم النجاح الاقتصادي لنموذج التصنيع الصيني، إلا أن الصين تعاني من مشاكل شبيهة بمشاكل الاقتصاد الأمريكي، خاصةً فيما يتعلق بالفقاعات المالية والديون. على سبيل المثال، يجادل كثيرون بأن نسبة الديون الحكومية الأمريكية المرتفعة هي في صالح صعود الصين، وبالفعل لدى الولايات المتحدة نسبة مرتفعة من الديون الفيدرالية تصل إلى 129% من الناتج المحلي، لكن نسبة تلك الديون في الصين ليست منخفضة هي الأخرى، فالصين لديها دين حكومي يقدر بـ80% من الناتج المحلي. حتى بحسابات الديون الأكثر عمومية من الدين الحكومي، لدى الصين ديون مرتفعة، فنسبة الديون الخاصة للناتج المحلي تخطت 184% في 2022، وكذلك فإن ديون القطاع العائلي في الصين تقدر بـ61% من الناتج المحلي.

حتى بعيدًا عن الديون الصينية والاختلالات التي بدأت تظهر في الصين، وفي نموذجها التنموي القائم على التصدير، والذي دفع الحزب الشيوعي الصيني لأن يدفع باتجاه اقتصاد قائم أكثر على الاستهلاك المحلي من أجل المحافظة على معدلات النمو الاقتصادي، فإن على الصين أن تدفع الكثير إذا أرادت أن تصبح عملتها عملة الاحتياطي العالمي الأولى أو أن تحصل بشكل ما على الوضعية الاستثنائية الحالية للدولار.

لكن هل تتحمل الصين تلك الحرب، وهي دولة ما زال أغلب سكانها في مستويات معيشة أقل من نظرائهم في الولايات المتحدة وأوروبا؟ كيف يمكن أن يتغير النظام السياسي والاقتصادي في الصين من أجل ضمان شفافية أكبر للمستثمرين الدوليين إذا استمرت تلك النسخة من العولمة المالية، والتي لا يبدو أنها ستنتهي في القريب العاجل؟

الخلاصة أن النسخة الحالية من العولمة القائمة على القطاع المالي أو الرأسمالية المالية تحاصر فعليًا أي إمكان للخروج منها، بل وحتى للخروج من عباءة الهيمنة الأمريكية عليها. لكن ذلك لم يمنع في أحيان كثيرة من التفكير في بدائل لبعض الميكانزمات التي بنيت عليها الهيمنة الأمريكية فيما تلا الحرب العالمية الثانية. يمكن أن تدفع الصين وغيرها من الدول في اتجاه تحويل الاقتصاد المالي مع الوقت ومحاصرة تغول القطاع المالي على الاقتصاد الحقيقي في الرأسمالية الحالية. لكن ذلك يتطلب ترتيبات مؤسسية تدعم إمكانية بناء عالم أكثر مساواة، وترتيبات ومؤسسات سياسية بعيدة عن الديمقراطية التمثيلية الحالية.

إذن، يبدو هذا الحديث عن نهاية الدولار كعملة مسيطرة على الاقتصاد العالمي حديثًا متشعبًا، ويستدعي في أحيان كثيرة التاريخ والحديث عن نهاية الإمبراطورية الأمريكية وغيرها من النظريات في مجال العلاقات الدولية حول صعود الصين كقوة عظمى لتكون هي المسيطر الجديد على العالم. تستغرق عملية صنع عملة عالمية كالدولار وقتًا وتتضمن تفاعلًا بين القوى الاقتصادية والسياسية وتغيرات كبرى في الرأسمالية. كل ذلك يحدث بوتيرة بطيئة جدًا، فقد تطلب الأمر حربين عالميتين حتى يفقد الجنيه الإسترليني مكانته كعملة دولية رئيسية. تبدو الصين في وضع يسمح لها بأن تتخذ مثل تلك الخيارات، لكن ولو صح الصعود الصيني على المدى البعيد، فإنه يبدو في الوقت الحالي أن لا فكاك من فخ الدولار.

لكن خلف تلك الانتقادات الصينية والسعي المستمر من الصين من أجل تدويل اليوان عوامل لا تتوفر في الصين، ولا يمكن الجزم بأن الصين تريد فعلًا أن يحل اليوان محل الدولار، بل يمكن القول إن السعي الصيني في السنوات الأخيرة ما هو إلا محاولة لزيادة حصة اليوان من سلة الاحتياطات العالمية، وتعميم استخدامه بشكل أكبر في التجارة البينية بين الصين وشركائها التجاريين في محيطها الجغرافي والجيوسياسي المهم، كعلاقتها التي تتطور في السنوات الأخيرة مع دول الخليج.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية