من عمّان إلى الخرطوم، نقلت مجموعة من الطائرات ما لا يقل عن 800 لاجئ سوداني، في الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر عام 2015، بعضهم «رُحّل» مكبّل اليدين، وبعضهم دون أفراد عائلته أو وثائقه الرسمية. جاء ذلك تنفيذًا لقرار الحكومة الأردنية القاضي بإعادة مئات اللاجئين قسرًا للسودان، عقب فضّ اعتصام مفتوح أقاموه أمام مقر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، للمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية والإسراع في إجراءات إعادة توطينهم.
القرار الحكومي الذي نُفّذ سريعًا، برره الناطق باسم الحكومة محمد المومني، في حينه، بأنه جاء بعد رفض المفوضية إعطاء المُرحّلين صفة اللجوء، رغم أن الأخيرة أكدت في تصريحاتها أن المعادين قسرًا يحملون صفة اللاجئ، إلى جانب وثائق اللجوء التي اطّلعت حبر على مجموعة منها.
بدأت القصة فجر السادس عشر من كانون الأول 2015، وهو اليوم الثلاثون لاعتصام السودانيين المفتوح، عندما حضرت الأجهزة الأمنية للمكان، وانتشرت إشاعة بين المعتصمين أن كندا فتحت أبوابها للاجئين، وأن هناك مأوىً كبيرًا دافئًا سيجمع كل السودانيين المعتصمين، وأن على الجميع الصعود للحافلات التي جاءت برفقة الأمن، فاتصل من كان يعتصم بمن كان نائمًا ساعة الفجر، واستعجله القدوم كي لا يفوّت الرحلة لكندا.


كان نور الدائم وتاج الدين وعليّ في خيم الاعتصام، أمّا الزوجان بابكر وحوّا، فكانا نائمين في منزلهما، ومثلهما عبد المعطي وإمام، لكن هؤلاء جميعًا استيقظوا على اتصالات مستعجلة من سودانيين آخرين يحثّونهم فيها على المجيء بسرعه للمفوضية، لأن السلطات الأردنية وعدت بحلّ لمشاكلهم. أمّا أحمد وزوجته حليمة فلم يسمعا هذه الأخبار، ولكنهما قدما إلى المفوضية لكي يجددا وثائق لجوئهما.
تجمّع الكل على باب المفوضية، وأمامهم الأجهزة الأمنية التي حضرت لفضّ الاعتصام، والحافلات التي اعتقدوا أنها ذاهبة للمأوى الكبير. لكنّ حلم كندا بدأ يتحوّل كابوسًا عندما قامت الأجهزة الأمنية بتقييد الرجال.
«ليش يقيّدونا إذا كان في حلّ؟»، سأل عبد المعطي صديقه، فأجابه الصديق «لإنه هذا مش حلّ».
توجهت الحافلات للمطار، حيث مكث اللاجئون في ساحة الشحن الجوي على مدار يومين تضاربت خلالها الأخبار حول نية الحكومة تجاه اللاجئين، قبل أن تبدأ الأردن عملية ترحيل جماعية للاجئين فجر الثامن عشر من كانون الأول، مستندةً لتصريحات السفارة السودانية في عمّان حول استقرار الحالة الأمنية بدارفور، وبالتالي زوال الخطر عن اللاجئين، بحسب ما نقلت وسائل إعلامية.
في ساحة الشحن الجوي فهم اللاجئون نية الحكومة الأردنية إعادتهم للسودان، فأغلقوا باب المستودع لمنع عملية الترحيل، ما أدى لاشتباكات مع الأجهزة الأمنية، أسفرت عن إصابات العديد من السودانيين جرّاء إطلاق الغاز المسيّل للدموع.
خلال تلك الأحداث، انفصلت حوّا عن زوجها بابكر ورضيعتها آيات، فأُعيدت الأم للسودان وحدها، وبقي زوجها وطفلتهما في الأردن. السيناريو ذاته تكرّر مع حليمة التي تركت وراءها زوجها وطفلتيها. أما عبد المعطي، فعاد إلى درافور بعد الترحيل إلى الخرطوم، لكنه قُتل دهسًا بعد عودته بثلاثة أسابيع على يد ميليشات الجنجويد، حسبما نقلت عائلته. بينما حاول نور الدائم وتاج الدين وإمام وعلي بدء حياة لجوء جديدة في أوروبا، نجح ثلاثة منهم في الحصول إليها، ومات نور الدائم غرقًا في البحر الأبيض المتوسط.


حين يكون الترحيل موتًا

تهريب عبر المتوسط

أم تُفصَل عن عائلتها

أسرة صغيرة تتشتت

زوجان، كلٌ في بلد، وطفلة تربيها عائلة أخرى
تسألني حوّا، السودانية المقيمة في التشاد، عبر الهاتف عن ابنتها ذات التسعة عشر شهرًا في ذلك الحين (شباط الماضي)، إن كانت تجيد الكلام والمشي، وإن كانت قد قالت شيئًا خلال الزيارة التي قامت بها حبر لمنزل العائلة التي تعتني بالطفلة، في قرية الشونة الشمالية في غور الأردن، بعدما تم تسفير أمّها للسودان، ويعيش والدها وحده في عمّان.
لم تنطق الطفلة «آيات» خلال اللقاء بأي كلمة، سوى «ماما»، التي قالتها للسيدة التي بدأت برعايتها مذ أن كانت رضيعة تبلغ من العمر ثمانية أشهر، عندما كانت الطفلة تحاول التأقلم مع الفطام الذي أجبرها عليه الغياب القسري للأم.
تزوج بابكر وحوّا في دارفور، وقرّرا اللجوء بسبب الحرب الدائرة هناك، والتي أسفرت عن مقتل أفراد من عائلة بابكر. قدما إلى الأردن بفيزا للعلاج عام 2014 وطلبا اللجوء، فاعترفت المفوضية بهما كلاجئين في نفس العام، دون أن يحصلا على دعم مادي منتظم، باستثناء مساعدة مادية قدمتها المفوضية مرتين.
وكغيرهما من السودانيين في الأردن، لم يتمكنا من العمل بسهولة في ظل قانون العمل الساري، والذي يفرض قيودًا كبيرة على عمل اللاجئين. أنجبا آيات عام 2015، وبقيا في انتظار إعادة التوطين.
وصل بابكر اتصال هاتفي فجر السادس عشر من كانون الأول 2015 من لاجئٍ آخر، يخبره بإشاعة الهجرة إلى كندا، ويحثّه على القدوم مسرعًا مع عائلته للمفوضية كي يلحق دوره في إعادة التوطين. صدّق بابكر الإشاعة وذهب لمكان الاعتصام، ليتفاجأ بتعامل أمني عنيف، بحسبه، أدّى لتقييد بابكر وإجبار العائلة على الصعود للحافلة.
مكث بابكر وزوجته وابنتهم في الحافلة لساعات طويلة، قبل أن ينزل الجميع إلى مستودع كبير قرب المطار، شهد بعدها صدامات بين السودانيين والأمن الأردني، رفضًا للتسفير. خلال الاشتباكات، ألقت الأجهزة الأمنية قنابل الغاز بكثافة داخل المستودع، فأصيبت حوّا بالاختناق، لتنقل برفقة بابكر وآيات وآخرين إلى مستشفى البشير.
في المستشفى، طلب الطبيب من بابكر أن يأخذ حوّا لقسم النسائية بدلًا من الطوارئ، فحمل بابكر ابنته وصعد الدرج على أن تلحق به زوجته. لكنّ حوًا شاهدت عندها مجموعة من السودانيين تخرج من الباب فاعتقدت أن بابكر سلك تلك الطريق، وخرجت معهم خطأً، ولم تتمكن من العودة مجددًا، وكان ذلك آخر لقاء لها بزوجها وابنتها.

على باب المستشفى، وقفت سيارات الأمن، تقبض على السودانيين الخارجين من المستشفى لتعيدهم للمطار. لم تتمكن حوّا خلال تلك الفوضى أن تعرف أين ذهب بابكر وآيات، لينتهي بها الأمر داخل سيارة الأمن التي نقلتها إلى المطار، لتُرحّل من هناك بالطائرة إلى الخرطوم، دون أن يكون معها جواز سفرها أو أي وثيقة أخرى، ودون أن يصدق أحد أن رضيعتها بقيت في عمّان.
بحث بابكر عن حوّا في البشير ولم يجدها، فاعتقد أنها سبقته للمنزل بالخطأ، وتوجه مع حلول الفجر إلى منزلهما في الجوفة مع أن مفتاح البيت رحل مع حوّا. جلس بابكر مع ابنته آيات أمام بيتهما لساعات بالرغم من برودة طقس كانون الأول، ومع ساعات الصباح تمكن بابكر من كسر باب المنزل ودخل بانتظار خبرٍ عن حوّا، لكنها اتصلت به وهي تصعد الطائرة تبلغه ما حصل، دون أن يكون بإمكانه فعل أي شيء.
قبل أن يستوعب بابكر ما حصل لزوجته والعائلة، اصطدم بجوع آيات وحاجتها لحليب أمها، وواقع عنايته بطفلته وحيدًا. توجّه للمفوضية طلبًا للمساعدة أو لحلول لرعاية الطفلة أو لمّ شمل العائلة، دون فائدة. المساعدة الوحيدة التي حصل عليها كانت من منظمة دولية أعطته حليبًا لمرة واحدة بعد أن راجعهم لشهر، لكن حتى هذه المساعدة لم تنفع، فالحليب لم يكن مخصصًا لعمر آيات.
يقول بابكرإنه اتصل مرارًا بأرقام الطوارئ لمفوضية شؤون اللاجئين خلال تنفيذ الترحيل، دون أن يجيب أحد، وهو ما يؤكده اللاجئون الآخرون الذين قابلتهم حبر.
تمكّنت آيات من تجاوز عقبة الفطام، لكنّ بابكر لم يتمكّن من الاعتناء بها أكثر من ثلاثة أشهر، فتطوّع قريبه إبراهيم وزوجته اللذان قدما للأردن بداية التسعينيات، لرعاية الطفلة، وأخذاها إلى منزلهما في الشونة الشمالية، حيث تعيش الآن مع أولاد إبراهيم الثلاثة.
في الخرطوم، لم تجد حوّا من يعنى بأمرها بعد خروجها من المطار. فلم تعرف، وهي الغريبة عن المدينة، إلى أين تتوجه. فعادت لإقليمها الذي هربت منه باحثةً عن عائلتها. «بعد ما رجعت دارفور، قالوا لي أن أمي وأبوي في معسكر بالتشاد، فإجيت، وطلعوا مش موجودين، وما معي مصاري أدوّر عليهم»، تقول في اتصال مع حبر، وهي داخل إحدى معسكرات المنظمات الدولية في التشاد، حيث تقيم مع عائلة تعرفها، ولا تملك ما يمكّنها من البحث عن عائلتها في المعسكرات الأخرى، ولا ما يمكّنها من استخراج أوراق ثبوتية جديدة، ما يزيد ضآلة فرصة لمّ شملها مع ابنتها آيات وزوجها.
مع عائلة إبراهيم، تعلمت آيات المشي، وبدأت تحفظ أن ماما هي أم محمد، لكنّ بابا تقال لاثنين، إبراهيم-الذي يرعاها- ووالدها بابكر الذي يزورها كلما سمحت أحواله المادية.
تقول أم محمد -زوجة إبراهيم- أنّ حوّا تتمكن في بعض الأحيان من الاتصال بالعائلة، حيث تحرص أم محمد على فتح كاميرا الاتصال كي يتسنى للطفلة التعرف على والدتها الحقيقة، لكن الهدف لا يتحقق وتنتهي المكالمة ببكاء حوّا لعدم تجاوب آيات معها.
بين التشاد التي تعيش فيها حوّا، والشونة الشمالية التي تعيش فيها آيات، وعمّان التي يعيش فيها بابكر، تظل العائلة تبحث عن حلّ لتعود كما كانت، لكن في بلدٍ ثالث.
جرى آخر تحديث لمعلومات هذه القصة في نيسان الماضي.

طفلتان تدفعان ثمن ترحيل الحكومة
يستيقظ أحمد يوميًا، يساعد طفلته الكبرى عائشة* على الاستعداد للذهاب للمدرسة، يوصلها لمدرستها التي تبعد عشر دقائق عن منزله في جبل النظيف، ويعود مسرعًا خوفًا من أن تستيقظ الطفلة الأخرى، فاطمة* التي يتركها وحدها في المنزل نائمة.
لا يترك أحمد فاطمة، ابنة السنوات الثلاث، في المنزل لوحدها بخياره، لكنّ تعرض الأطفال الآخرين لعائشة في طريقها إلى مدرستها أجبره على ذلك، فهو لا يستطيع أن يتركها تتعرض للأذى، بالأخص، منذ أن نجت من اعتداء أكبر تعرضت له بعد ترحيل والدتها مع مئات السودانيين الآخرين.
صباح يوم السادس عشر من كانون الأول 2015، ذهب أحمد وزوجته حليمة*، أم طفلتيه، إلى مقر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في عمّان، لتجديد بطاقة الاعتراف باللجوء التي حصلا عليها عام 2014، والتي صادف موعد تجديدها ذلك اليوم بالتحديد. تفاجأ الزوجان بوجود رجال الأمن والحافلات أمام المفوضية، وبإشاعة التوصل لحل لقضيتهم. ودون أن تحصل العائلة على كثير من الوقت للتحقق من تفاصيل الحل، تم تقييد أحمد وصعد مع زوجته وابنتيه للحافلة.
«الساعة ستة صباحًا كنا أنا وعائلتي، والطريق مليان شرطة»، يسرد أحمد. «شرطي ناداني حكى لي إنت سوداني؟ حكيت له آه، حكى لي روح عند إخوانك، حكيت له أنا عندي تجديد، حكى لي فش تجديد، في تسفير، حكيت له يا ريت بس عن طريق المفوضية مش عن طريق شرطة (..) كلبشوني وركبت الباص، والمدام ركبت باص ثاني».
يروي أحمد تفاصيل ذلك اليوم، وحين نقلوا من المفوضية إلى المستودع القريب من المطار، الذي أُنزل المُرَحلوّن فيه بانتظار إتمام إجراءات التسفير، ليتصادموا مع الأجهزة الأمنية الأردنية التي أطلقت عليها الغاز المسيل للدموع، وتصاب على إثر ذلك حليمة بالاختناق، وتُنقل إلى مستشفى التوتنجي.
خلال مكوث حليمة في طوارئ التوتنجي، ذهب أحمد مع ابنتيه إلى منزله في سحاب، كي يبدّل ملابس الطفلتين ويطعمهما، بعد ما يزيد عن 16 ساعة من إجراءات تسفير وترحيل واشتباكات.
في تلك الأثناء، أتمّت حليمة علاجها، وأثناء خروجها من باب المستشفى، تفاجأت بسيارات الأمن العام تنتظر السودانيين المنتهي علاجهم، لتعيدهم للمستودع قرب المطار.
تقول حليمة إنها تعرّضت للخديعة مرتين، الأولى أمام المفوضية، عندما قيل لها أنها ذاهبة لكندا، والثانية عندما رفضت الصعود لباص الأمن الذي كان ينتظرها خارج مستشفى التوتنجي وهي تسأل عن عائلتها، فأجابها أفراد الأمن بأنهم جميعًا ينتظرونها في المطار، وعليها الصعود كي تلتحق بهم.
فهمت حليمة الحقيقة وهي في المطار، بعدما تمكنت من الاتصال بزوجها وتأكدت منه بأنه في المنزل، فتوسّلت للجهات الرسمية أن تعود لعائلتها، لكنهم كذّبوها. «حتى عرضِت عليهم يشوفوا حليبي عشان يتأكدوا إني مرضعة، وما حد صدّقني». يقول أحمد إن أحد رجال الأمن اتصل به وعرض عليه أن يلتحق وطفلتيه بزوجته في المطار خلال 20 دقيقة. «قلتله ما بلحق أوصل بـ20 دقيقة، أعطيني وقت أكثر. رفض، وحكى لي إذن رح نسفّرها».
بالنتيجة، أُجبرت حليمة على صعود الطائرة المتجهة إلى الخرطوم، وبقي أحمد في عمّان، مع عائشة التي كانت في السابعة من العمر، وفاطمة التي كانت ابنة السنة وأربعة أشهر.
لم تكن حليمة قد فطمت فاطمة قبل الترحيل. ظلت الطفلة ترفض الحليب الذي يشتريه والدها لعدة أيام، حتى هزلت ونُقلت للمستشفى، بعدها بدأت الطفلة تشرب الحليب، لتكون أولى المتأقلمين مع فصل جديد من حياة العائلة.
توجه أحمد للمفوضية مرات عديدة لإيجاد حل يلمّ شمل العائلة، أو دعم مالي يمكنه من تحمل العيش وحده مع الطفلتين، بالأخص مع صعوبة عمله وتركهما بالمنزل، دون أن يتلقى المساعدة، فلجأ إلى السكن مع لاجئين آخرين لتقاسم إيجار المنزل، دون أن يعلم بما سيؤول إليه هذا القرار.
بعد عدة أشهر من السكن في ذلك المنزل، تعرّضت عائشة لاعتداءٍ جنسي من شركاء أحمد في السكن. أبلغ أحمد المفوضية، وألقي القبض على المتهمين وأحيلوا للمحاكمة، التي ما زالت مستمرة حتى الآن. وتحفظت إحدى دور الرعاية على الطفلتين، باعتبار وجودهما مع والدهما غير آمن.
مكثت الطفلتان في دار الرعاية نحو سبعة أشهر، تعرّفت حبر على أحمد خلالها. كان يتحدث عن حيرته وهو يعلم أن الفتاتين تلقيان العناية في دار الرعاية، لكنه يشتاق لأن يعيش أبًا مع عائلته، مع أنه يزور الفتاتين مرة كل أسبوعين بالأكثر، يعرف من خلالها أنّ ابنته الكبرى تتحسن نفسيًا، وأن الصغرى فقدت اللهجة السودانية، «بتحكي أردني، ولا كلمة سوداني»، يقول ضاحكًا.
حاول أحمد أن يستعيد الفتاتين، لكن دار الرعاية اشترطت عليه تأمين مكان سكن آمن لهما، وأن تحضر أمهما، وبعد فشل مساعي إعادة حليمة، سلّمت دار الرعاية الابنتين لأبيهما، بعد تأكدها من أن أحمد يستأجر منزلًا آخر مناسبًا لهما.
في بداية مكوث الفتيات في دار الرعاية، لم يكن مسموحًا لأحمد أن يفتح خط الاتصال بينهن وبين أمهن، التي كانت تخوض تجربة أخرى في الانتقال من بلد لبلد، لمحاولة الإلتقاء مع بناتها في بلدٍ ثالث.
تمكنت حليمة من استخراج أوراق ثبوتية جديدة بعد وصولها للخرطوم ومكوثها هناك قرابة شهر عند عائلة تعرفها، ركبت بعدها سيارة نقلتها للحدود مع مصر، لتدخلها طالبةً اللجوء مرة أخرى حتى حصلت على اعتراف من مفوضية شؤون اللاجئين في القاهرة بها كلاجئة للمرة الثانية، دون دعمٍ مادي.
بعد ترحيل حليمة بخمسة أشهر، حصل فيها أحمد على إقرار بدعم الأسرة شهريًا بمبلغ 160 دينارًا، يدفع منها 100 دينار أجرة منزل وفواتير، ويرسل 40 دينارًا لزوجته في مصر ما يمكنها من أن تتقاسم أجرة السكن مع لاجئات أخريات، وكان يدفع 30 دينارًا أخرى على حليب فاطمة قبل أن تذهب لدار الرعاية.
حليمة وأحمد تزوجا عام 2007، بعد قصة حب جمعتهما خلال دراستهما الجامعية في السودان. لكنّ أصوله الدارفورية جعلته خاضعًا للاعتقالات المتتالية في الجامعة، فقرر الهجرة إلى «إسرائيل».
مشى أحمد عبر الصحراء في عام 2010، حتى وصل إلى «إسرائيل» وتسلل لداخلها باحثًا عن عمل، لكن الأجهزة الأمنية هناك ألقت القبض عليه وأعادته للسودان، حيث سُجن 13 يومًا فور وصوله مطار الخرطوم لأنه عائد من «إسرائيل» بحسبه، ولم يتمكن بعدها من العيش مع زوجته بعدما فرضت السلطات السودانية عليه الإقامة الجبرية لخمسة أشهر في أحد المنازل في الخرطوم، فما كان منه إلا أن يتدبّر مبلغًا ماليًا لاستخراج أوراق ثبوتية بأسماء مستعارة أخرى ليسافر بها للأردن مع زوجته.
وصل أحمد وحليمة وابنتهما عائشة إلى الأردن بتأشيرة دخول للعلاج في تشرين ثاني 2013، وحصلا على اعتراف باللجوء في كانون أول 2014 دون دعمٍ مادي، فعمل أحمد في الحدادة وورشات الدهان بعدما سكن في منزلٍ بسحاب، بانتظار الموافقة على إعادة توطين العائلة في بلدٍ ثالث. وولدت الصغيرة فاطمة عام 2014.
يواجه أحمد، بعد أن عادت ابنتاه للعيش معه، صعوبة في إجابة أسئلتهما عن أمهما، تحديدًا الابنة الكبرى، عائشة. «بتسأل كثير ليش كل الناس مع أمهاتهم موجودات وإحنا مبعدين عن أمنا؟ هذا السؤال بيهزّني كثير، وبعدين بتصير تبكي وأختها الصغيرة تبكي معاها».
جرى آخر تحديث لمعلومات هذه القصة في نيسان الماضي.

أربعة يخرجون من عمّان، وثلاثة يصلون باريس
في ساحة «تروكاديرو» المطلّة على برج إيفيل في باريس، وقفتُ مع علي وإمام* وتاج الدين، كي يعرفونا على الأحياء والشوارع التي باتوا يحفظونها ليتأقلموا مع مسكنهم الجديد. ثلاثتهم تعرفوا على بعضهم في فرنسا بالصدفة، واكتشفوا أنهم كانوا سويًا في عمّان، وأنهم مروا بالتجربة نفسها بالعودة القسرية من عمّان للخرطوم، وركبوا البحر إلى إيطاليا، وقطعوا الطريق نفسها لفرنسا، لكنهم لم يلتقوا إلا في باريس. الوحيد الذي كانت تربطهم به علاقة معرفة في عمّان ممن هاجروا لأوروبا كان نور الدائم، الذي غرق في البحر الأبيض المتوسط.
لم يُخفِ الشباب الثلاثة حنينهم لعمّان. يقول إمام إن له في شوارع العاصمة الأردنية ذكريات كثيرة يحنّ لها. بينما يذهب علي في حنينه للهجة الأردنية حد البحث عن أوقات عرض فلم «ذيب» الأردني في دور السينما الفرنسية. «متعلق بالأردن شديد. هي جزء من قصة حياتي، يمكن تقولي بداية غربتي كانت الأردن، وعشت أجمل أيامي فيها على الرغم من أن النهاية غير جيدة»، يقول علي لحبر.
لكنّ التفكير بحياتهم القادمة، والحنين لجميل الذكريات لم ينسِ أيًا منهم تفاصيل الرحلة لفرنسا، التي بدأت بعد ارتكاب الأردن لـ«جريمة بحق الإنسانية»، تمثلت في ترحيلهم، بحسب تاج الدين.
يروي الشباب الثلاثة مرحلة ما بعد وصولهم مطار الخرطوم، الذي شهد حضورًا لشخصيات معروفة وممثلين عن النظام لاستقبال السودانيين المُعادين قسرًا. «كانوا يقولوا لنا الحمد لله على السلامة على عودتكم طوعًا. يعني عايزين يقولوا للرأي العام إننا وصلنا بمحض إرادتنا، وكاميرات الأجهزة الإعلامية شغالة بث مباشر»، يروي تاج الدين، الذي يفسر ذلك بوجود نية سياسية بإظهار استقرار السودان أمنيًا.
بعد إتمام اللاجئين للإجراءات الأمنية في المطار، المتمثلة بالاستجوابات وأخذ الصور الشخصية والبصمات، قُدّم لكل منهم ظرف فيه خمسون جنيهًا سودانيًا، وخرج الجميع إلى الحافلات أمام عدسات المصوّرين. انطلقت الحافلات بنيّة التوجه لأحد الأسواق في الخرطوم، لكن، بعد أن ابتعد المعادون عن المطار، أوقفت عناصر أمنية الحافلات لاعتقال من ترغب بالتحقيق معه. تمكّن البعض من الهرب، واعتُقل آخرون، وتُرك قسم ثالث لم ترغب السلطات بتوقيفه، بحسب تاج الدين.
كان علي من ضمن هؤلاء المعتقلين، فاحتجز لثلاثة أيام تعرض خلالها للاستجواب والتحقيق من قبل أفراد يتبعون للسلطات الرسمية بحسب ما يقول، قبل أن يساعده أحد أفراد تلك الأجهزة على الهرب، بحسب ما يروي، بينما يؤكد تاج الدين بأنه تعرض للتعذيب بعد احتجازه لأيام فور خروجه من المطار.
أما إمام، فنجح بالإفلات من عملية الاعتقال تلك، ووصل إلى منزل عمه في الخرطوم. لكن عمّه تخوّف من إبقائه في منزله، فساعده كي يسافر إلى ليبيا بعد يومين من وصوله: «في الخرطوم ما في مقوّمات أعيش، الاعتقالات حاصلة، وفي كل زمان أنا خايف على حياتي». يقول إمام، ليبدأ بعدها رحلة لجوء جديدة، هدفها الوصول لأوروبا، كي يحظى «بالأمان».
وصل إمام الحدود السودانية-المصرية بمساعدة عمه، ومشى سيرًا على الأقدام لثلاث ساعات كي يقطع الحدود لمصر، ثم استقل سيارة أوصلته الحدود مع ليبيا، وقطعها مشيًا في خمس ساعات أخرى، ومن هناك تدبر سيارة توصله طرابلس، وبقي فيها نحو ستة أشهر، عمل خلالها مزارعًا في حقول البندورة كي يؤمّن المبلغ اللازم للمهربين الذين سينقلونه لأوروبا عبر قوارب الهجرة غير القانونية.
حين أمّن إمام المبلغ اللازم، دخل «التخزين» في الثامن من أيار لعام 2016، وهي مساحة يقيم فيها من اتفق مع المهربين على الهجرة حتى يصله الدور، بظروف معيشية صعبة.
بعد ستٍ وعشرين يومًا، خرج إمام من التخزين برفقة عدد من الشباب، كي ينفخوا القارب المطاطي الذي سيعبر بهم البحر إلى المياه الإقليمية الإيطالية. «يا تنفخ البالونة، يا توخذ طلقتين»، يقول إمام واصفًا تهديد المهربين للشباب. «يومها دخلوا وحكوا: إنت وإنت وإنت عشانكم طوال القامة]، وحكوا لنا شيلوا البالونة وخذوها على نص المي وانفخوها (..) ما ممكن تحكي لأ، تحكي للمافيا لأ؟ (..) ورا في نار، وقدّام في مي، تعمل إيه؟ مهو كده، كده ميت. هو أصلًا لو أنا ما مضطهد كان ما ركبت البالون».
انطلق القارب وعلى متنه 350 مهاجرًا وقوفًا، فمساحة القارب لا تسمح بالجلوس. وصل المهاجرون إلى جزيرة صقلية الإيطالية بعد ثمان ساعات، بعدما فقدوا خلال الرحلة طفلًا أرتيريًا ابن ستة أيام ولدته أمه في التخزين ولم يحتمل الإبحار، وشابًا ماليًا كان مصابًا بقدمه، «ضربوه المهربين برجله ومع النزيف مات»، يقول إمام، لتلقى جثتاهما في البحر.
وصل إمام إلى مخيم في إيطاليا، حيث تم توثيق وصوله وأخذ صورته وبصماته، لكنه أصرّ على أن يتابع رحلته لفرنسا، فاستمر في رحلته عبر القطارات حتى وصل باريس، حيث طلب اللجوء.