كلّها أيّام وتأتي فتح فتتولى مقدرات المنظمة ونرتاح نحن! آمل ألا يكون في حسبان فتح أنّ المنظمة مؤسسة حقيقية، وبصراحة أقول: ليست المنظمة أكثر من دائرة صرفيات، أو وزارة شؤون اجتماعية، في أحسن حالاتها. ماذا لدى المنظمة؟ جيش لا يحارب بينما لا شيء يجدي الآن غير الحرب، ومكاتب موزعة على العواصم التي لا يحتاج أهلها إلى «شرّاح» أو دعاة لقضية فلسطين وإظهار وجه الحق «العربي» فيها، وفلوس تنفق أساسًا على المرتبات والمكافآت والبدلات المختلفة (من بدل سفر، إلى بدل التمثيل، إلى بدل الاغتراب إلى بدل الميدان، إلخ..)، بينما معظم فصائل المقاومة لا تجد لمقاتليها الحدّ الأدنى اللازم من الأسلحة والذخائر وحتى الملابس!
ما سبق، يرويه طلال سلمان على لسان أحد موظفي مكتب الصرفيات في منظمة التحرير الفلسطينية، أواخر ستينيات القرن الماضي، في المرحلة الانتقالية التي سبقت انتقال فصائل الثورة الفلسطينية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.[1] كان طلال سلمان حينها يتجوّل في معسكرات الثورة الفلسطينية في الأردن، يستطلع خلافات اليسار وفتح، وانقسامات الجبهة الشعبية التي انتهت إلى جبهتين، وكذلك يستطلع المواقف من منظمة التحرير. كان مقاتلو فتح يستغربون عدول قيادتهم عن موقفها الأول من منظمة التحرير التي «ولدت مشلولة وماتت نهائيًّا بعد الخامس من حزيران»، وكيف أصبحت فجأة «المنظمة الأم» و«الأرض الصالحة لأن يتلاقى فوقها كلّ المقاتلين». وقتها، كانت الجبهة الشعبية ترفض نظرية «المنظمة الأم»، وتدعو لجبهة وطنية تكون المنظمة واحدة من فصائلها.
انبثقت منظمة التحرير الفلسطينية عن مؤتمر القمة العربي الذي عقد في القاهرة في 13 كانون الثاني 1964، وكان من أولوياته إبراز كيان فلسطيني يجسد الشخصية الفلسطينية في مقابل التحدي الصهيوني، وبما يتجاوز تصوير القضية الفلسطينية بوصفها قضية لاجئين فحسب. ليُعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية رسميًّا في المؤتمر الفلسطيني الأول الذي عقد في القدس بين 28 أيار و2 حزيران 1964. إلا أنّ هذا المشروع لم يلقَ الحماسة الكافية من قوى الثورة التي كانت في مهد تبلورها، كحركة فتح التي عبّرت عن موقفها من مشروع «الكيان» هذا في مجلة «فلسطيننا»، وطرحت أسئلة أوليّة عن طبيعة الكيان المقترح، من قبيل التساؤل عن الجهة التي سوف تنظم الشعب الفلسطيني في هذا الكيان، وهو ما يكشف خشية من السياق الذي تولّد فيه الكيان وهو الجامعة العربية التي تصف المجلة تاريخها بأنه «مليء بالمهازل والمؤامرات حتى أصبح اسم الجامعة في نظر الفلسطيني مرادفًا لاسم النكبة». لقد كان موقف فتح حذرًا، وهو ما عبّرت عنه بقولها: «ويهمنا أن نؤكد أننا لن نذوب في وضع لا يسير إلى الثورة.. لسنا مستعدين لأن ننزلق إلى كفاح المكاتب وإلى المناورات السياسية والمزايدات الوطنية».[2]
لم تبدِ حركة القوميين العرب، إلى جانب قوى ثورية أخرى،[3] تحفظات على المقترح، بقدر ما شددت على أن يكون ثوريًّا ومستقلاً ماديًّا ومعنويًّا. ولكن التنظيم الفلسطيني فيها، منذ بدايات تبلوره، أخذ يعبّر عن مواقف متشككة، لأنه عدّ الحركة جزءًا من النظام الرسمي العربي، ولأنها لم تكن من ضمن القوى الفاعلة التي تستند إلى الثورة، حتى لو أسست جيش التحرير أو دعمت «أبطال العودة» بهدف احتوائهم كما يقول جورج حبش.[4] فمنذ العام 1964 وحتى نهاية عقد الستينيات، استجدت دواعٍ كثيرة تخلق مقولات أخرى للنقاش حول مواقف فصائل الثورة من منظمة التحرير، وهو ما أجمله غازي خورشيد في العام 1971 في كتابه «دليل حركة المقاومة الفلسطينية»،[5] استنادًا إلى نصوص كتبتها فصائل المقاومة وأرسلتها للمؤلف لهذا الغرض.
ليس ثمة حاجة إذن لاستعراض تاريخ التحول في مواقف فصائل المقاومة الفلسطينية في حينه، أي في ستينيات القرن الماضي، من التحرير، ولكن ما يُراد من هذه المقدمة التذكير بالسياق التاريخي لتأسيس المنظمة، وتحفّظات فصائل الثورة الفلسطينية عليها، وهي ذاتها الفصائل التي باتت تقود هذه المنظمة، وعلى رأسها حركة فتح.
يمكن إجمال أهمّ التحفظات البكر على منظمة التحرير في الخشية من الانزلاق إلى الحسابات الخاصة بالنظام الرسمي العربي، من خلال كيان فلسطيني يصير جزءًَا من ذلك النظام، مما يجعل «الكيان الفلسطيني» عقبة ثوريّة، أو على حساب الفعل الثوري، وساحة للمناورات السياسية والمزايدات الوطنية، وهي رؤية تمتعت ببصيرة ثاقبة من الشبان الأوائل الذين أسسوا فتح، وأبدوا تلك المخاوف على صفحات مجلة «فلسطيننا»، التي نادوا فيها «أن يكون الكيان مرتكزًا للثورة المسلحة وليس بديلًا عنها»، وأن يكون «التنظيم العسكري أساسًا للكيان».[6]
إلا أنّ هؤلاء الشبان أنفسهم، عادوا ليكونوا في طليعة الثوريين الذين انتقلوا إلى الكيان شعورًا بالمسؤولية تجاه الأوضاع الخاطئة للمنظمة، ولأن «الميزانية السنوية لمنظمة التحرير تصل إلى خمسة ملايين جنيه إسترليني، ولأن في «الصندوق القومي» مالًا نحن في أمس الحاجة إليه لتطوير قدرات العمل الفدائي وزيادة فعاليته، فهل نترك هذه الأموال تذهب حيث تذهب الآن.. أي فيما لا ينفع حركة المقاومة، ولا قضية فلسطين ككل؟».[7]
بالتأكيد لم تكن القضية المالية الدافع الوحيد نحو التحوّل في موقف حركة فتح من المنظمة، ولكن هذه القضية كانت دالة على توازنات عناصر قوّة أخرى تملكها المنظمة، مرتبطة بالضرورة بالنظام الإقليمي العربي وتوازناته. ومن ثمّ بدأ دفع «القيادة الثورية» الجديدة للمنظمة نحو مشروع التسوية مباشرةً بعد حرب تشرين 1973، كما يروي معين الطاهر، الذي صار قائدًا في الكتيبة الطلابية في حركة فتح. إذ يروي أن ياسر عرفات زارهم في معسكر مصياف بعد حرب تشرين وقال لهم: «ثمة تسوية قادمة بعد الحرب، فهل نكون جزءًا من هذه التسوية، أو لا نكون؟ يجب أن نكون جزءًا من هذه التسوية، ويجب أن نقبل بدولة فلسطينية ولو في مدينة أريحا فقط».[8]
لقد كان التحوّل في موقف حركة فتح من منظمة التحرير بالذهاب إلى التسوية، في انفعال بالغ بالوضع الإقليمي العربي، سريعًا من خلال برنامج «الحل المرحلي» أو «النقاط العشر»، الذي مثّل التمهيد التأسيسي للتحول بالثورة من فكر التحرير إلى فكر الدولة، والتجسيد لانتقال فصائل الثورة إلى عمل المكاتب بدلًا من الانتقال بالمنظمة إلى عمل الثوار. تنبأ كثيرون، منذ مطلع السبعينيات، بمآلات القضية الفلسطينية في حال انتقلت إلى دولة في إطار تعاقدي مع الاحتلال، كمنير شفيق الذي كتب في العام 1972 «لماذا يرفض الفلسطينيون مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة»، متنبئًا بأنها ستصير كيانًا «يصفي القضية الفلسطينية، ويعترف بإسرائيل، ويكون لها بمثابة جسر، أو ممر، اقتصادي وسياسي وثقافي، إلى العالم العربي».[9] إلا أن شبانًا مقاتلين في الميدان طرحوا تحليلًا منذ أواخر الستينيات، وقيادة فتح تتأهب للانتقال لقيادة المنظمة، رأوا فيه: «إما أن تكون حركتنا في اليسار وتتطور بالتالي إلى ثورة، وإما أن تكون في اليمين وتهوي بالتالي لتصبح نظامًا فتنسى التحرير بأبعاده التاريخية وترضى بدولة فلسطينية تقوم إلى جانب دولة إسرائيل وبرضاها «المنتزع» منها لقاء الصلح وإنهاء حالة الحرب. وحركة المقاومة تجتاز الآن عنق الزجاجة: الأنظمة تشدها نحو الأسهل والأقل كلفة، أي نحو التحول إلى نظام فمشروع دولة، والجماهير تحاول احتضانها وتدفعها باستمرار على طريق الثورة».[10]
شدّ النظام العربي الثورة إليه، شدّها إلى الأسفل، والأسهل، من خلال منظمة التحرير والـ«خمسة ملايين جنيه إسترليني»، ميزانيتها السنوية أواخر الستينيات.
لا نكتب هذا الكلام بغرض التأريخ، وإن كان الموقف يملي علينا احترام بصيرة هؤلاء المقاتلين، ولكننا نكتب ذلك للإشارة إلى أنّ التحول كان فوريًّا. فقد شدّ النظام العربي الثورة إليه، شدّها إلى الأسفل، والأسهل، من خلال منظمة التحرير والـ«خمسة ملايين جنيه إسترليني»، ميزانيتها السنوية أواخر الستينيات. وليس ثمة حاجة بعد ذلك لاستعراض علاقات المدّ والجزر بين القيادة، التي وصفت بأنها متنفذة، والقوى التي أرادت لنفسها أن تكون دائمًا يسار حركة المقاومة، إلا أنّها وجدت نفسها أولًا في مواجهة برنامج سياسي تخالفه، يرتكز إلى إدارة تنظيمية تهمّش بقية القوى لصالح القيادة المتنفذة، التي يصفها جورج حبش على لسانها: «قولوا ما تريدون ونحن نفعل ما نريد».[11] وبحسب وصف آخر له، كانت فتح بعدما صارت هي قيادة المنظمة، تصرّ على أن موقف المنظمة هو موقف واحد، وأن النقاش لا ينبغي أن يفيض عن الغرف المغلقة إلى الخارج.[12] كان ذلك يعني أن موقف المنظمة محكوم بالتوازنات التي أحكمتها فتح، وأنّ حصر المواقف المختلفة داخل غرف المنظمة يعني مصادرة حقّ الفصائل في أن تصرّح بمواقفها الحقيقية لجماهيرها. وعلى أية حال، فإن محاولات الجبهة الشعبية للتصدي للقيادة المتنفذة سواء بتجميد العضوية في اللجنة التنفيذية للمنظمة أو تأسيس جبهة الرفض التي ضمتها إلى فصائل أخرى، لم تثمر في قطع الطريق على سياسات تلك القيادة، بل التحقت ببعض أطروحاتها كموافقتها على الحلّ المرحلي عام 1973، أو القرار 242 في إعلان الاستقلال بالجزائر عام 1988.
بتوقيع قيادة منظمة التحرير اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، بدا أن رؤية الشبان المقاتلين في أواخر ستينيات القرن الماضي كانت أقل سوداوية مما صار إليه الحال الذي انتهى إلى بؤس أشدّ مما تنبأ به منير شفيق في العام 1972. فما تأسس أقل من دولة، وأقل حتى من سلطة حكم ذاتي، وكفاح الثورة صار أدنى من كفاح المكاتب.
أعاد الاحتلال انتشاره ليس إلا، وتخلّص من عبء إدارة السكان والإنفاق على مؤسساتهم المدنية، وضاعف الاستيطان، وحوّل الضفة الغربية إلى متاهة ممراتها الحواجز والطرق الالتفافية، تطلّ عليها دائمًا من فوق المستوطنات المتكاثرة. وبذلك، تأسس الجسر نحو العالم العربي والعالم، وتحول المقاتلون لا إلى موظفي مكاتب فحسب، بل إلى محكومين بالتزامات أمنية، يقفون في المكان المقابل تمامًا للمقاومة والثورة، وإلى هذا الموقع تحوّل الجسم الثوري الأبرز. لقد تحققت تلك النبوءة التي تخوفت من أن دخول فصائل الثورة الفلسطينية أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات إلى منظمة التحرير سيقضي على الثورة، لأنّه سيكرس منظمة التحرير جزءًا من النظام الرسمي العربي، بما سيهبط بالثورة إلى قيعان هذا النظام.
حينما وقّعت قيادة منظمة التحرير اتفاقية أوسلو، واعترفت بـ«إسرائيل»، كان الاعتراف الذي حظيت به اعترافًا بها بوصفها قيادة يمكن التفاوض معها، ولم تحظ من عدوّها باعتراف لشعبها في حق تقرير مصيره أو إقامة دولته. لقد هبط الخط التحرري من التحرير الكامل، إلى إقامة السلطة المقاتلة على أي أرض يمكن تحريرها، إلى دولة تعاقدية مع الاحتلال، إلى الاعتراف بالقيادة الفلسطينية فقط. فانتهى استدخال مشروع الدولة على الخطاب التحرري إلى الاكتفاء باعتراف الاحتلال بممثلي الفلسطينيين.
لم تنتقل المنظمة بالثورة إلى موقع النظام الرسمي العربي فحسب، بل المفارقة التاريخية أن قوى الثورة، فتح تحديدًا، شطبت أهمّ مبادئ الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كتبته هي تعديلًا على الميثاق القومي، لينسجم هذا الشطب مع اعتراف قيادة المنظمة بـ«إسرائيل»، وذلك في اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني عقد في كانون الأول 1998 بغزة، صادق فيه على تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني. بدت تلك الجلسة بحضور الرئيس الأمريكي ساعتها بيل كلينتون لحظةً سرياليةً في مسار هذا الخط للثورة الفلسطينية.
تنص اللائحة الداخلية للمجلس الوطني الفلسطيني على أن ينعقد دوريًّا مرة كل سنة بدعوة من رئيسه، أو في دورات غير عادية بدعوة من رئيسه بناء على طلب اللجنة التنفيذية أو من ربع أعضاء المجلس. إلا أنّ آخر دورة عقدت للمجلس الوطني في إطار الالتزام بلائحته كانت في العام 1974، بعد ذلك صارت تتباعد الدورات. فمثلًا، بعد العام 1974 عقد المجلس في العام 1977، ومن بعد تأسيس السلطة، اجتمع المجلس ثلاث مرات فقط: في عام 1996 لإلغاء بنود من الميثاق الوطني الفلسطيني لينسجم مع اعتراف المنظمة بـ«إسرائيل»، وفي العام 2009 لانتخاب أعضاء جدد للجنة التنفيذية، وفي العام 2018. أما الاجتماع الذي عقد في العام 1998 بحضور كلينتون للمصادقة على إلغاء بنود من الميثاق فلم يكن اجتماعًا للمجلس الوطني بقدر ما كان اجتماعًا فوضويًّا يشكك في شرعيته الكثيرون،[13] بل إنه غير مدرج على موقع وكالة الأنباء الرسمية ضمن دورات المجلس الوطني.[14]
أما المجلس المركزي للمنظمة، فتنص لائحته على أن ينعقد دوريًّا بدعوة من رئيسه، مرة كل ثلاثة أشهر، أو في دورات غير عادية، بدعوة من رئيسه، بناء على طلب من اللجنة التنفيذية، أو من ربع عدد أعضاء المجلس. ولكنّه كالمجلس الوطني لم يكن منتظمًا أصلًا، حتى قبل تأسيس السلطة. فبعد انعقاده في تونس في تشرين الأول عام 1993، اجتمع في غزة عام 1999، واجتمع ثلاث مرات عام 2018، ومرتين عام 2022، وتوقف بعد ذلك حتى الآن. وهذه الاجتماعات الأخيرة كانت دائمًا محلّ سجال واستقطاب في الساحة الفلسطينية، إلى درجة مقاطعتها من بعض فصائل المنظمة نفسها.
لا يعني ذلك إلا أن مؤسسات منظمة التحرير كانت أصغر من القيادة، وهي المؤسسات التي يفترض أن تعبّر فيها «فصائل الثورة» عن نفسها للحفاظ على الثورة. لكن منظمة التحرير ومنذ تأسيس السلطة لم تعد الإطار الثوري الجامع لفصائل المقاومة، ليس فقط للانقلاب الذي حصل في خطها، ولكن بالإضافة إلى ذلك، لأنّها صارت منظمة القيادة المتنفذة (قيادة فتح) وحسب، لا سيما مع ضمور القوى الأخرى المنضوية تحتها، والتي لا تحظى بأي حيثية جماهيرية أو سياسية، مع استثناء نسبيّ للجبهة الشعبية. في حين أنّ «القيادة المتنفذة» الراهنة تشترط على حركتي حماس والجهاد الإسلامي التطابق التامّ مع الخط السياسي للمنظمة (خط القيادة المتنفذة)، أي الاعتراف بـ«إسرائيل» ونبذ الكفاح المسلح، للقبول بهما في «بيت الطاعة الفلسطينية».
لا تقتصر المفارقة على الانقلاب الهائل الذي حصل في مسار الثورة الفلسطينية بعدما أرادت «تثوير المنظمة». فقد تغطت «الثورة» بالمنظمة للانقلاب على المشروع الثوري برمته، انتهاءً بالموقف الراهن. إلا أنّها بعد ذلك رفضت تمامًا أي تجدّد ثوري في الساحة الفلسطينية، ممثلًا بقوى المقاومة من خارج المنظمة، وتحديدًا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ثمّ حاصرت أي مشروع شعبي عام لاستنهاض الجماهير وإصلاح المنظمة، كالمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، ومؤتمر فلسطينيي أوروبا، والمؤتمر الشعبي الفلسطيني- 14 مليون. فقد اتهمت «القيادة المتنفذة» هذه المشاريع بمحاولة سرقة تمثيل الفلسطينيين والانقلاب على «بيت الشرعية الفلسطينية» الممثل بمنظمة التحرير.
لم يبقَ بعد ذلك إلا الترسيم القانوني لإعلان نهاية منظمة التحرير بوصفها «منظمة تحرير»، وهو ما كان في القرار بقانون الذي أصدره الرئيس الفلسطيني عام 2022، وسرّب للإعلام، وجعل فيه منظمة التحرير الفلسطينية دائرة من دوائر الدولة.[15] وفي حين أن القرار بقانون هذا لم ينشر في الجريدة الرسمية بعدما سُحبت الصيغة المسربة، فقد نشر في الجريدة الرسمية معدّلًا،[16] الأمر الذي أوضحه المستشار القانوني للرئيس بقوله إنه «في ضوء سوء الفهم الذي تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي لبعض العبارات الواردة في القرار بقانون.. فقد أعاد سيادة رئيس الدولة إصدار القرار بقانون من جديد، بعد توضيح وإعادة صياغة العبارة الملتبسة»،[17] مما يرجح أن تكون الصيغة المسرّبة نشرت لجسّ النبض. إذ يلغي هذا القرار بقانون في حال لو أقرّ رسميًّا ولم يجر التراجع عنه الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير، ويجعلها رسميًّا، كما هي فعليًّا، تابعة للسلطة الفلسطينية. فالدولة هو الاسم الذي تطلقه مؤسسات السلطة الفلسطينية على السلطة الفلسطينية، بموجب قرار بقانون أصدره الرئيس عباس، في شباط 2022، ونشر في الجريدة الرسمية في آذار 2022، ونص على أن «تستبدل عبارة السلطة الوطنية الفلسطينية أينما وردت في القانون الأصلي بعبارة دولة فلسطين، وتستبدل عبارة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية أينما وردت في القانون الأصلي بعبارة رئيس دولة فلسطين».[18]
لم تتقلص منظمة التحرير بذلك لصالح السلطة الفلسطينية، التي تعيش أسوأ أوقاتها أثناء الحرب على غزّة، مع تآكل كلّ ما أمكن من شرعيات سياسية وشعبية وريعية، ولكنها فعليًّا لم تعد قائمة منذ تأسيس السلطة، وجرى ترسيم ذلك قانونيًّا أخيرًا. وليس ثمة حاجة للتذكير بكلّ القرارات التي اتخذتها مؤسسات المنظمة في السنوات الأخيرة في إطار التنصل مما ترتب عليها في اتفاقية أوسلو، كوقف التنسيق الأمني، أو سحب الاعتراف بـ«إسرائيل»، ولم ينفذ. فالوظيفة الوحيدة الباقية للمنظمة هي الاستدعاء حين الحاجة لتعبئة الفراغ السياسي، أو كسب الوقت للإيهام بتحوّل سياسي ما، أو لتجديد شرعية النخبة أو «القيادة المتنفذة» وترتيب أوضاعها الداخلية، أو لملء الفراغ الناجم عن النقص في مؤسسات المنظمة بالموت أو الاستقالة، أو لأغراض الخصومة الداخلية، لا سيما مع حركة حماس.
ويبقى أن يقال في المفارقات الحادة لهذا التاريخ الطويل، أن مجموع النكبة والمنظمة والثورة صاغ الهوية الفلسطينية، ونظم مجتمعات الفلسطينيين في شعب واحد. إلا أنّ المنظمة بقيادة «الثورة» مزّقت إنجازها ذلك كله باتفاقية أوسلو، التي أخرجت تمامًا فلسطينيي العام 1948 من الحركة الوطنية الفلسطينية، وألغت مكانة «الشتات» الفلسطيني، بعدما كان قلب الثورة ووجهها وساعدها، ليصير الفلسطينيون بذلك «شعوبًا»، ولتتحول المنظمة بمآلاتها إلى الضدّ التام من خطابات الثورة، التي أرادت «تثوير» المنظمة لما انتقلت إلى قيادتها.
رغم كلّ ما سبق من مفارقات تحولاتها ومآلاتها والكيفيات التي يجري فيها استدعاؤها للتغطية على خيارات «القيادة المتنفذة»، ظلّت منظمة التحرير الإطار الذي لا يتجاوزه مخيال النخبة السياسية والحزبية الفلسطينية، بمختلف تشكيلاتها. لتكون، في خطاب الجميع، الجامع الفلسطيني المقترح دائمًا لمجمل الحالة الوطنية الفلسطينية، وذلك تحت شعار أنها مكتسب وطني فلسطيني، يعترف بها العالم كلّه تقريبًا. فالمشكلة لم تكن في تحولات هذا الكيان، هيكلًا وبرنامجًا، فحسب، بل أيضًا في أن برنامجه شد الجميع إليه، وصار الإطار النظريّ للكلّ، أي الدولة قبل التحرير!
-
الهوامش
[1] طلال سلمان، مع «فتح» والفدائيين، بيروت: دار العودة، 1969، ص: 73-74.
[2] مجلة فلسطيننا، العدد 35، آذار 1964، ص 2-3.
[3] مجلة فلسطيننا، العدد 36، نيسان 1964، ص 4.
[4] صفحات من مسيرتي النضالية: مذكرات جورج حبش، جورج حبش، تدوين: هيلدا حبش، تحرير: سيف دعنا، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2019، ص 152.
[5] غازي خورشيد، دليل حركة المقاومة الفلسطينية، بيروت: مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، 1971.
[6] مجلة فلسطيننا، العدد 36، نيسان/ أبريل 1964، ص 5.
[7] طلال سلمان، مع «فتح» والفدائيين، بيروت: دار العودة، 1969، ص 76.
[8] حوار مع معين الطاهر – الكتيبة الطلابية: تأملات في التجربة، حاوره: إلياس خوري وميشال نوفل، منشورات ضفاف. 2015، ص 26.
[9] منير شفيق، لماذا يرفض الفلسطينيون مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 7، آذار/ مارس 1972، ص 65-73.
[10] طلال سلمان، مع «فتح» والفدائيين، بيروت: دار العودة، 1969، ص 87-88.
[11] جورج حبش، جذور الأزمة في منظمة التحرير والثورة الفلسطينية، بيروت: دار الفارابي، 1985، ص 23. وأصله تحليل قدمه جورج حبش في 1983/10/31
[12] صفحات من مسيرتي النضالية، مصدر سابق، ص 179.
[13] هبة بيضون، حقيقة تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني الصادر عام ١٩٦٨، وكالة معا، 2020/11/28.
[14] دورات المجلس الوطني الفلسطيني، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية «وفا».
[15] قرار بقانون: منظمة التحرير الفلسطينية دائرة من دوائر الدولة، موقع قانون، 2022/2/19.
[16] الجريدة الرسمية. الوقائع الفلسطينية، العدد الممتاز رقم 26، 2022/3/6.
[17] تصريح من المستشار القانوني للرئيس حول القرار بقانون بشأن دعاوى الدولة، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية «وفا»، 2022/2/18.
[18] الجريدة الرسمية.. الوقائع الفلسطينية، العدد الممتاز رقم 26، 2022/3/6.