بعد توقيع معاهدة وادي عربة للسّلام بين الأردن و«إسرائيل» بأشهر قليلة جدًا، سافر سمير (اسم مستعار)، وهو فلسطينيّ أردنيّ، من عمان إلى القدس. لم يكن الهدف زيارة الأقارب فقط، فباعتبار سمير مالكًا لواحدة من أبرز شركات نقليات البضائع في الأردن، فقد تلقى دعوة من إحدى النقابات «الإسرائيلية»، بهدف فحص إمكانيات التعاون «الإسرائيلي» الأردني في مجال النقل والتجارة.
كان العرض الإسرائيلي لسمير يشمل أن يُفتح ميناء حيفا أمام شاحناته لنقل البضائع من وإلى الأردن. بدلًا من أن يتكلف سمير عناء نقل تلك البضائع المستوردة أو المُصدّرة عبر ميناء اللاذقية أو ميناء العقبة، يمكنه اختصار الكثير من التكاليف عبر النقل البريّ المباشر من الأردن إلى ميناء حيفا وبالعكس (الطريق من عمان إلى حيفا حوالي 170 كم، ومن إربد إلى حيفا 120 كم، بينما من عمان إلى العقبة 330 كم، أو من إربد إلى طرطوس 400 كم، ومن إربد إلى اللاذقية 490 كم). سيكسب سمير الوقت اللازم لنقل البضائع ويقلل التكاليف وبالتالي تتوسع تجارته، وبالمقابل ستتعزز مكانة ميناء حيفا «الإسرائيلي» كبوابة الأردن نحو العالم الخارجي استيرادًا وتصديرًا.
يقول سمير في حديث غير رسميّ إن الفكرة أعجبته، خاصّة لأنها توفر جهدا ووقتًا ومالًا. عاد إلى الأردن يوم الخميس، وخرج في اليوم التالي لصلاة الجمعة في أحد مساجد العاصمة الأردنية عمان، وهناك وُئدت الفكرة. تحدّث خطيب الجمعة رافضًا اتفاقية السّلام الموقعة بين الأردن والعدو الإسرائيلي، ومحذرًّا المصلين من الوقوع في فخ التطبيع مع الإسرائيليين، حتى لو قبلت أجهزة الدولة وسلطاتها بذلك.
قد تبدو القصة الحقيقية المذكورة أعلاه -كما وردت على لسان صاحبها- بالغة الرومانسيّة، إلا أنها تُعطي ملخصًا سريعًا لشكل وأفق العلاقات الأردنية-الإسرائيلية منذ توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994. عدا عن الإنجازات الأمنية والسياسية التي حققها الاحتلال من خلال هذه الاتفاقية، فإن من أهم ما كانت العيون تتجه إليه منذ اللحظة الأولى، هو الجانب الاقتصادي، بما يشمله من تطوير للعلاقات التجارية، وربط اقتصاد الأردن بالاقتصاد الإسرائيلي. وهو ما نرى نتائجه اليوم في صفقتي الغاز وناقل البحرين، باعتبارهما تربطان أهم حاجات المجتمع الأردني (الكهرباء والمياه) بالسوق الإسرائيلي، وفي صعود مكانة ميناء حيفا الإسرائيلي كبوابة للاستيراد والتصدير عند كثيرين من الموردين والمستوردين الأردنيين، لا بل والخليجيين أيضًا، كما يدعي الإعلام الإسرائيلي. كل ذلك يجري ويتطور في ظل أجواء شعبية عربيّة وأردنية ما زالت رافضة للتطبيع ومناهضة له.
وفي ظل بدء أعمال البناء على ضفتي نهر الأردن لإقامة المشروع الصناعي التجاري الأكبر بين الأردن و«إسرائيل»، «بوابة الأردن»، وبالتالي عودة موضوع التطبيع الاقتصادي إلى الساحة الإعلامية، جمعنا في «حبر» عبر هذه المقالة أهم المحطات التي مرت بها شبكة العلاقات الاقتصادية الأردنية «الإسرائيلية».
وادي عربة والتأسيس للتطبيع
كان تطبيع العلاقات الاقتصادية بين الأردن و«إسرائيل» أحد أهم النقاط الواردة في اتفاقية وادي عربة والموقعة عام 1994، وقد خُصّصت لتفصيل هذا التطبيع المادة السابعة من الاتفاقية. وقد ورد في الاتفاقية تحت عنوان «العلاقات الاقتصادية» أن الدولتين «تريان في التطوير الاقتصادي عمودَ أساس في تحقيق السّلام والأمن والعلاقات المنسجمة بينهما كدولتين، وبين الشعوب والأفراد على الطرفين».
ومن أجل تحقيق هذا التطوير الاقتصادي تؤكد النقاط الواردة في المادة السابعة على ضرورة إزالة كل الحواجز التمييزية أمام إقامة علاقات اقتصادية طبيعية، وأن يتم إنهاء أي مقاطعة اقتصادية بين الطرفين، لضمان تدفق طبيعي للبضائع والخدمات.
تطبيع العلاقات الاقتصادية بين الأردن ودولة الاحتلال يشكل بابًا أمام دول عربية أخرى لتنضم لهذا التطبيع، ولو بطرق غير مباشرة
كما تدعو المادة ذاتها إلى أن يتم الترتيب لاجتماعات ومفاوضات بين الطرفين من أجل الوصول إلى اتفاقيات تفصيلية بخصوص التعاون الاقتصادي وبخصوص إنشاء مناطق التجارة الحرّة وتحديد سبل التعاون في مجال البنوك والاستثمار والصناعة. وتحدد المادة ضرورة أن يتم عقد هذه المفاوضات بأقرب وقت ممكن، ويذكر «أن لا يتعدى ذلك ستة شهور بعد تبادل كتب التصديق على هذه الاتفاقية»، مما يعكس رغبة متحمّسة ومتسرعة لإنجاز التطبيع الاقتصادي باعتباره أحد أهم ثمار اتفاقية السّلام.
الأردن مدخلًا نحو أسواق العرب
وفي ظل سعي «إسرائيل» إلى تطبيع العلاقات الاقتصادية مع الأردن فإنها تهدف إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، فالنقاط الواردة تحت المادة السابعة من اتفاقية وادي عربة تلمح أكثر من مرة إلى ضرورة أن يتوسع هذا التطبيع الاقتصادي ليعم ما أسماها «أطرافًا ثالثة» غير الأردن و«إسرائيل».
في النقطة الأولى تحت المادة السابعة، تذكر الاتفاقية أن على الدولتين إيقاف أية حملات للمقاطعة ضدّ إحداهما الأخرى، بالإضافة إلى أن تعمل كل دولة على مساعدة الدولة الأخرى في إنهاء أية مواقف مقاطعة من أطراف ثالثة ضدّ أيّ منهما، أي بكلمات أخرى أن تقوم الأردن بدور الوسيط بين دولة الاحتلال وأي من دول المنطقة التي تعلن مقاطعتها لها.
كما ورد في النقاط الأخرى تحت نفس المادة الإشارة إلى ضرورة عدم حصر التعاون بين الدولتين فحسب، وإنما أن يكون تعاونًا في السياقات الإقليمية الأوسع، وأن تعمل كل جهة على مساعدة الجهة الأخرى في «تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الجيران الآخرين». وفي هذا إشارة إلى أن تطبيع العلاقات الاقتصادية بين الأردن ودولة الاحتلال يشكل بابًا أمام دول عربية أخرى لتنضم لهذا التطبيع، ولو بطرق غير مباشرة، ويشكل طريقًا لدولة الاحتلال للوصول إلى أسواق أخرى في دول لم تعقد معها اتفاقيات سلام، أو تقيم معها علاقات تجارية وسياسية سرّية. ويذكر أن الأردن يشكل كذلك بوابة عبور «آمنة» أمام البضائع الإسرائيلية أو تلك المنقولة عبر الموانىء الإسرائيلية باتجاه دول الخليج العربيّ. فالسوق الأردنية في نهاية المطاف لن تستوعب كميات كبيرة من الصادرات الإسرائيلية، إلا أنها ممر مناسب لهذه الصادرات باتجاه دول الخليج، أو بتعبير إحدى الصحف الإسرائيلية، هي «ممر جيّد لخضار الكيبوتسات نحو الرياض وأبو ظبي»، بعد أن تتم إزالة الملصقات الإسرائيلية عنها. ولم ننجح في الوصول إلى تقديرات وأرقام تعكس كمية هذه الصادرات العابرة من الأردن نحو الخليج العربيّ.
الاتفاقيات الاقتصادية الأولى
بعد ستة أشهر من توقيع اتفاقية وادي عربة، وقعت الاتفاقية الاقتصادية الأولى بين الأردن ودولة الاحتلال، في نيسان 1995. تقول الاتفاقية في افتتاحيتها: «انطلاقًا من النظر إلى التنمية الاقتصادية والازدهار باعتبارهما دعامتين للسلام والأمن والعلاقات المنسجمة فيما بين الدول والأفراد والبشر، فإن الطرفين (…) يؤكدان على رغبتهما المتبادلة في تعزيز التعاون الاقتصادي». وتشمل الاتفاقية 22 بندًا تنظم شكل العلاقات التجارية المتبادلة وشروطها وتفاصيلها، وتقضي بإنهاء المقاطعة الاقتصادية بين البلدين، وتشجيع رجال الأعمال والهيئات التجارية على التعاون.
وفي نهاية العام 2004، في الوقت الذي كانت تشتعل فيه الانتفاضة الثانية، وبعد أن وقّعت الأردن على اتفاقيات تجارة حرة مختلفة مع الاتحاد الأوروبي والولايات الأمريكية، وبعد انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، تم تجديد الاتفاقية الاقتصادية الأولى، لتشمل تسهيلات تجارية أوسع، وتعطي المزيد من الامتيازات للطرف الإسرائيلي. بحسب الاتفاقية الموقعة في حينه، فقد تقرر أنه منذ العام 2005 سيتم تخفيض الرسوم الجمركية على البضائع الإسرائيلية في الأردن بقيمة الثلث، بينما سيتم تخفيضها على البضائع الأردنية في السوق الإسرائيلية بقيمة النصف. وبحسب الاتفاقية، تستمر الدولتان بتخفيض الرسوم الجمركية تدريجيًا كلّ عام، حتى تصل إلى العام 2010 إلى إعفاء كامل من الرسوم.
اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة
في 16 تشرين الثاني من العام 1997، في العاصمة القطرية الدوحة، وتحت إشراف وتشجيع أمريكي، وقعت الأردن و«إسرائيل» على ثاني اتفاقية اقتصادية بينهما، والمعروفة باتفاقية المنطقة الصناعية المؤهلة (QIZ-Qualified Industrial Zone). حتى تخرج هذه الاتفاقية إلى حيز التنفيذ، سنّ الكونغرس الأمريكي في العام 1996 تشريعًا إضافيًا على اتفاقية التجارة الحرة الإسرائيلية-الأمريكية، يتم وفق هذا التشريع الإضافي اعتبار أن المناطق الصناعية المؤهلة والموجودة في الأردن والمشتركة تسري عليها التفضيلات الاقتصادية التي تعطيها أمريكا للبضائع الإسرائيلية، أي أن ما يتم تصديره من بضائع من تلك المناطق الصناعية باتجاه أمريكا معفى من الرسوم الجمركية، مثله مثل البضائع المصدرة من المصانع الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة.
وقد اشترطت هذه الاتفاقية للإعفاء من الجمارك أن تستخدم المصانع في تلك البضائع نسبة محددة من المواد الخام إسرائيلية المنشأ. وقد كانت أول منطقة صناعية مؤهلة تنطبق عليها شروط الاتفاقية هي منطقة صناعية في إربد، ويصل عدد هذه المناطق اليوم أكثر من عشرة، تحتوي أغلبها مصانع للغزل والنسيج. وتجذب هذه المناطق الصناعية المؤهلة مصانع أردنية إسرائيلية بالإضافة إلى استثمارات من دول أخرى مثل الهند.
ومن خلال هذه الاتفاقية وإنشاء المناطق الصناعية المؤهلة أصبحت دولة الاحتلال بوابة عبور أمام الأردن في طريقها إلى السوق الأمريكية. والأهم من ذلك، أن هذا العبور ارتبط بشكل بنيوي بالسوق الإسرائيلية، فحتى يصل الأردن إلى أمريكا يجب أن يعتمد في إنتاجه على مواد خام إسرائيلية، ويجب أن يكون هناك تعاون تجاري إسرائيلي-أردني، وبالتالي تم ربط جزء من الاقتصاد الأردني بالسوق الإسرائيلية.
ميناء حيفا كممر للأردن وبقية الدول العربية
لم تقف العلاقات الاقتصادية بين الأردن ودولة الاحتلال في قالبٍ واحد، بل تغيّرت وتأثرت بفعل التغييرات الإقليمية بشكل أساسي. وقد بدا ذلك واضحًا بعد الغزو الأمريكي للعراق، وبعد الثورة السورية. وفي حين كان التركيز في بداية تلك العلاقات على إنشاء المصانع الإسرائيلية الأردنية المشتركة، واستغلال «العمالة الرخيصة» في الأردن، وتخفيض الرسوم الجمركية، فإن التركيز اليوم توسّع ليشمل مراحل مختلفة من عملية الإنتاج ليست بالضرورة مرتبطة بالتصنيع نفسه.
فبعد أن تعطّلت بنسبة كبيرة حركة الشاحنات الأردنية المحمّلة بالبضائع من مينائي طرطوس واللاذقية في سوريا، برز ميناء حيفا «الإسرائيلي» كبديل مناسب وسريع، قريب جغرافيًا، ومنخفض التكاليف، أمام حركة البضائع من وإلى الأردن، وبخاصة باتجاه أوروبا وتركيا. فعوضًا عن نقل تلك البضائع عبر تركيا ومن ثم العراق الذي تتأرجح فيه الأوضاع الأمنية، أو عن نقلها عبر قناة السويس وميناء العقبة الذي يعني المزيد من التكاليف المادية والوقت، تصل البضائع من أوروبا إلى ميناء حيفا أو بالعكس في غضون أسبوع واحد، وفي غضون 7- 8 ساعات تصل من حيفا إلى الأردن. وهو ما رفع من مكانة ميناء حيفا أمام المصدرين والموردين الأردنيين، مع الإشارة إلى استمرار عمل ميناء العقبة واستقباله للبضائع. وفي موقع وزارة التعاون الإقليمي الإسرائيلي خصصت صفحة للحديث عن «إسرائيل كجسر بريّ بين الأردن وأوروبا»، ذكر فيها أنه في ظلّ هذه التغييرات الإقليمية، تم تمديد ساعات العمل في كل من ميناء حيفا وجسر الأردن جنوبي بيسان، للاستجابة للحركة التجارية النشطة.
وبحسب صحيفة «ذي ماركر» في تقرير لها في العام 2013، و بالاعتماد على أرقام سلطة الضرائب «الإسرائيلية»، فقد بلغ متوسط عدد الشاحنات التي حملت بضائع من وإلى الأردن عبر ميناء حيفا عام 2011، ما يقارب 292 شاحنة في الشهر، أي حوالي 3500 شاحنة في ذلك العام. ارتفع هذا الرقم في العام 2012 ليصل متوسط عدد تلك الشاحنات شهريًا 533 شاحنة، أي ما يقارب 6400 شاحنة في ذلك العام، أما في العام 2013، فقد بلغ متوسط عدد تلك الشاحنات 867 شاحنة، أي أكثر من 10 آلاف شاحنة في العام 2013.
ويذكر التقرير ذاته أن قافلة الشاحنات الأردنية تسير برفقة سيارات من شرطة الاحتلال، بدءًا من جسر الشيخ حسين شمالي فلسطين، حتى تصل إلى ميناء حيفا، وأنه لا يتم ختم جوازات السائقين الأردنيين بما يدل على أنهم مرّوا عبر نقاط الحدود «الإسرائيلية»، خاصة أن بعضهم سيكمل طريقه من ميناء حيفا محملًا بالبضائع باتجاه العراق. وفي التقرير نفسه، يقدّر أحد المسؤولين في وزارة التعاون الإقليمي الإسرائيلية بأن توجّه الموردين والمصدرين الأردنيين إلى ميناء حيفا يعني تحقيق أرباح بقيمة 200 مليون شيكل في السنة، مقابل الرسوم والبنزين وغيرها من التكاليف.
ولا يقف الأمر عند البضائع الأردنية، أو الموردين الأردنيين، فبحسب ذات التقرير، عدد من شركات النقليات الخليجية تنظر إلى ميناء حيفا باعتباره خيارًا اقتصاديًا استراتيجيًا لنقل بضائعهم من أوروبا إلى الخليج العربيّ أو بالعكس.
المنطقة الصناعية «بوابة الأردن»
بموازاة اتفاقية وادي عربة، جرى الحديث أكثر من مرة عن ضرورة إنشاء منطقة صناعية تشغيلية مشتركة بين الأردن ودولة الاحتلال سعيًا لتعزيز التعاون الاقتصادي تحت اسم «بوابة الأردن». في العام 1998 تم توقيع اتفاقية تنص على إقامة هذه المنطقة، وفي نهاية العام 2013 صدر القرار الحكومي الإسرائيلي النهائي بالموافقة على إقامة هذه المنطقة وتفاصيل ذلك. ومع بداية العام الجاري بدأت الأعمال فعليًا في جرف الأراضي والبدء بأعمال البناء.
وستقام المنطقة الصناعية التشغيلية المشتركة أو «بارك بوابة الأردن» على طرفي نهر الأردن جنوبي بيسان، على بعد 8 كم من جسر الملك حسين، 67 كم من ميناء حيفا. وتتألف من منطقة صناعية تشمل مصانع إسرائيلية وأردنية بمساحة 700 دونم على الأراضي الأردنية، بينما تقام في الجهة الإسرائيلية، وفوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، منطقة تشغيل ونقل بمساحة 245 دونمًا. وسيُبنى فوق نهر الأردن جسرٌ مخصص لهذه المنطقة المشتركة بطول 352 مترًا ليكون ممرًا لعبور البضائع والعمال من وإلى الأردن.
وتقدر تكلفة إقامة هذه المنطقة بحوالي خمسين مليون دولار أمريكي. ويلاحظ أن الجهة الإسرائيلية من هذه المنطقة المشتركة ليست منطقة تصنيع، إنما منطقة تشغيل ونقل فقط، مما يعني تعزيز مكانة ميناء حيفا كبوابة عبور البضائع المنتجة في الأردن بشكل عام، وفي المناطق الصناعية المشتركة بشكل خاصّ.
في مقال رأي للكاتب الصحفي الإسرائيلي «درور فوير» نشر في كانون الثاني 2017 في جريدة «جلوبس» الاقتصادية الإسرائيلية، قال «فوير» بأن من بين الإيجابيات الكثيرة التي يحملها مشروع «بوابة الأردن» لـ«إسرائيل»، هناك نقطتان هما الأهم، الأولى أن هذه المنطقة الصناعية التشغيلية على الحدود تعني تدفق حرًّا ورخيصًا وجذّابًا للأيدي العاملة الأردنية. يقول: «العمالة الأردنية أرخص من الرخيص. العامل الأردني لا يتمتع بقوانين عمل كتلك التي في إسرائيل (مثل معاش الحد الأدنى وغير ذلك)، (..) بالمناسبة، البطالة [في الأردن] وصلت السماء». ومن المتوقع أن يعمل في المنطقة الصناعية «بوابة الأردن» ما يتراوح بين 7500- 10 آلاف عامل أردني، و3000 عامل إسرائيلي.
أما النقطة الإيجابية الثانية لصالح «إسرائيل» بالذات، فهي بحسب «فوير»، أن منتجات هذه المنطقة الصناعية المشتركة يمكن أن يتم وسمها بـ«صنع في الأردن، صنع في إسرائيل، أو صنع في بوابة الأردن»، أي لكل منتج من منتجات هذه المنطقة إمكانية الاختيار بين هذه الوسوم الثلاثة. وهذا الأمر «إيجابي» بنظر «فوير» لأنه سيمكّن الشركات الإسرائيلية من تصدير منتجاتها إلى الدول التي لا تقول علانية أنها تتعامل مع «إسرائيل»، أو تلك غير المعنية بالتعامل معها، أي بكلمات أخرى: الوصول إلى أسواق إسلامية وعربية واسعة.
الغاز وقناة البحرين
إضافة إلى كل هذه الاتفاقيات الاقتصادية والمشاريع المشتركة، فإن أهم و«أخطر» مشروعين اقتصاديين بين الأردن ودولة الاحتلال هما قناة البحرين وصفقة الغاز. ومنبع الخطر أنهما ربطتا حاجة الأردن الاستراتيجية للطاقة والمياه بالمشاريع التطبيعية مع الاحتلال، أي أن حاجة الأردن من الماء والكهرباء أصبحت مربوطة بشكل قاطع بتطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، وأصبحت «إسرائيل» هي المصدر شبه الأوحد للحصول على كفاية الأردنيين من هذه المنتجات. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذين المشروعين دلالة على قدرة «إسرائيل» على التحكم بالعلاقات الاقتصادية التجارية في المنطقة دون الحاجة إلى إرهاق نفسها في «الحل السياسي» ليتم بعده توقيع كل هذه الاتفاقيات وتنفيذ المشاريع.
بالنسبة لمشروع قناة البحرين، فقد رافقت هذه الفكرة الحركةَ الصهيونية منذ بدايتها، فقد كتب ثيودور هرتسل الزعيم الصهيوني المعروف في كتابه «ألتينويلند» (التي تعني بالألمانية «بلاد قديمة – حديثة») والصادر عام 1902 عن حلمه بإنشاء قناة تربط بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وتستخدم مياهها لإنتاج الكهرباء. ولم يفت وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي سابقًا سيلفان شلوم، أن يذكر ذلك في حفل الإعلان عن توقيع الاتفاقية بين كلّ من الأردن والسلطة الفلسطينية و«إسرائيل»، والذي أقيم في واشنطن في كانون الأول 2013، إذ صرح: «إنه اتفاق تاريخيّ يحقق رؤية هرتسل».
مشروع قناة البحرين، أو كما يُسمى إسرائيليًا «ناقل السّلام»، هو في أحد أشكاله توظيف لحالة النقص الحادّ في المياه التي تعاني منها الأردن والضفة الغربية، في سبيل تعزيز سيطرة «إسرائيل» على مصادر المياه في المنطقة، وموضعة نفسها كصاحبة الحلّ والربط في مجال توزيع المياه وتحليتها. ولا يمكن في هذا الإطار فصل هذا المشروع عن الوضع الإقليمي للمياه، ففي حين تقوم دولة الاحتلال بإعادة استخدام 87% من المياه المستهلكة فيها عن طريق التحلية أو غيرها، وتعيش حالة من الاستقرار المائي المميزة في المنطقة، فإن مصر مثلًا تعاني من تحول قطاع كبير من النيل إلى سيل من المياه الملوثة، بينما لا يخفى وضع المياه في كل من سوريا والأردن.
يقوم المشروع على حفر وإنشاء قناة مياه وأنابيب يصل طولها إلى ما يقارب 192 كم، يتم من خلالها نقل المياه من البحر الأحمر نحو البحر الميت، على الطريق تقام محطة لتحلية المياه، فيتم استخدام المياه المحلاة وتوزيعها بين الأردن و«إسرائيل»، والضفة الغربية، بينما تكمل المياه المالحة طريقها نحو البحر الميت، في محاولة لرفع منسوب البحر الميت الآخذ في الانكماش. وعلى الطريق، تقام محطة لتوليد الكهرباء تستفيد من فرق الارتفاع بين البحر الأحمر والبحر الميت، وبالتالي تنتج قوة ضغط باستطاعتها توليد الكهرباء. كل ذلك بتمويل البنك الدولي والدول المانحة بقيمة تصل إلى 900 مليون دولار.
تعدّ دولة الاحتلال الرابح الأكبر من خلال هذا المشروع، إذ تعيد إنتاج علاقات السيطرة والهيمنة على مصادر الطاقة بشكل خاص المياه والكهرباء. بداية، يشكل هذا المشروع نافذة أمام الخبرات الإسرائيلية العلمية الواسعة في مجال تحلية المياه، والتي سيتم توظيفها في محطة تحلية المياه التي ستقام على طرف القناة. وستضمن بهذا وجود زبائن دائمين لهذه الخبرات، فكما ذكرنا سابقًا، تعيش دولة الاحتلال حالة مميزة من الاستقرار في مجال المياه مقارنة بدول المنطقة، بينما يعيش الأردنيون والفلسطينيون وغيرهم من العرب نقصًا حادًا في المياه. ومن ثمّ تأتي صفقة الغاز في العام الماضي لتزيد من رهن سيادة الأردن واحتياجه لمصادر الطاقة بيد دولة الاحتلال.
وقعت الأردن مع شركة «نوبل إنرجي» الأمريكية المسؤولة عن التنقيب في حقل الغاز «الإسرائيلي» «لفايثان» في سبتمبر الماضي اتفاقية تقضي بتزويد شركة الكهرباء الأردنية بـ 40% من حاجتها من الغاز لتوليد الكهرباء على مدار 15 عامًا، مقابل عشرة مليارات دولار. وتبلغ الكميات التي ستستوردها الشركة بدءًا من عام 2019 نحو 225 مليون قدم مكعبًا يوميًا.
هذه الصفقة جاءت منقذًا للحقل، بشراء الأردن عُشر كمية الغاز الموجودة فيه، بعد أن تضائلت فرص بيعه لأوروبا التي سيكلفها الغاز الكثير لتعقيدات إيصالها إليها. لذا، ليس مفاجئًا أن الولايات المتحدة كان قد ضغطت بشكل مباشر من أجل إتمام الصفقة بعقد اجتماعات ثلاثية رعاها الديوان الملكي.
العلاقات في أرقام
بحسب تقرير لجهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي، صادر في نوفمبر 2015، بين الأعوام 2008 – 2014، ارتفعت قيمة الصادرات من الأردن باتجاه «إسرائيل» من 105.9 مليون دولار إلى 378.1 مليون دولار، بينما انخفضت قيمة الصادرات من «إسرائيل» باتجاه الأردن من 288.5 مليون دولار إلى 107.8 مليون دولار.
وبحسب التقرير نفسه، فقد انخفض عدد المصدّرين الإسرائيليين الذين تعاملوا مع الأردن من 699 مصدِّرًا إلى 373 مصدّرًا عام 2014، وهو انخفاض بنسبة 47%. في المقابل، فقد بقي عدد الموردين من الأردن ثابتًا بعض الشيء، عام 2008 كان هنا 541 موردًا من الأردن، بينما وصل العدد عام 2014 إلى 543 موردًا.
خاتمة
حاولنا في هذه المقالة تقديم تعريف مختصر بأهم المحطات التي مرت بها شبكة العلاقات الاقتصادية بين الأردن ودولة الاحتلال في شكلها الرسمي بدءًا من اتفاقية وادي عربة. وقد يقول قائل، أنه في هذا السياق يجب أن لا نغفل عن حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية ومناهضة التطبيع، والتي يشتد عودها في الأردن بين الحين والآخر، وخاصة في فترات المواجهة المشتعلة بين الفلسطينيين والاحتلال، فترة الانتفاضة الثانية على سبيل المثال.
في المقابل، فإن حملات المقاطعة ومناهضة التطبيع والتي تعتمد الدعوة إلى عدم التعامل مع البضائع الإسرائيلية لا تكفي في هذا الصدد، فالحالة التي وصلتها العلاقات الاقتصادية مع دولة الاحتلال حالة متقدمة، وقريبًا ستصبح المقاطعة خيارًا شديد الصعوبة، فالبضاعة الإسرائيلية اليوم ليست الجوافة أو التفاح الإسرائيلي فقط، بل ستكون عما قريب الكهرباء والمياه في بيوت الأردنيين. عدا عن ذلك، لا نغفل عن القوى البشرية التي رُبطت بالاقتصاد الإسرائيلي عن طريق توفير فرص عمل لها إما داخل فلسطين المحتلة، كإيلات مثالًا، أو في المصانع الإسرائيلية داخل المناطق الصناعية المؤهلة، وهؤلاء يشكلون شريحة اجتماعية اقتصادية تعكس المزيد من الارتباط والاعتماد على السوق الإسرائيلية في توفير السلع، وفي توفير فرص العمل، وفي توفير فرص نقل البضائع.