أطلقت الحكومة قبل أسابيع حملة «لتجميل» طريق البحر الميت، استعدادا للقمة العربية المقرر انعقادها في المنطقة، يوم 29 آذار الجاري. وكان لافتًا في تصريحات مسؤولي الحكومة التي كانت تعدد إجراءات الحملة، كيف أن إجراء إزالة مئات الأكشاك والمعرشات التي تقدم القهوة أو تعمل استراحات شعبية على جانب الطريق، وضع في السياق نفسه الذي وُضعت فيه إجراءات أخرى تضمنتها الحملة، هي مكافحة الذباب والقوارض وجمع النفايات ودهان الأطاريف. توظيف يختزل ببلاغةٍ خطابًا حكوميًا لا يرى في الأكشاك أكثر من ألواح الصفيح التي حمّلتها «الونشات»، لا بشرًا يعيلون أنفسهم وعائلاتهم في واحدة من أكثر مناطق الأردن فقرًا.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، توحد مسؤولو أمانة عمان، وزارة الأشغال وشركة تطوير البحر الميت، وهي الجهات التي تصدت لدعم وتنفيذ حملة إزالة ما يقارب 185 كشكًا و350 معرشًا، في رواية واحدة مفادها أن هذه الأكشاك والمعرّشات، غير مرخصة وتسيء إلى المظهر الحضاري للمنطقة، وتضرّ بالسياحة. وهي الرواية التي استخدمت لدعم حملات مشابهة خلال السنوات السابقة. منها مثلًا تلك التي نُفذت خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وكانت في بعضها مرتبطة بفعاليات من المقرر انعقادها في المنطقة، مثل مؤتمر دافوس، ولم يكن يُراد لهذه الأكشاك الشعبية أن تخدش عيون العابرين إليها باتجاه فنادق الخمس نجوم.
لكن المشكلة في الخطاب الحكومي لا تقف عند تجاهل التداعيات الإنسانية للمشكلة، إنها أيضًا في أن هذا الخطاب يتجاهل الدور الحكومي في تفاقمها، وينطوي على مفارقة أن الحرب الرسمية على قنوات الدخل البسيطة التي اجترحها أبناء المنطقة بأدواتهم الذاتية، يأتي في خضم الترويج لمشاريع استثمارية ضخمة وعدوا منذ سنوات بقطف ثمارها، لكن الرسائل التي تصلهم الآن واضحة هي أنه لا مكان لهم فيها.
عمر أكشاك ومعرشات طريق البحر الميت من عمر الطريق نفسه، وقرارات الإزالة المرتبطة بإقامة فعاليات في المنطقة موجودة منذ سنوات. ويتولاها أصحاب هذه الأكشاك والمعرشات بأنفسهم، إذ يبلغون بوجوب الإزالة قبل إقامة الفعالية، ويعودون بعدها إلى مواقعهم، في اعتراف حكومي ضمني بمشروعية وجودهم. لكن اللغة الحكومية تغيّرت خلال السنوات القليلة الماضية، فبدلا من أوامر الإزالة المحددة بزمن، بدأت وسائل الإعلام تنقل عن المسؤولين رفضهم لمبدأ وجود الأكشاك على الطريق. وبدأ الكلام عن تجميعها في مكان واحد بعيد عن الطريق.
وجاء هذا التحول في الخطاب الحكومي بالضبط قبيل البدء بتنفيذ مخطط استثماري ضخم لتطوير منطقة البحر الميت، هو «المخطط الشمولي»، الذي أعلنت الحكومة عنه منتصف العام 2011. ويتضمن مشاريع استثمارية تنفذ على فترة 25 سنة، تتطلب، بحسب شركة تطوير البحر الميت، وهي الشركة المعنية بالمخطط، أعمال تطوير بنية تحتية بكلفة 180 مليون دينار، واستثمارات متوقعة بـ25 مليار دينار، قيل إنها ستوفر 6000 فرصة عمل.
وقتها، كان أحد المحاور الأساسية التي ارتكزت إليها حملة الترويج الإعلامي للمخطط هو النفع الذي سيعود على أبناء المجتمع المحلي، و«المسؤولية الاجتماعية» تجاههم. و«العمل على تعزيز مشاركتهم في المنطقة التنموية واستفادتهم من الفرص التي سوف تنشأ في هذه المنطقة».
واحدة من «الفرص» التي بدا منطقيًا أنها لاحت في الأفق كانت في عطاء لحزمة مشاريع استثمارية، أعلنت شركة تطوير المناطق التنموية طرحه، في آب 2015. ومن بين ما يتضمنه تطوير «الشريط المحاذي لطريق البحر الميت ممتدًا من منطقة فندق الهوليدي إن وحتى فندق الكراون بلازا بطول يقارب الخمسة كيلومترات». ويشمل المشروع بحسب العطاء «إنشاء الأكشاك والجلسات المظللة».
الشريط المشار إليه هو أحد أكثر المناطق حيوية على طريق البحر الميت، ويتركز فيه العدد الأكبر من الأكشاك الحالية. وإذا كان للكلام عن «المسؤولية الاجتماعية» تجاه أبناء المجتمع المحلي» و«العمل على تعزيز مشاركتهم في المنطقة التنموية واستفادتهم من الفرص التي سوف تنشأ في هذه المنطقة» أن يترجم على الأرض، فإن هذا سيكون منطقيًا بجعل أصحاب هذه الأكشاك القائمة جزءًا من المشروع.
لكن الذي حدث هو أن الجهات المعنية، في آب 2014، أي قبل سنة من طرح العطاء السابق، أنذرت بإزالة جميع الأكشاك القائمة، وأعلنت أنها تبحث عن قطعة أرض لتجميعها فيها، ثم بعدها بسنة أخرى، أعلنت أنها حددت موقعًا مؤقتًا ستزوده بالخدمات، إلى حين تجهيز موقع آخر دائم هو «مطل السويمة».
لم يكن الموقع الذي اقترحته الحكومة مرضيًا لأصحاب الأكشاك، فهو بحسب رئيس بلدية سويمة، محمد الجعارات «بعيد جدًا عن المناطق التي يرتادها السياح والمتنزهون». والحكومة على أي حال، شنت وقتها حملة لإزالة الأكشاك بعد شهرين على اقتراحها هذا، من دون أن تكون قد جهزت الموقع الذي أعلنت عنه. وتسبب ذلك في صدامات عنيفة مع أصحاب الأكشاك، الذين احتجوا على تنفيذ الحكومة قرار الإزالة من دون تنفيذ قرار النقل. وهو أمر ما تزال الحكومة تفعله، فهي بعد سنتين ونصف، من إعلانها قرار النقل، لم تخط خطوة واحدة باتجاه تجهيز الموقع المؤقت أو الدائم، في وقت تواصل فيه سلسلة حملاتها. ومؤخرًا بررت ذلك بأن «طبيعة المنطقة الطبوغرافية» هي ما يعيق تجهيزها، متوقعة المباشرة بذلك «خلال الأشهر القادمة».
السؤال الذي يظل قائمًا: ما هو مستقبل طريق البحر الميت، وهل سيكون لأبناء المجتمع المحلي، أصحاب الأكشاك القائمة حصة في الاستثمارات المزمع تنفيذها في المكان؟ وهل إذا غادروه سيكون لديهم الفرصة للعودة إليه؟
ليس هناك الكثير من التفاؤل أو الثقة، فما زالت في الأذهان تجربة أبناء المنطقة مع ما يُعرف بـ«شاطئ عمان السياحي»، الذي يرويها الباحث في شؤون الفقر، أحمد أبو خليل*. فقبل الاستغلال الرسمي للشاطئ الذي يُعد وجهة للزوار من الأوساط الشعبية، كان عدد من أبناء المنطقة قد أقاموا أكشاكًا ومعرشات في المكان، ثم طُلب منهم إخلاؤه «مؤقتًا» إلى حين تنظيمه وإقامة أكشاك ملائمة، قيل إنها ستوزع على أبناء المنطقة. بحسب أبو خليل، عندما أقيمت الأكشاك فعلا، عرضت في المزاد مقابل 5000 دينار للكشك الواحد. وهو مبلغ لم يكن ضمن إمكانياتهم المادية. وفي النهاية ، ضُمّن الموقع لمستثمر وظّف حوالي 200 مستخدمًا، لا تتجاوز نسبة أبناء المجتمع المحلي منهم 5%.
في كل حملة إزالة، تحتج الحكومة بأن الأكشاك غير مرخصة وتسئ إلى المظهر الحضاري للمنطقة، لكنها تتجاهل في الوقت نفسه أيدي أصحابها الممدودة من سنوات إليها، يطلبون منها أن تنظمهم وأن تساعدهم على إنشاء «الأكشاك الحضارية» التي تريدها. لكنها ترسل رسالة بعد أخرى بأنها لن ترضى بأقل من إخلائهم المكان، من دون أن تقدم إليهم أي بدائل.
ستنقضي أعمال القمة العربية. والذي سيحدث، على الأرجح، هو ما يحدث في كل مرة. ستعود هذه الأكشاك والمعرشات لتنصب من جديد، واحدًا بعد الآخر في أجواء مشحونة بالتهديد والتوجس. وإلى أن يحسم الأمر، سيظل أصحاب الأكشاك معلقين في انتظار المؤتمر القادم، الذي ستستعد حكومتهم له بكنسهم تحت السجادة.
* بحث أُنجز العام 2015 ولم يُنشر بعد.