بقلم جيسون هيكل
ترجمة دانة أبو حجلة
(نشر هذا المقال في صحيفة الغارديان البريطانية في 14 كانون الثاني).
لطالما تليت على أسماعنا رواية مقنعة عن علاقة الدول الغنية بالفقيرة. تقول الرواية إن الدول الغنية العضوة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تجود بثرواتها على الشعوب الفقيرة في دول الجنوب بهدف مساعدتها في القضاء على الفقر وارتقاء سلم التنمية. نعم، لقد اغتنت القوى الغربية بفضل موارد مستعمراتها واستعباد أهلها خلال حقبة الاستعمار، إلا أن كل هذا بات من الماضي. هذه الأيام، تبلغ المساعدات التي يقدمها الغرب سنويًا أكثر من 125 مليار دولار، وهي خير دليل على حسن نواياه.
إن ترويج هذه الرواية من قبل تجارة المساعدات وحكومات العالم الغني وصل بنا حد اعتبارها من المسلمات، إلا أن الأمور قد لا تكون بالبساطة التي تبدو عليها.
مؤخرًا، نشرت منظمة النزاهة المالية العالمية في الولايات المتحدة ومركز البحوث التطبيقية في الكلية النرويجية للاقتصاد بيانات مذهلة، حيث جمعا كل الموارد المالية التي تنتقل سنويًا بين الدول الغنية والفقيرة، ولا تنحصر هذه الموارد في المساعدات والاستثمارات الأجنبية وحركة السلع والخدمات (خلافًا لما اكتفت به الدراسات السابقة)، بل تشمل أيضًا تحويلات غير مالية من قبيل شطب الديون، وتحويلات غير متبادلة مثل تحويلات المغتربين والهروب غير الموثق لرؤوس الأموال (المزيد حول هذه الجزئية لاحقًا). على حد علمي، فهذه الدراسة أكثر التقييمات شمولًا على الإطلاق لتنقلات الموارد بين الدول.
ما كشفته الدراسة كان أن تدفق الأموال من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة ضعيف مقارنةً بتدفقها في الاتجاه المعاكس.
في عام 2012، أي آخر عام للبيانات الموثقة، تلقت الدول النامية ما مجموعه 1.3 تريليون دولار، بما يشمل كل المساعدات والاستثمارات وصافي الدخل من الخارج. إلا أن العام نفسه شهد تدفق 3.3 تريليون دولار إلى الخارج. بعبارة أخرى، إن ما أرسلته الدول النامية إلى باقي العالم يفوق ما تلقته بمقدار 2 تريليون دولار. إذا ما نظرنا في البيانات السنوية منذ عام 1980، فسنجد أن مجموع الأموال المتدفقة إلى الخارج يصل إلى 16.3 تريليون دولار، وهو مجموع الأموال المستنزفة من دول الجنوب على مر العقود الماضية. ولتوضيح فداحة الأمر، نشير إلى أن 16.3 تريليون دولار تساوي تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
الخلاصة مما سبق هي أن الرواية المتداولة معكوسة، فالمساعدات تتدفق في الاتجاه المعاكس، وليست الدول الغنية من ينمي الدول الفقيرة، بل العكس صحيح.
الدول التي تتباهى بمساعداتها الخارجية ما هي إلا الدول نفسها التي تقف وراء سرقات كبرى بحق الدول النامية.
مما تتألف هذه التدفقات الهائلة؟ جزء هو أقساط ديون. فمنذ عام 1980، أنفقت الدول النامية على الفوائد وحدها أكثر من 4.2 تريليون دولار، وذلك في شكل تحويلات نقدية مباشرة إلى بنوك كبيرة في نيويورك ولندن، الأمر الذي يقزّم المساعدات التي تلقتها هذه الدول خلال نفس الفترة. يتمثل جزء كبير آخر من هذه التدفقات بالدخل الذي يجنيه الأجانب من استثماراتهم في الدول النامية ومن ثم يعيدونه إلى أوطانهم. فعلى على سبيل المثال، تأمل في مصير جميع أرباح شركة النفط البريطانية (BP) من آبار نيجيريا النفطية، أو في أرباح الشركة الأنجلو-أمريكية من مناجم الذهب في جنوب أفريقيا.
أما الجزء الأكبر من التدفقات فيتمثل في هروب رؤوس الأموال غير الموثق وغير الشرعي في أغلب الأحيان. وتقدر منظمة النزاهة المالية العالمية أن الدول النامية قد خسرت منذ عام 1980 ما يصل إلى 13.4 تريليون دولار بسبب هروب رؤوس الأموال غير الموثق.
تتم معظم هذه التدفقات غير الموثقة عبر نظام التجارة الدولية. تعمد الشركات، سواء كانت أجنبية أو محلية، إلى إدراج أسعار مزيفة على فواتيرها بهدف نقل الأموال من الدول النامية إلى مراكز مالية سرية وملاذات ضريبية في ممارسة تعرف باسم «تزوير الفواتير». عادة ما يكون الهدف هو التهرب من الضرائب، إلا أن أنهم يلجؤون أحيانًا إلى هذه الممارسة من أجل غسيل الأموال أو التحايل على الضوابط التي تقيد رؤوس الأموال. في عام 2012، خسرت الدول النامية 700 مليار دولار بسبب تزوير الفواتير، أي ما يعادل خمسة أضعاف فاتورة المساعدات.
كما تنهب الشركات المتعددة الجنسيات أموال الدول النامية عبر «تزييف الفواتير المتطابقة»، أي التحويل غير المشروع للأرباح ما بين الشركات التابعة لها، إذ يزيف كلا الطرفين الأسعار المدرجة في الفواتير. على سبيل المثال، قد تتهرب شركة تابعة في نيجيريا من الضرائب المحلية عبر تحويل الأموال إلى شركة تابعة أخرى في جزر العذراء البريطانية حيث تبلغ الرسوم الضريبية عمليًا نسبة الصفر ولا يمكن تتبع الأموال المنهوبة.
لا تشير منظمة النزاهة المالية العالمية في أبرز إحصاءاتها إلى حجم الخسارة الناجمة عن تزييف الفواتير المتطابقة إذ يصعب رصد هذه الممارسة، إلا أنها تقدره بـ700 مليار دولار سنويًا. ولا تخص هذه الإحصاءات إلا سرقات تجارة السلع، فإذا ما أضفنا سرقات تجارة الخدمات، يبلغ صافي التدفقات حوالي 3 تريليون دولار سنويًا.
يعادل هذا الرقم 24 ضعف ميزانية المساعدات. بعبارة أخرى، لقاء كل دولار من المساعدات، تخسر الدول النامية 24 دولارًا في صافي التدفقات. وتحرم هذه التدفقات الدول النامية من مصدر هام للدخل وتمويل التنمية، إذ يكشف التقرير عن تسببها بتراجع معدلات النمو الاقتصادي، كما يحمّلها المسؤولية المباشرة عن تدهور مستويات المعيشة في الدول النامية.
من الملام على هذه الكارثة؟ بما أن هروب رؤوس الأموال غير المشروع جزء كبير من المشكلة، فمن الحري أن نبدأ به. إن الشركات التي تزور فواتيرها ملامة بلا شك، لكن لِمَ يسهل عليها الإفلات من العقاب؟ في السابق، كان بمقدور مسؤولي الجمارك تعطيل المعاملات التي يشتبهون بها، ما جعل الغش شبه مستحيل، إلا أن منظمة العمل الدولية زعمت أن ذلك أثر سلبًا على فعالية التجارة، وهكذا، ومنذ عام 1994، أصبح لزامًا على مسؤولي الجمارك قبول الأسعار بقيمتها الاسمية إلا في ظروف مشبوهة للغاية، ما يصعب عليهم مهام ضبط التدفقات غير المشروعة.
يبقى أن هروب رؤوس الأموال غير المشروع ليس ممكنًا أصلًا في غياب الملاذات الضريبية. وليس من العسير تحديد الجناة عند الحديث عن هذه الملاذات، إذ يوجد أكثر من 50 ملاذ ضريبي في العالم، ويخضع جلها إلى سيطرة بضعة دول غربية. ثمة ملاذات ضريبية أوروبية مثل لكسمبورغ وبلجيكا، إضافة إلى نظيراتها الأمريكية مثل ديلاوير ومانهاتن، غير أن أكبر شبكة من الملاذات الضريبية تتركز في لندن التي تتحكم بالمراكز المالية السرية في ملحقات التاج البريطاني وأقاليم ما وراء البحار البريطانية.
بعبارة أخرى، إن بعض الدول التي تتباهى بمساعداتها الخارجية ما هي إلا الدول نفسها التي تقف وراء سرقات كبرى بحق الدول النامية.
تبدو الرواية المتداولة عن المساعدات ساذجة بعض الشيء حين نضع التدفقات العكسية في الاعتبار، كما يصبح واضحًا أن المساعدات لا تعود إلا بالتستر على سوء توزيع الموارد حول العالم، فهي تظهر المتلقين بمظهر المانحين، ما يعطيهم الأفضلية الأخلاقية ويحرم أمثالنا المشغولين بالفقر العالمي من فهم كيف يعمل النظام حقًا.
ليست الدول الفقيرة بحاجة إلى الصدقات، بل هي بحاجة إلى العدالة، وليس من الصعب تحقيق العدالة. بمقدورنا إسقاط ديون الدول الفقيرة حتى يتسنى لها إنفاق أموالها على التنمية عوضًا عن فوائد ديون قديمة، وبمقدورنا أيضًا إغلاق المراكز المالية السرية وفرض عقوبات على المصرفيين والمحاسبين الذين يسهلون التدفقات غير المشروعة، كما نستطيع فرض حد أدنى لضريبة عالمية على دخل الشركات حتى نزيل حافزها على نقل أموالها بسرية حول العالم.
إننا نعرف كيف نحل المشكلة، إلا أن ذلك ينطوي على تهديد مصالح بنوك وشركات قوية تتنعم بفوائد مادية كبيرة من النظام القائم. السؤال هو: هل نملك ما يلزم من الشجاعة لتنفيذ الحل؟