حملات المقاطعة وطهرانيّة الفقر

الأحد 12 شباط 2017
لافتة في مظاهرة معارضة لرفع الأسعار، في آذار 2013. تصوير دعاء علي.

نشر الزميل شاكر جرّار الأسبوع الماضي على حبر مقالًا بعنوان «السُلطة وحملات المقاطعة: المعركة على الرأي العام». ورغم اتّفاقي، من ناحية المبدأ السياسي، مع التوّجه العام للمقال في تقصّيه لما سمّاه جرّار، بذكاء، «فقدان الدولة احتكارها لأدوات الهيمنة»، والتي تتمثّل، بحسب المقال، في ثقافة السّلطة وخطابها؛ إلّا أنني أتحفّظ على مفاصل رئيسية في التحليل الذي استخدم لفهم التفاعل مع حملات المقاطعة الأخيرة وأسباب انتشارها بشكل ملحوظ.

أوّلًا، يفسّر المقال أحد أسباب انتشار ثقافة المقاطعة بأن «طبيعة السلع التي ارتفعت أسعارها تعد سلعًا أساسية»، مستشهدًا بعجز مقاطعة الأفوكادو من ضمن حملات مقاطعة السلع والمنتجات الإسرائيليّة، وزبدة «لورباك» ضمن حملة مقاطعة البضائع الدينماركيّة احتجاجًا على الرسوم المسيئة للرّسول، مقابل السّلع [الأساسيّة] التي تستهدفها حملات المقاطعة الأخيرة مثل: البطاطا والبيض والهواتف الخلويّة. ربّما كان ذلك فعلًا من أحد أسباب انتشار المقاطعة، لكن الخطاب الذي استعمل في المقال يشي بـ«طبقيّة مضادّة» تحمّل الطبقات الفقيرة صفات الطهرانيّة والقداسة والزّهد. الخطير في هذا الخطاب أنّه يتجاوز ما تستطيع هذه الطبقات أن تستهلكه أو لا تستهلكه، ملمّحًا إلى تفوّق أخلاقي يمنعها من استهلاك هذه السّلع [الكماليّة]، وهو أمر مناقض للعدالة الاجتماعيّة من ناحية المبدأ، وليس من الناحيّة العمليّة التي تحتّم على هذه الطبقات امتلاك الحق في اختيارها وتجاوز محدّدات السوق الطبقيّة.

يتجلّى قصور هذا التحليل في انسجامه مع ثقافة خطابين متناقضين يصلان إلى النتيجة نفسها. الأوّل: خطاب السّلطة فيما قاله رئيس الوزراء هاني الملقي في مقابلة له مع التلفزيون الأردني ضمن ترويجه لجرعة جديدة من رفع الأسعار: «تم رفع أنواع ستيكات وأجبان حتى يمكن أنا ما بعرف اسمها». والثاني: خطاب المعارضة اليساري التقليدي في حملة جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية «استحِ» التي تهدف لمقاطعة المنتجات الإسرائيليّة. ففي زيارة إلى سوق الخضار في وسط البلد عام 2013، تساءل أحد أعضاء الحملة، في مزاودة أخلاقيّة تبدأ من اسم الحملة ذاتها، عن استهلاك «الكاكا»: «هو إحنا مقطوعين من الكاكا؟ عمرنا ما سمعنا فيها»، بينما كان زملاؤه يوزّعون فتاوى دينيّة تحرّم التعامل بالبضاعة الإسرائيليّة في انتهازيّة شعبويّة بائسة تستخدم الخطاب الديني.

ثانيًا، يتناول المقال في تحليله سببًا آخر يتمثّل في «الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام من جهة، والشعور العام بأن المساحة التي تتيحها هذه الوسائل هي المساحة الوحيدة الآمنة إلى حد ما للتعبير عن الغضب تجاه السياسات الاقتصادية التي أفقرت المواطن». مرّة أخرى، هذا سبب صحيح على الأرجح، لكنّه يتجاهل سببًا ضمنيًّا آخر على نفس القدر من الأهميّة، إن لم يكن أكثر. فمع استرجاع حضور الحراك الأردني المكثّف على وسائل التواصل الاجتماعي منذ بدايات الربيع العربي، يمكننا استنتاج أن كلًا من حملات المقاطعة الأخيرة والحراك سعيا للتحشيد والتحرّك ضد الظلم وانعدام العدالة الاجتماعيّة. لكن بينما نجحت، وتنجح، المشاركة في حملات المقاطعة، لم تتلقّ دعوات الحراك للتحرّكات ذاتها نفس الانتشار، أو على الأقل لم يكن التجاوب بنفس الالتزام الحاصل حاليًّا. يعود ذلك إلى الفرق في الخطابين، إذ تمّت صياغة خطاب الحراك من مبادئ سياسيّة في أغلبها تنادي بشعارات يحتاج شرحها إلى تفسير سياقها في يوميّات المجتمع المباشرة، وليس في مظاهرة، مثل: «العودة إلى دستور 1952»، و«تحديد صلاحيّات الملك»، وحتّى «إلغاء اتفاقيّة وادي عربة»، بالاعتماد على ناشطين سياسيين من خلفيّات حزبيّة وأكاديميّة أو مقرّبة من هذين المجالين، بينما تستعمل حملات المقاطعة خطابًا مباشرًا يحفّز النّاس على المشاركة بأيديها في تغيير الواقع الاقتصادي الخانق من خلال الامتناع عن شراء منتجات معيّنة احتجاجًا على رفع أسعارها غير المبرّر. بل يمكننا الذهاب بعيدًا والتطرّف في القول إن أفضل ما في هذه الحملات أنّها خالية من الناشطين السياسيين.

لطالما رافقت هذا الخطاب، الذي يجرّد الطبقات الفقيرة من إنسانيّتها، نزعةٌ تصالحيّة تدّعي أحقيّة هذه الطبقات في صناعة امتيازاتها الوهميّة، تمامًا كما يتجلّى الخطاب المضاد في الحفاظ على امتيازات الطبقات العليا. ومع ارتباط هذا الخطاب بالقيم الإنسانيّة العظمى، كالتضحية والسمو الأخلاقي والوفاء، تم وصف التيّارات السياسيّة اليساريّة على أنّها شعبيّة، بينما تنشط التيّارات اليمينيّة في الأوساط النخبويّة. لكن حتّى هذه المعايير اختلفت بشكل متطرّف، فاستخدام اليمين لخطاب الخوف أنتج شعوبًا تميل إلى اليمين كما يحصل اليوم في أميركا وأوروبا، بينما يجذب اليسار، شيئًا فشيئًا، النخب المنعزلة المنغمسة في طقوس تعيد إنتاج قوّة القيم العظمى التي ينعدم تأثيرها في ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة صعبة. تغلغل هذا الخطاب الطهراني في جميع المجالات الثقافيّة: الأغاني التي تطالب الفقراء بالحفاظ على فقرهم، والقصائد التي تتغنّى بوهم ارتباط الوطنيّة وعزّة النّفس بالفقر، والفن التقليدي والحديث الذي يستغل الظروف الصّعبة للترويج، وربما للمكاسب الشخصيّة.

يسترد المجتمع هيمنته مؤقّتًا لدى مراقبة السّوق بعد المقاطعة، إذ انخفضت أسعار البطاطا والبيض بنسبة معقول، وغُض النّظر عن فرض رسوم على استعمال المكالمات المجّانيّة عبر التطبيقات الإلكترونيّة المختلفة، على الأقل حتى الآن. لم يحدث ذلك عن طريق التمتّع الهزلي بتحديد معايير أخلاقيّة لاستهلاكيّات الطبقة الفقيرة. فتحدّي النظام الرأسمالي المفتوح، الذي يفسّر القدرة الشرائيّة على أنّها أمر هامشي بالمقارنة مع الرّغبة بالانسجام مع المجتمع، لا يتحقق بمجرّد الاحتفاء المجّاني بإحدى نتائج الطبقيّة الهرميّة: الفقر، بل بمقاومته ومقاومة السّلطة التي تستفيد أكثر من غيرها من هذا التنميط.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية