التقاعد المبكر: المزيد من التهميش الاقتصادي للنساء

التقاعد المبكر: المزيد من التهميش الاقتصادي للنساء

الإثنين 15 كانون الثاني 2018

كان عمْر إسراء1 عندما حصلت قبل سنتين على تقاعد مبكر من عملها في التعليم، 51 سنة. أي أن تقاعدها تمّ قبل أربع سنوات فقط من السن المقرر لاستحقاقها تقاعد الشيخوخة. وبحسبها، لو انتظرت هذه السنوات الأربع، فإنها كانت ستترفع إلى الدرجة الأولى، وكانت أيضًا ستحصل على حسبة أفضل لراتبها التقاعدي، الذي نزل بعد التقاعد من 670 دينارًا (كانت تستلم منه بعد الاقتطاعات 550) إلى 350 دينارًا. لكنها لم تنتظر، لأنها لم تستطع، في عمرها هذا، كما تقول، مواصلة تحمل الضغط القادم من جهتين: بيئة عمل صعبة، ومسؤوليات أسرية تنهض بها شبه وحيدة.

إسراء المتزوجة والأم لأربعة أبناء تتراوح أعمارهم بين 10 و19 سنة، تقول إن العمل في التعليم لا يشبه ما كان عليه عندما بدأت قبل 21 سنة. المدارس صارت أكثر اكتظاظًا، الطلبة صاروا أكثر شغبًا وأقل مبالاة بالدراسة. يضاف إلى ذلك، إصابتها بديسك في الرقبة، وهو أمر تربطه بطبيعة المهنة التي كانت تتطلب منها الوقوف لساعات طويلة والكتابة على اللوح. وعندما تضاف إلى ذلك حقيقة أنها تنهض بمسؤوليات المنزل والأبناء تقريبًا وحدها، كما تقول، فقد صار هذا واقعًا لم يعد بإمكانه مواصلة التعامل معه: «جميع من حولي نصحوني أن أبقى الأربع سنوات التي بقيت، لكنني لم أستطع. تعبت من العمل ومن البيت. تعبت من عدم التعاون في البيت. كله ضغط ضغط».

هذا جعلها تعقد العزم على التقاعد بمجرد بلوغها الخامسة والأربعين، وهي السن التي استكملت فيها شروط التقاعد المبكر، لكنها لم تستطع وقتها، لأنها اضطرت إلى الحصول على قرض لتمويل ثمن شقة اشترتها عائلتها. لكن زوجها حصل بعدها على إرث بعد وفاة والده، مكنت العائلة من تسديد القرض، فأصبحت الفرصة أخيرا مواتية لتنفيذها القرار.

بتقاعدها، تكون إسراء قد انضمت إلى 17 ألف امرأة تقريبًا2، هو عدد النساء الحاصلات على تقاعد مبكر مع نهاية العام 2016. وهو عدد ضخم عندما نعرف أنه يمثل ما نسبته 56% تقريبًا من العدد الكلي للمتقاعدات من الضمان الاجتماعي. ما يعني أن أكثر من نصف المتقاعدات في الأردن، اخترن أن يكون تقاعدهن مبكرًا، ابتداء من عمر الخامسة والأربعين، السن التي تكون فيها المرأة في أوج عطائها وخبرتها. أمر تقول دراسات إنه أحد أكبر العوائق مع التقدم المهني للنساء.

ومع ذلك، التقاعد المبكر للنساء هو جزء من ظاهرة عامة يشهدها الضمان الاجتماعي في الأردن، فالرجال أيضًا يميلون إلى التقاعد المبكر، وإن كان بنسبة أقل بشكل لافت، إذ بلغ العدد التراكمي للمتقاعدين مبكرًا إلى نهاية الـ32016، 71 ألف رجل، يشكلون ما نسبته 44% تقريبًا من العدد الكلي للمتقاعدين الرجال. وهذا يجعل نسبة التقاعد المبكر 46% من إجمالي العدد التراكمي للمتقاعدين من الجنسين، مع نهاية العام 2016. ووفق تصريح لمديرة مؤسسة الضمان الاجتماعي، نادية الروابدة، في ورشة عمل عن الظاهرة، عقدت في آب (أغسطس) الماضي، فقد ارتفعت هذه النسبة، وفق آخر أرقام العام 2017، إلى 47%، بعد ارتفاع عدد المتقاعدين مبكرًا من الجنسين إلى 95 ألفًا.

الظاهرة، بحسب الأرقام، تتزايد؛ فقد ارتفعت نسبتها من 40% العام 42010، إلى 47% للعام الماضي. وفي العام 2016 وحده، بلغت نسبة المتقاعدين مبكرًا 61% من مجمل المتقاعدين لذلك العام.

وهذا ما دعا مؤسسة الضمان الاجتماعي، بحسب ناطقها الإعلامي، موسى الصبيحي، إلى تعديل الأحكام الناظمة للتقاعد المبكر. وفق القانون القديم، كان التقاعد المبكر، كما قال الصبيحي لـ«حبر»، يتم للجنسين ابتداء من عمر 45 سنة، إذا استوفى الذكور 18 سنة اشتراكًا في الضمان، و15 سنة للإناث. في حين أن القانون الجديد، الذي نفذ في 1 آذار 2014، يجيز التقاعد المبكر في واحدة من حالتين: إتمام سن 45 سنة، مع اشتراك 25 سنة للجنسين، أو إتمام الخمسين مع اشتراك 19 سنة للإناث و21 سنة للذكور.

ولأن التعديلات السابقة أثارت، أثناء مناقشات إقرارها، احتجاجات شديدة في أوساط مشتركي «الضمان»، استثنت المؤسسة في قانونها الجديد، شريحة واسعة من المنتسبين القدامى، هم أولئك الذين كانوا قبل نفاذه قد أكملوا 18 سنة للذكور و15 سنة للإناث، أو كانوا قد أتموا الخامسة والأربعين، بغض النظر عن سنوات الاشتراك. 

لم الاهتمام بتقاعد النساء مبكّرًا؟

مع أن تقاعد النساء جزء من ظاهرة عامة، لكنه مع ذلك يستحق اهتمامًا خاصًا؛ فهن أولًا، يتقاعدن بوتيرة أعلى بشكل لافت من الرجال، ويتضح هذا من خلال ارتفاع نسبة المتقاعدات مبكرًا من 49% العام 2010، إلى 56% العام 2016. مقابل ارتفاع نسبة الرجال من 39% إلى 44% للعامين المذكورين.

إضافة إلى ذلك، فإن هذا الخروج المبكر للنساء من سوق العمل يكتسب خطورة إضافية لأنه يترافق مع  حقيقة أن نسبة المشاركة الاقتصادية للنساء في سوق العمل الأردني هي أصلًا واحدة من بين الأدنى عالميًّا، وفق ما ذكرت دراسة عن انسحاب النساء من سوق العمل. ففي وقت تبلغ فيه نسبة مشاركة الرجال الاقتصادية 60%، ظلت نسبة مشاركة النساء تراوح خلال السنوات العشر الأخيرة بين 14-15%، وهي نسبة تنخفض كثيرًا عن النسبة العالمية البالغة 50%، وتنخفض أيضًا عن النسبة العامة لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البالغة 25%.

هذا التدني في نسبة المشاركة الاقتصادية للنساء، يتجلى بوضوح في تدني نسبتهن في «الضمان الاجتماعي» مقارنة بالرجال، إذ يشكلن فقط ما نسبته 27% تقريبًا من عدد المشتركين البالغ مليون و227 ألفا حتى نهاية العام 2016.

يضاف إلى ما سبق حقيقة أن الكثير من النساء ينسحبن من سوق العمل حتى قبل أن يصلن إلى التقاعد المبكر. يقول الصبيحي إن أعدادًا «ضخمة جدًّا» من النساء تقدر بالآلاف، ينقطعن سنويًّا عن الاشتراك في «الضمان». ومع أنه يلفت إلى أن انقطاع الاشتراك لا يعني بالضرورة انسحابًا نهائيا من سوق العمل، لأن المنقطعة قد تعود لاحقًا للاشتراك من جديد، لكن هذا، كما يقول، يظل مؤشرًا قويًّا على حركة انسحاب كبيرة من السوق. وبحسبه، في العام 2015 وحده، انقطعت اشتراكات أكثر من 20 ألف امرأة، لم يعدن للاشتراك في السنة نفسها على الأقل.

أما المؤشر الآخر في ما يتعلق بتقاعد النساء، فهو أن الرجال يتقاعدون في سن مبكرة ليذهبوا إلى أعمال أخرى، يجمعون بين دخلها وراتب التقاعد المبكر، أمر لا يبدو معتادا للنساء اللواتي يخسرهن سوق العمل بتقاعدهن. وهو أمر تثبته نتيجة دراسة أعدها الباحث حمزة الصمادي5، وأظهرت أن 51% من الرجال المتقاعدين مبكرًا المشمولين بالدراسة أفادوا أنهم تقاعدوا لرغبتهم التفرغ لأعمال أخرى، مقابل 14% فقط من النساء قلن الأمر ذاته. والمفارقة التي تظهرها الدراسة هي أن 56% من هؤلاء الرجال عادوا فعلًا إلى سوق العمل، في حين لم تعمل أي امرأة بعد تقاعدها.

لماذا تتقاعد النساء مبكرًا؟

بالكاد يمكن العثور على تحليل علمي لظاهرة التقاعد المبكر، فضلًا عن تحليل الظاهرة لدى النساء بالتحديد. لكن الدراسة المشار إليها سابقًا عن انسحاب النساء من سوق العمل، تقدم ما يمكن اعتباره مؤشرات على أسباب التقاعد المبكر لدى النساء. فهي تظهر أن أسباب الانسحاب من سوق العمل تتمحور في الغالب حول المسؤوليات العائلية للمرأة في ما يتعلق بالأطفال والزوج، تردي بيئة العمل من ناحية الرواتب والمزايا الوظيفية والمعاملة، بُعد مكان العمل عن المنزل، أو الظروف الصحية.

الأسباب السابقة، أكدت على معظمها النساء اللواتي قوبلن في إطار العمل على هذا التقرير، واخْتُرن جميعهن، في هذا التقرير، من قطاع التعليم، في محاولة لاستهداف ما يمكن اعتباره فئة منسجمة من المتقاعدات مبكرًا. خصوصا وأن الظاهرة بالغة التعقيد، وأسبابها مرشحة لأن تختلف بحسب المهنة والطبقة الاقتصادية والبيئة الاجتماعية.

لقد كان مثيرًا للاهتمام تشابه أسباب التقاعد التي أوردتها هؤلاء النساء وتمحورت حول ثلاثة: بيئة العمل صارت أكثر صعوبة، عدم القدرة على مواصلة الجمع بين مسؤوليات العمل والمنزل، وتردي الحالة الصحية، التي تربطها المتقاعدات بطبيعة المهنة.

من هؤلاء دينا التي تقاعدت بداية العام الماضي، بمجرد بلوغها الخامسة والأربعين. بعد خدمة 20 عامًا. دينا أم لأربع بنات وولد، تراوحت أعمارهم في السنة التي تقاعدت فيها بين 18 و7 سنوات. تقول إن أقوى دافع لتقاعدها كان أن اثنين من أطفالها هما الآن في الصفين الأول والثاني، أي أنهما في مرحلة «التأسيس»، ولأنه لا يمكن، بحسبها، الاعتماد على «مدارس اليوم» في تأسيس التلاميذ، فإنها تجد نفسها مضطرة إلي متابعتهما يوميًا، وهي مهمة ملقاة حصرًا مع بقية أعمال المنزل، على كاهلها. وهذا بحسبها، استنزفها بشدّة. 

دينا نزل راتبها بعد التقاعد من 470 دينارًا إلى 300 دينار. لكنها تشير إلى أن الفرق لم يؤثر كثيرًا على الوضع الاقتصادي للعائلة، لأن قسمًا كبيرًا من الـ170 دينارًا المقتطعة، كانت تذهب أساسًا نفقات متعلقة بدوامها، هي مواصلات والتزامات اجتماعية للزميلات وملابس ومصروف داخل المدرسة. وهي ملاحظة أشارت إليها متقاعدة أخرى هي رجاء، التي لم تنتظر حتى أن تبلغ السن القانونية للتقاعد، فبعد خدمة 21 سنة، قررت العام 2012، وكانت في الثالثة والأربعين، التوقف عن العمل عامين، وعندما بلغت الخامسة والأربعين، بدأت إجراءات التقاعد.

لرجاء ثلاثة أبناء، كانت أعمارهم، في السنة التي تقاعدت فيها، تتراوح بين 16 وسنة واحدة. وقد انخفض راتبها من 350 إلى 225.  تقول رجاء إنها بعد احتساب النفقات المرتبطة بعملها، وجدت أن المبلغ الفعلي الذي ستخسره بعد التقاعد هو 50 دينارًا: «سألت نفسي هل سأتحمل عذاب العمل في المدرسة والبيت وتعب صحتي من أجل 50 دينارًا؟ لهذا قررت التقاعد قبل سنتين من الموعد، مع أن زوجي كان رافضًا، لكنني أصررت، خصوصًا أن وضعنا المالي جيد نسبيًّا، وهذا ساعدنا على تحمل انقطاعي لعامين».

من المعلوم أن التقاعد المبكر للنساء، ومن قبله الانسحاب من سوق العمل هو أحد أكبر العوائق أمام التقدم الوظيفي للنساء اللواتي يتركن العمل في أوج عطائهن. وفق الدراسة السابقة، فإن نسبة النساء في الفئة العمرية ما بين 40-54، في سوق العمل، لا تتعدى 13%، وتنخفض إلى 2% ما بعد عمر الـ55. وفي وقت يرتبط فيه التقدم الوظيفي، عادة، بتراكم الخبرة المهنية مع مرور السنوات، فإن هذا النمط من المشاركة الاقتصادية للنساء يعني حكمًا تضاؤل فرصهن لاستلام مناصب قيادية. وهو ما يثبته واقع حضور النساء في قطاع الخدمة المدنية، إذ لا يشكلن أكثر من 7% من موظفي الفئة العليا، التي هي مناصب: مدير عام وأمين عام ومساعد أمين عام ومدير إدارة ورئيس هيئة وغيرها.

لكن هذا لا يبدو أنه يشكل أي هاجس لدى أي من السيدات السابقات، فلم تعبر أي واحدة منهن عن أي ندم على قرار التقاعد المبكر، بل هن سعيدات بانزياح عبء الوظيفة عن كواهلهن. تقول دينا إنها سعيدة لأنها تعطي طفليها حقهما في التعليم. في حين تقول رجاء وإسراء إن التقاعد أتاح لهما أخيرًا القيام ببعض النشاطات التي حرمن منها طوال السنوات الماضية، منها مثلا، في حالة إسراء، المشاركة في الزيارات الصباحية مع الجارات، والاشتراك في دورات تعلم التلاوة في مسجد الحي. أما بالنسبة لرجاء، فإنها الآن تستمتع بـ«التشمس»، وإنجاز أعمال المنزل «على مهل».

  • الهوامش والمراجع

    1-  تم تغيير أسماء النساء في التقرير بناء على طلبهن، وحفاظًا على الخصوصية.

    2- التقرير السنوي للعام 2016، مؤسسة الضمان الاجتماعي.

    3- المصدر السابق.

    4- التقرير السنوي للعام 2010، مؤسسة الضمان الاجتماعي.

    5- الدراسة التي زوّد بها الباحث كاتبة التقرير غير منشورة بعد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية