رأي

أحمد الدقامسة بين ثنائية البطولة والإجرام

الإثنين 13 آذار 2017

من يتابع النقاشات حول قضية الجندي أحمد الدقامسة قد يصل إلى استنتاجين، أولهما أنه قد أصبحت هناك «ثقافة» تبسيطية للمواقف، تحديدًا لدى «النخب»، تطغى بشكل عام على نقاش قضايا اجتماعية وسياسية في غاية التعقيد، وبدلًا من تفسير هذه القضايا ومناقشتها دون تشنّج يتم الهروب من تعقيداتها وحصرها بين ثنائيات على شاكلة «هل الدقامسة بطل أم مجرم؟». أما الاستنتاج الثاني فهو تحوّل كثيرٍ من الليبراليين الذين ينادون بالحوار والانفتاح وتقبّل الآخر، وينتقدون أبناء المدارس السياسية والأيديولوجية الأخرى لاستخفافهم بهذه «المبادئ»، إلى متعصبين عقائديين يملكون قناعات مُطلقة تُصاغ عند محاورة الآخر على شاكلة «أجب بنعم أو لا»، هذا السؤال السلطوي الذي لا يمارسه إلا محقق يعمل في جهاز أمني ما أو أستاذ مدرسة على تلاميذه مستغلًا علاقات القوة بينهما.

باعتقادي، إن حصر مسألة الدقامسة بين ثنائية البطولة والإجرام ما هو إلا هروب، وعدم قدرة على مناقشة القضية في سياقها الذي لا يمكن مناقشتها بمعزل عنه. تحويل الدقامسة إلى أسطورة أو تحويله إلى مجرم يحرمنا – مع التمييز بينهما، إذ أنهما ليسا وجهين لعملة واحدة، كما سأوضح هذا لاحقًا- من فتح حوارات تهدف إلى محاولة الاتفاق على ماذا نريد كأردنيين، وكيف نفهم الصراع مع إسرائيل، تحديدًا إذا اتفقنا على نقطة مهمة ومركزية وهي أن إسرائيل عدوّنا الذي يقف في وجه أي عملية تقدم سياسية كانت أم اقتصادية لنا ولشعوب منطقتنا.

قتل الدقامسة للإسرائيليات في عام 1997 في منطقة الباقورة أتى في سياق سياسيّ مركّب له علاقة بصراع طويل مع الاحتلال، يمتد إلى عشرات السنوات من جانب، ومشروع تسوية القضية الفلسطينية وتوقيع معاهدة وادي عربة من جانب آخر. ولا تعتبر حادثة الدقامسة حادثة فريدة من نوعها، بل إن الفعل الذي قام به شبيه بالفعل الذي قام فيه الجندي المصري سليمان خاطر عام 1985، ووجه الشبه بينهما يصل إلى حد التطابق؛ سواء من حيث السياق السياسي للفعل في بلدين وقعت أنظمتهما معاهدات سلام مع “إسرائيل”، أو من حيث ردة فعل السلطة السياسية في هذين البلدين على هذا الفعل أو شكل المحاكمة وتفاصيلها ومدة المحكومية إضافة إلى الخطاب الذي استخدم في وصف الرجلين من قبل هذه السلطات.

من المُخلّ التعامل مع حادثة الدقامسة وكأنها «جريمة طبربور»، وهذا ما يحدث عندما يتم نزع الفعل من سياقه السياسي والتاريخي

الدقامسة وخاطر «أناسٌ عاديّون» بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، لم يكونا قيادات في مشروع ثوري ولا يعيبهم هذا. فالدقامسة، كما أشار أحمد أبو خليل على حسابه على فيسبوك، لم يدّعِ يومًا بأنه مناضل سياسي بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة لا قبل العملية ولا بعدها، فهو وخاطر أبناء مدرسة واحدة، مدرسة الدفاع عن الوطن، والوطن كما يعرفه جيدًا أبناء القرى الحدودية الذين صادر الاحتلال أفقهم ومخيالهم وامتدادهم الاجتماعي والاقتصادي هو نقيض لكل شيء له علاقة بإسرائيل. الدقامسة وخاطر حرّكتهما مشاعر مُركّبة من الظلم التاريخي الذي سببه الاحتلال، ومن الشعور بالإهانة التي سببتها السلطة السياسية بمعاهداتها واتفاقياتها، وتمت محاكمتهما لأسباب تتعلق بطبيعة العلاقة بين الأنظمة السياسية في هذين البلدين وإسرائيل من جانب، وقطع الطريق على تحويلهما إلى نماذج يُقتدى بها من جانب آخر.

باعتقادي، من المُخلّ على مستويات عديدة التعامل مع حادثة الدقامسة وكأنها «جريمة طبربور»، وهذا ما يحدث عندما يتم نزع الفعل من سياقه السياسي والتاريخي وشخصنته ثم محاكمته أخلاقيًا كأنه قضية جنائية بحتة. حتى سلطة القانون التي، بنظري، تخدم مصالح الطرف الأقوى في المجتمع، لا تفعل هذا في الحكم على القضايا الجنائية بل تتناول المسائل بأبعادها المتعددة وظروفها المختلفة ومكانها وزمانها. لذلك، هناك فرق بين فعل الأسطرة وفعل الشيطنة، وإن كنت قد أختلف مع كليهما، لكنني أتفهم أحدهما وأرفض الآخر؛ فالأول يُعبّر عن مزاج عام من العداء لإسرائيل، يستخدم كل الإرث المناهض للاحتلال والرافض لمعاهدات السلام ويُسقطه على الحادثة، والآخر ينتزع الفعل من قالبه السياسي ويختزله بخطاب أخلاقي -من المهم مناقشته لكن في سياقه-، ويصبغ عليه طابع مساواةٍ مُضلل بين أطراف في معركة غير متكافئة أحدهما اختارها والآخر فُرضت عليه.

المسألة ليست اختلافًا في وجهات نظر، بل تتعلق أيضًا بطريقة التفكير والمنهج المستخدم لتحليل الظواهر. فعلى سبيل المثال؛ مَن يرى السرقة عبارة عن فعل مشين وغير أخلاقي فقط ليس كمن يرى السرقة ردة فعل على منظومة غير أخلاقية تقوم على الاستغلال والتمييز بين الناس. هذان خطابان مختلفان كليًا حتى لو اتفق كلاهما على نبذ فعل السرقة بحد ذاته.

إن احتكار الخطاب الأخلاقي المتعلق برفض قتل الأطفال أو المدنيين وكأن من يحتفل بالإفراج عن الدقامسة ويرفض شيطنته هم مصاصو دماء، يتقاطع -وإن كان لا يدري- مع سردية الكثير من الصهاينة الذين يؤكدون بأن الشعب الأردني واحد من أكثر الشعوب «تطرفًا» تجاه إسرائيل. فرحة الكثيرين بالإفراج عن الدقامسة هي تعبير عن أمور أكبر بكثير من الفعل نفسه؛ إنها انعكاسٌ لحالة العداء مع إسرائيل كدولة احتلال، وتعبير عن حالة رفض مستمر لاتفاقية وادي عربة التي يعتبرها الأردنيون تنازلًا تاريخيًا من المستحيل الاعتراف به ولا تعبر عنهم بالمطلق، وهذا ما أكده المؤرخ الأردني علي محافظة في كتابه «الديمقراطية المقيّدة» حين أشار إلى أن الأردنيين كانوا يطلقون على السلام مع إسرائيل «سلام الملك». كما أنها تعبير عن حالة الاستياء العام من غياب أي أفق لمشروع سياسي تحرري.

تنظيمات ثورية وحركات مقاومة مدعومة بنظريات كبرى ارتكبت أخطاء، فماذا عن أشخاص وجدوا أنفسهم وحيدين في معركة غير متكافئة على الإطلاق!

يعتقد دعاة الخطاب الأخلاقي بأنهم أنبياء وسط محيط من الشياطين عندما يتحدثون عن رفض فكرة قتل الأطفال والمدنيين، وكثيرٌ منهم لا يدرك بأنه لم تعد هناك حركة مقاومة في العالم لم تقدّم مراجعات فكرية وسياسية للفعل المقاوم وما هو مشروع منه وما هو غير مشروع، وسال حبر كثير في مناقشة هذه القضايا، لذلك لم يتردد كثيرون بالقول بأن مشروع مناهضة الاحتلال ليس مشروعًا نقيًا خالصًا ملائكيًا، وما يصدر عنه من ممارسات تحتمل الصواب والخطأ وليست مسلمات ممنوعٌ مناقشتها، لكن الفرق هو أرضية نقاش هذه المسائل؛ هل هي أرضية الحرص على المشروع أم أرضية التحريض ضده؟

تنظيمات ثورية وحركات مقاومة مدعومة بنظريات كبرى ارتكبت أخطاء، فماذا عن أشخاص وجدوا أنفسهم وحيدين في معركة غير متكافئة على الإطلاق! لذلك يعتبر وضع الخطأ في سياقه مسألة مهمة، ليس من باب تبرير الفعل بل من باب الإنصاف لأناس دفعوا أعمارهم ثمنًا على هذا الطريق، في الوقت الذي كنّا نحن -باقي الناس- نعمل ونتعلم ونعيش حياتنا بحلوها ومرها، وبعضنا كان يسعى إلى زيادة حسابه البنكي وممتلكاته ليجد نفسه لاحقًا في وضع يسمح له بكل أريحية أن يحدد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، أو يتحول إلى نسخة عن الملاكَيْن اللذين حدثتنا عنهما القصة الدينية، هاروت وماروت اللذين تباهيا بنقائهما، واكتشفا لاحقًا عندما هبطا على الأرض أن النقاء الخالص لا يحمل أي قيمة أخلاقية، ما دام ذلك النقاء موجودًا في غياب الدوافع والرغبات.

إذا كان ما فعله الدقامسة خطأً فإن الاحتلال هو المسؤول الأول عن هذا الخطأ، وهذا ليس تبريرًا بل واقع لا أسعى من خلاله إلى رسم مقارنات مخلّة بين أطراف لا تصلح المقارنة بينها، فأنا مقتنع بأن الاحتلال يُمِارس القتل كوظيفة دون التفكير بأبعاده أو على من يُمَارس، ولا أخجل أن أقول أن المشروع المُناهض له يفترض به أن يكون نقيضه وإلا ألا يكون.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية