الحادي عشر من سبتمبر في تركيا والحرب الأخرى على «الإرهاب»

الثلاثاء 14 أيلول 2021
الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش خلال لقاء مع رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان في 5 تشرين الثاني 2007 في واشنطن. تصوير ماندل نجان. أ ف ب.

تعتبر هجمات 11 سبتمبر التي نفذها تنظيم القاعدة عام 2001 ضد أهداف حيوية في العمق الأمريكي أحد أهم الأحداث التي أثرت بشكل جذري على العالم اليوم. إذ ساهم هذا الحدث في إعادة خلق النظام الدولي من جديد، بل ولعب دورًا محوريًا في إعادة تشكيل العديد من المفاهيم والتصورات، ليصبح رغم مرور 20 عامًا على وقوعه نقطة تحول لا يمكن تجاوزها عند محاولة فهم واقع عالمنا السياسي. أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد هذا الحدث حملة عالمية عرفت باسم «الحرب على الإرهاب» ضد «الإرهاب العالمي» المتمثل في «الإسلام المتطرف»، لتتمخض هذه الحملة عن نتائج عسكرية مدمرة، تمثلت باحتلال وتدمير أفغانستان والعراق، وزيادة الهيمنة والقواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط. كما أفرزت تبعات هذه الهجمات مصطلحات لا تزال حاضرة حتى اليوم، مثل الحرب على الإرهاب، والإسلام المعتدل، والشرق الأوسط الكبير.

في هذا السياق، فإن تركيا، الدولة ذات الأغلبية المسلمة التي تمتلك عضوية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقات مميزة وطويلة مع الولايات المتحدة والغرب، تأثرت بشكل واضح أيضًا بالتغيرات التي أحدثتها هجمات 11 سبتمبر في المنطقة والعالم، خاصة مع صعود حزب انبثق من بيئة إسلامية ومحافظة إلى السلطة بالتوازي مع كل هذه الأحداث. أدانت تركيا هذه الهجمات بشدة، ممثلة برئيس البلاد حينها أحمد نجدت سيزر ورئيس وزراء الحكومة الائتلافية[1] بولنت أجاويد، حيث أعلنا منذ اللحظة الأولى دعم بلادهما للولايات المتحدة، إضافة إلى تنكيس الأعلام حدادًا على أرواح ضحايا الهجمات. كما أعلن بولنت أجاويد قبول بلاده منذ الأيام الأولى بالأدلة التي قدمتها الولايات المتحدة على تورط تنظيم القاعدة في هذه الهجمات، مشيرًا إلى أن «كون هذه الأدلة مقنعة بالنسبة للولايات المتحدة يجعلها بالضرورة مقنعة بالنسبة لتركيا».

أرسلت تركيا وحدات من قواتها للمشاركة إلى جانب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الحرب في أفغانستان على إثر تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف، المتعلقة بالدفاع المشترك بين الدول الأعضاء. بل واعتبر رئيس الوزراء حينها المشاركة العسكرية التركية[2] في الحرب في أفغانستان مساهمة في تحقيق نهضة وحرية أفغانستان اتباعًا «لوصية أتاتورك». وعليه يلاحظ تماهٍ تركي واضح مع الموقف الأمريكي خلال «الحرب على الإرهاب»، خاصة في عهد الحكومة الـ57 (1999 – 2002). بيد أن تركيا نفسها، وبعيدًا عن التغيرات الجوهرية التي كان يشهدها العالم في تلك الفترة، كانت تعيش مرحلة من التغيرات الداخلية الضخمة، إذ رغم الجو العام المعادي للإسلاميين والمتوجس منهم في تركيا والعالم حينها، صعد حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية/ المحافظة والذي تم تأسيسه قبل أقل من شهر من هجمات 11 سبتمبر، إلى السلطة، بأغلبية ساحقة مكنته من تشكيل الحكومة منفردًا، بعد قرابة سنة من ذكرى هذه الهجمات.

وصل هذا الحزب المنبثق/ المنشق عن حزب الفضيلة الإسلامي إلى السلطة رغم الضربة القاسية التي تلقاها الإسلاميون في تركيا قبل سنوات قليلة، في انقلاب شباط 1997. وعلى خلاف بقية الأحزاب الإسلامية/ المحافظة التركية، أظهر العدالة والتنمية مرونة عالية سمحت له باجتذاب العديد من طبقات الشعب، خاصة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية المختلفة التي عاشتها تركيا تلك الفترة. بيد أن حزب العدالة والتنمية -رغم اكتساحه الانتخابات- وصل إلى السلطة في فترة مليئة بالتحديات الداخلية والخارجية، لدرجة أنه رغم تقديم نفسه كبديل «ديمقراطي محافظ» منفتح على الغرب واقتصاد السوق، وداعم للتحول النيوليبرالي ولا تربطه علاقة بالإسلاميين، ظلّ تحت مراقبة عيون متشككة تلاحقه في الداخل والخارج.

ساهمت أحداث 11 سبتمبر في تصاعد الأهمية العسكرية لتركيا لقربها الجغرافي من المناطق المستهدفة في العمليات الأمريكية، لتصبح بذلك شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه في «الحرب على الإرهاب».

في هذه الفترة، أعادت الولايات المتحدة في إطار «الحرب على الإرهاب» توصيف أعدائها ليصبحوا «المتطرفين الإسلاميين»، وأمام تهمة الحرب على الإسلام وقيادة حملة صليبية جديدة على المنطقة رأت القيادة الأمريكية في صعود نخب تركية جديدة ذات جذور إسلامية ملتزمة بالانفتاح على الغرب والمحافظة على علاقات جيدة معه والمشاركة في سياساته ومشاريعه، فرصة لنفي هذه التهم. وفي الوقت ذاته فإن العدالة والتنمية، الذي كان على موعد مع تحديات وتهديدات مصيرية لإثبات نفسه كحزب في الداخل والخارج والنهوض بالبلاد التي تعاني العديد من الأزمات المزمنة، حرص على استغلال هذه الفرصة جيدًا من خلال تعزيز العلاقات مع الغرب على مستويات مختلفة، مثل مساعي عضوية الاتحاد الأوروبي والمشاركة الفاعلة في الناتو، والتماهي الملحوظ مع السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.

صرح مثلًا وزير الخارجية التركي حينها عبد الله جول بوضوح في عام 2006 بأن تركيا تعمل مع الولايات المتحدة ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير، في سعي «لنشر الديمقراطية والحرية بين الدول الإسلامية». حيث إن الولايات المتحدة رأت في تركيا وقيادتها الجديدة في تلك الفترة ورقة لنفي العديد من التهم الموجهة إليها، ومثالًا عن ماهية النخب ذات الجذور الإسلامية التي ترغب الولايات المتحدة بوجودها في المنطقة. إذ قدمت الولايات المتحدة تركيا بوصفها نموذجًا للإسلام المعتدل،[3] حيث تتعايش نخب جديدة ذات جذور إسلامية مع مؤسسات الدولة العلمانية وتسعى للتكامل مع الغرب ملتزمةً بخوض غمار عالم السياسة وفق قواعد الديمقراطية والعلمانية وغيرها من القيم الغربية.

وصف الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش تركيا خلال زيارة رسمية له إلى العاصمة التركية أنقرة عام 2004 بأنها «نموذج للديمقراطية المسلمة». في ذات السياق داومت العديد من مراكز الأبحاث الغربية في تلك الفترة على الترويج للنموذج التركي بوصفه نموذجًا يجب الاحتذاء به في الشرق الأوسط، مثل مجموعة الأزمات الدولية، ومركز بروكنجز لسياسات الشرق الأوسط، ومؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إضافة إلى العديد من الكتاب والمنظرين الأمريكيين المرتبطين بأجهزة الاستخبارات، مثل جراهام فولر الذي قدم العديد من الكتب والدراسات حول هذا الموضوع.

لم يلق الربط الأمريكي بين تركيا ونموذج مقبول بالنسبة لها من الإسلام ترحيبًا كبيرًا داخل تركيا، سواء داخل المعسكر الكمالي/ العلماني أو المعسكر المحافظ/ الإسلامي. فلقد رأت النخب العلمانية -خاصة بين قيادات الجيش التي كانت في تلك الفترة ما تزال تمتلك قدرة كبيرة على التأثير في السياسة- أن هذا الربط استهداف مباشر لمبدأ علمانية الدولة، مؤكدة أن تركيا دولة علمانية وليست دولة إسلامية كما صرح رئيس الأركان التركي حينها حلمي أوزتورك، مشيرًا إلى ضرورة تقديم تركيا كنموذج علماني للمنطقة والعالم. وعلى الجهة الأخرى تعرض نموذج الإسلام الذي تسعى الولايات المتحدة إلى ترويجه إلى نقد شديد من المعسكر المحافظ/ الإسلامي، خاصة في صحافة هذا المعسكر، وذلك بوصفه «إسلامًا أمريكيًا»، بل وصفه البعض بأنه «دين الخروج عن الإسلام».

أما قيادة العدالة والتنمية حديثة العهد في السلطة فقد عملت على توظيف هذه التطورات في إطار مساعيها لتثبيت وجودها أكثر في الرمال المتحركة للسياسة التركية الداخلية، من خلال التخلي عن رفض الإسلاميين الأتراك التقليدي لفكرة التكامل مع الغرب، ومغازلة -بل وتبني- فكرة تركيا الأوروبية التي تمتلك مكانة مهمة لدى النخب الكمالية والعلمانية في البلاد. في نفس الوقت رأت قيادة العدالة والتنمية في هذه الأطروحات الأمريكية أيضًا فرصة لتعزيز الموقع الإقليمي لتركيا وإعادة الثقل المركزي لها بوصفها الدولة النموذج لدول الشرق الأوسط ودول العالم الإسلامي. حيث ساهمت هذه الظروف الجديدة في تدعيم سياسة الانفتاح على المحيط التي تبنتها نخب العدالة والتنمية، في إطار سعيهم لتحويل تركيا من دولة كان الغرب قِبلتها الرئيسية -وربما الوحيدة- طوال عقود، إلى دولة مركزية فاعلة تعيد اكتشاف إمكانياتها السياسية متعددة الاتجاهات و«عمقها الاستراتيجي»[4] في محيطها الكبير، في مناطق الشرق الأوسط والبلقان والقفقاس والبحر الأسود ووسط آسيا.

لأجل تحقيق هذا الهدف، تبنت نخب العدالة والتنمية، التي حصلت على فرصة تاريخية لتوسيع أفق السياسة الخارجية التركية، سياسة صفر مشاكل، والتي عملت من خلالها على توظيف وسائل القوة الناعمة الاقتصادية والثقافية لفتح صفحة جديدة في العلاقات التركية مع محيطها غير الغربي بالذات. تعتبر هذه السياسة أحد أهم خصائص السلوك السياسي للعدالة والتنمية في العقد الأول من حكمه، حيث نجح الحزب في تحقيق اختراقات حقيقية على صعيد بناء علاقات جديدة على مستويات عدة مع العديد من الدول في المنطقة. وفي الوقت نفسه عززت تركيا مكانتها في المنطقة كدولة مركزية تمتلك علاقات جيدة مع جميع الأطراف، الأمر الذي يؤهلها للعب دور الوسيط في حل المشاكل المختلفة بين دول المنطقة، كما حصل في الوساطة التركية بين سوريا «وإسرائيل» بين عامي 2008 و2009.

واجهت العلاقات التركية الأمريكية في تلك الفترة العديد من التحديات التي زعزعتها، كما حدث عقب أحداث مثل مذكرة 1 مارس[5] وعملية القلنسوة[6] بيد أن حجم المصالح بين الطرفين كان كفيلًا بتجاوز كل هذه التعقيدات. فلقد أعلن الطرفان في عام 2006 عن وثيقة الرؤية الاستراتيجية المشتركة التي تعهدا من خلالها على زيادة التعاون والتنسيق بينهما لأجل تعزيز السلام والديمقراطية في المنطقة. كما عبرت الولايات المتحدة في هذه الوثيقة عن تقديرها للخطوات التركية نحو إعادة تفعيل دور تركيا في محيطها وفي العالم الإسلامي، وتبنيها لسياسة خارجية مبادِرة وفاعِلة. كما أكدت الولايات المتحدة أيضًا على دعمها للمساعي التركية لتعزيز حضورها في مختلف قضايا المنطقة من خلال الوساطة الفاعلة بين مختلف الأطراف المتصارعة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

النسخة التركية من «الحرب على الإرهاب»

على صعيد آخر، أثرت هجمات 11 سبتمبر وما تبعها من تطورات جوهرية في النظام الدولي على النسخة التركية من «الحرب على الإرهاب» بشكل كبير. إذ إن تركيا التي تخوض صراعًا مفتوحًا وداميًا مع حزب العمال الكردستاني منذ الثمانينيات، واجهت في هذا الملف ما اعتبرته نوعًا من اللامبالاة الأمريكية والغربية، خاصة على مستوى حلف الناتو، حيث اعتبر الحلف أن التعاون الذي يفرضه ميثاقه مقتصر فقط على تعرض الدول الأعضاء لهجمات من دول أخرى لا من تنظيمات محلية. لكن هجمات 11 سبتمبر غيرت هذه التصورات جذريًا، إذ مهدت الطريق لعقيدة عسكرية جديدة مبنية على «محاربة الإرهاب» بوصفه الخطر الجديد الذي يتهدد العالم، بل فعَّل حلف الناتو لأول مرة في تاريخه بطلب من الولايات المتحدة المادة الخامسة من ميثاقه، والتي تنص على أن أي اعتداء على أحد أعضاء الحلف اعتداء على كافة أعضائه. كانت تركيا، التي لطالما شعرت بأنها تُركت وحيدة في هذا الملف، من أوائل الداعمين المتحمسين لهذه الخطوة، إذ راهنت نخبها على أن هذا التغير في تأويل المادة الخامسة ومفهوم العدو قد يخدمها على صعيد «الحرب على الإرهاب» في الداخل.

وظَّف العدالة والتنمية تبعات هجمات 11 سبتمبر في تدعيم وجوده، يمكن القول إن هذه الهجمات والمعادلات الجديدة التي خلقتها ساهمت من خلال توفير الظروف المناسبة في تعزيز صمود الحزب داخليًا، وصعود تركيا إقليميًا. 

كانت أطروحة تركيا في هذا الصدد مرتكزة بالأساس على حقيقة أنها دولة عانت من هكذا هجمات مرارًا لسنوات طويلة، وأن «ما تمثله القاعدة بالنسبة للغرب هو نفسه ما يمثله حزب العمال الكردستاني بالنسبة لتركيا».[7] لذلك فإن وقف هذه الهجمات ومحاربة هذه التنظيمات الإرهابية بمختلف توجهاتها في كل مكان يجب أن يكون ضمن أولويات الحلف. في هذا السياق، يمكن القول إن تركيا حصلت على «تعاطف وتفهم» الدول الغربية لهذه الأطروحة، فمثلًا، في لقاء عام 2007 بين الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش ورئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان، تناول «الحرب العالمية على الإرهاب»، صرح بوش صراحة بأن حزب العمال الكردستاني عدو للولايات المتحدة كما هو عدو لتركيا، مشيرًا إلى حديثهم عن كيفية العمل المشترك ضده كما تعاونوا ضد الإرهاب في العديد من المناطق الأخرى، ومتعهدًا بتقديم المساعدة لتركيا على الصعيد الاستخباراتي.

عسكريًا ساهمت أحداث 11 سبتمبر في تصاعد الأهمية العسكرية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة بعد أن تراجعت إثر انتهاء الحرب الباردة، وذلك لقرب تركيا الجغرافي من المناطق المستهدفة في العمليات الأمريكية، لتصبح بذلك شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه في الاستراتيجية الأمريكية «للحرب على الإرهاب».

لكن النخب التركية، ورغم أن التعاطف والتفهم دعم موقفها في صراعها مع حزب العمال الكردستاني، إلا أنها أصيبت بخيبة أمل لعدم إقدام المعسكر الغربي على دعمها بخطوات عملية مباشرة في هذا الملف، مثل تفعيل المادة الخامسة أو تقديم دعم عسكري مباشر، واكتفائه بالدعم الإعلامي. بل يرى محللون أتراك أن الولايات المتحدة تبنت في هذا الصدد مقاربة مفادها أن «الحرب على الإرهاب» بنسختها الأمريكية مختلفة بشكل جوهري عن نسختها التركية، بكون الأولى ذات طبيعة دولية أي «إرهاب عالمي»، أما الثانية فهي مواجهة ذات طبيعية محلية وعرقية. ضمن هذه المقاربة رفضت الولايات المتحدة مرارًا في تلك السنوات تزويد تركيا بطائرات بدون طيار لتستخدمها في صراعها مع حزب العمال الكردستاني، على سبيل المثال.

بهذه الطريقة، تمخضت الظروف التي أنتجتها هجمات 11 سبتمبر عن نموذج تركي -أو ربما نموذجين متقاطعين- وظفته تركيا والولايات المتحدة بما يخدم مصالح كل منهما. فمن جهة، استثمرت الولايات المتحدة فكرة النموذج التركي لدعم أطروحاتها في المنطقة، من خلال رسم صورة إسلام معتدل متماهٍ معها ويخدم مصالحها، محاوِلةً تعميم هذا النموذج في المنطقة. ومن جهة أخرى، استفادت نخب العدالة والتنمية من تلك الأجواء، إذ وفّرت لها غطاءً خارجيًا لمحاولة تثبيت وجودها في بلد لطالما اضطهدت هيكلية الدولة والجيش فيه من اعتبرتهم خارجين عن تصوراتها ومتجاوزين للحدود التي رسمتها. كما استفادت تركيا من تلك الأجواء في خلق صورة جديدة للبلاد في المنطقة والعالم، بوصفها قوّة صاعدة تسير بسرعة نحو استعادة دورها المركزي وموقعها المحوري، من خلال العودة إلى الانفتاح على «عمقها الاستراتيجي» الذي تمنحه الجغرافيا والتاريخ والثقافة.

وظَّف العدالة والتنمية تبعات هجمات 11 سبتمبر في تدعيم وجوده، إذ يمكن القول بسهولة إن هذه الهجمات والمعادلات الجديدة التي خلقتها ساهمت من خلال توفير الظروف المناسبة في تعزيز صمود العدالة والتنمية داخليًا، وصعود تركيا إقليميًا. لكن تزامن هذه التطورات أدى إلى وقوع البعض في فخ نظريات المؤامرة التبسيطية التي تهمل العوامل الداخلية المتنوعة وتختزل كل شيء في إرادات خارجية مبهمة، كالاعتقاد الاختزالي بأن صعود العدالة والتنمية وفكرة النموذج التركي نفسها بالأساس مشروع جاء نتاج سياسات أمريكية ظهرت بعد هجمات 11 سبتمبر. لكن الأكيد أن مصالح الولايات المتحدة ومصالح وفرص وآمال تركيا العدالة والتنمية -خاصة بين عامي 2002 و2011- تلاقت وانسجمت بشكل كبير، -كما تنافرت واختلفت لاحقًا- إلى درجة ساهمت في تمهيد طريق صعود تركيا الجديد في المنطقة والعالم، وخلق ما عرف بالنموذج التركي على الساحة السياسية، لتصبح تركيا على عدة أصعدة أحد الرابحين في عالم ما بعد هجمات 11 سبتمبر.

  • الهوامش

    [1] تكونت هذه الحكومة من تعاون حزب اليسار الديمقراطي الذي يتزعمه أجاويد نفسه وحزب الحركة القومية الذي تزعمه دولت بهتشلي وحزب الوطن الأم الذي تزعمه مسعود يلماز. حيث شهدت فترة حكمها بداية طريق تركيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية الخانقة التي أطاحت بهذه الحكومة، لدرجة أن الأحزاب التي شكلتها لم تستطع تجاوز العتبة الانتخابية في انتخابات 2002 وبقيت خارج البرلمان.

    [2] تولت القوات التركية العاملة في أفغانستان مهامًا غير قتالية متعلقة بالأساس بتدريب قوات حكومة، ثم حماية مطار حامد كرزاي في كابول لاحقًا.

    [3]  لاحقًا في عام 2009 وبعد الجدال حول العدوان الإسرائيلي على غزة في مؤتمر دافوس، أعلن أردوغان صراحة عن رفضه لهذا التوصيف، مؤكدًا أن تركيا ليست ممثلة الإسلام المعتدل الذي تروج لها الولايات المتحدة.

    [4] «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية» هو عنوان كتاب صدر للسياسي والمفكر أحمد داود أوغلو، أحد أهم قيادات العدالة والتنمية والحكومة التركية التي صاغت سياسات تركيا في المنطقة خلال العقدين الماضيين. إذ تناول داود أوغلو في هذا الكتاب الصادر عام 2001 السياسة الخارجية التركية من خلال مصطلح «العمق الاستراتيجي»، في سعيه لدراسة كيفية استغلال تركيا لإمكانياتها التاريخية والجغرافية والثقافية في محيطها لتتحول إلى بلد مركزي مؤثر.

    [5]  رفض مجلس النواب التركي في 1 آذار 2003 مذكرة مدعومة من حكومة العدالة والتنمية للسماح بنشر القوات الأمريكية في البلاد والسماح للقوات التركية بالقتال في الخارج، وذلك في إطار تحضيرات غزو الولايات المتحدة وحلفائها للعراق، الأمر الذي أدى إلى أزمة دبلوماسية بين الطرفين. كان هذا الرفض نتيجة انقسام داخلي بين نواب العدالة والتنمية، حيث صرح أردوغان -الذي كان أحد داعمي قبول المذكرة في عام 2016- بأن هذا الرفض كان خطئًا لن يقعوا فيه مرة أخرى في سوريا.

    [6] اعتقلت الولايات المتحدة عام 2003 مجموعة من الجنود الأتراك المتواجدين في العراق بشكل مهين وحققت معهم، الأمر الذي تسبب بأزمة دبلوماسية بين البلدين.

    [7] هذا تصريح من عام 2008 يعود لإيجمان باغش، السياسي من نخبة العدالة والتنمية وأول وزير تولى حقيبة وزارة «الاتحاد الأوروبي» في تركيا، وكبير مفاوضيها في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية