«ثلاثي أنغولا» وعنصرية السجون الأميركية

الإثنين 22 شباط 2016

في 20 تشرين الثاني 2014 أصدرت محكمة استئناف في ولاية لويزيانا الأميركية قرارًا بالإفراج عن آلبرت وودفكس وتبرئته من جريمة القتل العمد. رأت المحكمة أن وودفكس قد تعرّض للتمييز العنصري أثناء محاكمته التي اعتبرت غير دستورية، ولكن الأخير حُرم من قراءة قرار الحكم المؤلّف من ست وثلاثين صفحة بنفسه بسبب رفض السجّانين فك الأصفاد عن يديه. قدّمت النيابة العامة سلسلة من الاستئنافات والطعون للحؤول دون إطلاق سراح الرجل الستّيني واشترطت بقاءه في الحبس الانفرادي المستمر منذ العام 1972 بدعوى إمكانية تشكيله خلية سياسية معارضة. ورغم إصدار القاضي الفدرالي لأمر بالإفراج الفوري عنه في حزيران 2015 إلّا أن اعتقاله تواصل وتمكّنت النيابة العامة من استئناف القرار، مهدّدةً بإعادة المحاكمة للمرة الثالثة. ولم توافق على الإفراج عنه وإغلاق القضية إلا عند توصّل الطرفين إلى صفقة أُفرج بموجبها عن وودفكس في 19 شباط الحالي لقاء إعلانه «عدم الاعتراض» على تجريمه بجنايتين مخففتين هما القتل غير العمد والسطو.

اعتُقل آلبرت وودفكس في مدينة أنغولا الواقعة في ولاية لويزيانا في العام 1971 بتهمة ارتكاب سطو مسلّح. وحال دخوله السجن التحق وودفكس برفقة السجين هرمان ولس، المعتقل بتهمة السطو المسلح هو الآخر، بالنشاط السياسي في منظّمة «الفهود السود» ضمن أول فرع يشكّله التّنظيم داخل السجون.

تأسّست منظّمة «الفهود السود للدفاع عن النفس» في تشرين الأول 1966 على يد هيو نيوتن وبوبي سيل في مدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا، رافعةً شعار انعتاق الأقلّيات والتحرّر الطبقي وإنهاء التمييز الجندري. لا يكون هذا الانعتاق متاحًا إلا إذا تمكّنت الأقليات العرقية من إدارة شؤونها بنفسها، خارج سيطرة الدولة ومنظومة السلطة الهرمية وذلك بتأسيس شبكة من التضامن والتكافل الاجتماعي وبنية تحتية متكاملة للنضال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمسلّح. يختزل البعض تجربة التنظيم بدعوته لرفع السّلاح في وجه الشرطة للدفاع عن النفس وبوصف أفراده بالمراهقة الثورية، ولكن التنظيم قدّم مشروعًا رياديًّا لا في جذريّته فحسب بل كذلك في مقارعته سلطة رأس المال والطبقة البيضاء الحاكمة وفي تقديمه مفهومًا مختلفًا للديمقراطية وطرحًا بديلًا لطريقة الحكم والإدارة الذاتية. ويلخّص برنامج النقاط العشر الذي صيغ مع انطلاقة التنظيم الرؤية التحرّرية التي يتبنّاها والمنادية بتقرير المصير للسود وباستعادة الأرض وبالخبز والحرية والسكن اللائق والتشغيل وخلق جهاز تعليم مستقل وإعفاء السود من الخدمة العسكرية في الجيش الأميركي وإنهاء وحشية الشرطة والإفراج عن المعتقلين السود. قضيّة السجناء السّود وتعرّضهم الممنهج للاعتقالات التعسّفية والظروف السيئة التي يعانونها أثناء الاعتقال دفعت «الفهود السود» لخوض معركة العدالة خلف القضبان أيضًا.

قاد «الفهود السود» نضالًا شرسًا في سجن أنغولا لتحسين ظروف الاعتقال ونشط وودفكس وهرمان ولس فيه من خلال المشاركة في تنظيم إضرابات عن الطعام للمطالبة بوضع حد للعنف والاغتصاب المستشري داخل السجن واحتجاجًا على ممارسة الفصل العنصري.

آنذاك، انتهجت الإدارة الأميركية ومكتب التحقيقات الفدرالية الـFBI حزمة من الآليات السرّية ضمن مشروع لمكافحة التمرّد في ظل صعودٍ غير مسبوق للتيّارات اليسارية والتقدّمية الخارجة عن عباءة النخبة السياسية الحاكمة بشقّيها الديمقراطي والجمهوري.

قدّم «الفهود السود» مشروعًا رياديًّا في مقارعته سلطة رأس المال، ومفهومًا مختلفًا للديمقراطية وطرحًا بديلًا لطريقة الحكم والإدارة الذاتية.

استهدفت هذه الآليات التنظيماتِ اليساريةَ بما فيها الحركات المناهضة للحرب والاستعمار والقوى المنخرطة في نضالات التحرر الوطني وتحرّر السود والسكان الأصليين والمجموعات النسوية. وضعت النخبة السياسية والاستخباراتية في الولايات المتحدة نصب أعينها القضاء على هذه الحراكات الاجتماعية والسياسية الجذرية المنبثقة عن حركة الحقوق المدنية عبر مراقبتها والتجسّس عليها واختراقها وتشويه صورتها وتفتيتها من الداخل والتخلّص من رموزها وقادتها.

وكان تلفيق التّهم الجاهزة بحق القياديين والنشطاء البارزين أحد الأساليب المتّبعة في هذا السياق وامتد ليشمل النشطاء السياسيين داخل السجون، خاصة أولئك المنتمين لحزب الفهود السود. وفي إطار هذه الملاحقة السياسية جاء اتّهام آلبرت وودفكس وهرمان ولس بقتل الحارس برنت ميلر في نيسان 1972. أدين وودفكس وهرمان ولس بارتكاب جريمة القتل العمد في العام التالي وحكم عليهما بالسجن المؤبد والحبس الانفرادي مدى الحياة، وذلك رغم عدم توفّر أي دليل ملموس يربطهما بالحادثة ورغم الشكوك العديدة المحيطة بادعاءات شاهد العيان الوحيد في القضية. وفي ملفّ منفصل أُدين روبرت كينغ بالاشتراك في تنفيذ نفس الجريمة وحُكم عليه كذلك بالسجن المؤبد والحبس الانفرادي، ليعرف مع صاحبيه بلقب ثلاثي أنغولا. زنزانة ضيّقة معتمة لم يسمح للثلاثة بالخروج منها للتنفّس لأكثر من ساعة في اليوم وحتى في تلك الساعة فُرض عليهم أن يكونوا مكبّلي الأيدي.

أثارت قضية ثلاثي أنغولا واستمرار حبسهم الانفرادي انتقاداتٍ للجهاز القضائي الأميركي الذي أضفى الشّرعية على هذه العقوبة القاسية واللاإنسانية وانطلقت حملات محلّية وعالمية بمشاركة منظّمات حقوقية ومجموعات شعبية، من ضمنها منظمة العفو الدولية، للمطالبة بالإفراج عن ثلاثي أنغولا وإنهاء سياسة الحبس الانفرادي.

ألغي الحكم بالسجن المؤبّد الصادر بحق روبرت كينغ في العام 2001 وأُفرج عنه بعد اتفاقٍ مع النيابة العامة، ولكن خروجه من السجن لم ينه التزامه بالدفاع عن رفيقيه المعتقلين والمطالبة بحريّتهما وتسليط الضوء على قضيّتهما.

أما هرمان ولس فأُطلق سراحه في 1 تشرين الأول 2013 بعد إلغاء محكمة لويزيانا الفدرالية الحكم عليه. دقائق قليلة لامست خلالها أشعّة الشمس بشرة هرمان ولس لأول مرة منذ 41 عامًا قبل أن يتم نقله لمشفى نيو أورلينز وهو الذي كان يحتضر نتيجة سرطان كبد متقدّم تفشّى في جسده، غير أن دنوّ أجله لم يُثنِ النيابة العامة عن تقديم طلب لإعادة محاكمته بعد يوم واحد فقط على الإفراج عنه. لم يكن هنالك متّسع من العمر أمام ولس لخوض معركة جديدة وتوفي عن 71 عامًا بعد ثلاثة أيام من الأفراج عنه، ليبقى وودفكس آخر المعتقلين من ثلاثي أنغولا وأقدم سجين يمكث في الحبس الانفرادي في الولايات المتحدة.

«ما من مبرّر منطقي يدفع لويزيانا لإبقائه في الحبس المنفرد طوال كل هذه السنين لا سيّما وأن كل الدلائل التي استخدمت لإدانته بارتكاب الجريمة قد تم تقويضها» قال روبرت كينغ لصحيفة الغارديان متحدّثًا عن العقود الأربعة التي أمضاها وودفكس في السجن الانفرادي. وذكر كينغ في المقابلة نفسها أن تعنّت ولاية لويزيانا نابع من الحرب التي شنّتها السلطات الأميركية على الأيديولوجيا التحررية التي تبنّاها حزب «الفهود السود» إضافة إلى رفض النيابة الاعتراف بخطئها. وحتى حين وافقت النيابة على الإفراج عن وودفكس حرصت أن لا يقوم القضاء بتبرئته، فضمان المحافظة على صورة الجهاز المحصّن من الأخطاء أهم من تحقيق العدالة وإنصاف المتّهم.

وفي بيانٍ نقله محامو الدفاع عنه، قال آلبرت وودفكس عقب الإفراج عنه أنه كان يمنّي النفس بإثبات براءته في محاكمة جديدة بيد أن وضعه الصحي الصعب وعمره (صادف يوم الإفراج عنه عيد ميلاده التاسع والستين) أرغماه على إبرام صفقة مع النيابة. وتعهّد وودفكس بتكريس الحرية التي انتزعها للنضال ضد سياسة العزل والحبس الانفرادي في الولايات المتّحدة.

أُسدل بالإفراج عن وودفكس الستار على قضية ثلاثي أنغولا وعلى فصل طويل من الغبن في بلادٍ لم تتوقّف سلطاتها عن إعادة إنتاج القمع بأشكالٍ مختلفة لضمان سيادة وهيمنة البيض والأثرياء. بلاد تحكم على ليونارد بلتيير بالسجن المؤبّد لدفاعه عن حقوق السكان الأصليين ولا تدين رجال الشرطة البيض الذين يقتلون الشباب السود العُزّل بشكل ممنهج. بلاد يشكّل السود والمهاجرون غالبية سجنائها ليس لأنهم مجرمون بالفطرة بل لأن تطبيق العدالة الجنائية انتقائي وعنصري. بلاد يقبع فيها رجل أسود بريء في السجن لثلاثة عقود بسبب حلم، فإحداهن رأت في منامها أنه اغتصبها والنيابة ألقت بدليل براءته بالنفايات «بالخطأ».

في أميركا، يتحتّم تقديس الإجراءات، أما العدالة فتفصيل ثانوي بل وترف لا يحظى به الكثير من السّود والملوّنين. صحيح أن نظام الفصل العنصري الذي عززته قوانين جيم كرو سقط في ستينات القرن الماضي إلا أن إرثه وإرث نظام العبودية الذي سبقه ما زال يتجسد بأوجه قد تكون أقل بشاعة وفظاظة ولكن العنصرية فيها جليّة والظلم متجذّر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية