بقلم شادي لويس
«تبدأ الدائرة المفرغة في دورتها المفزعة. ففي غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية، ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الانقلاب العسكري، الذي يُسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر، إلى سلطة دينيّة جديدة، وهكذا. وأحيانا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري، كما حدث ويحدث في السودان».
لطالما تمّ الاستشهاد بتلك العبارة للصحفي والكاتب المصري، فرج فودة، بوصفها نبؤة استشرفت مآلات ثورات الربيع العربي ومستقبل المنطقة عمومًا. ورغم أن مقولات فودة، الذي اغتالته الجماعة الإسلامية عام 1992، قد مرّ عليها أكثر من ربع قرن، إلّا أنّ الوقائع الأخيرة في مصر تبدو كتأكيد على رجاحتها وكذلك دافعًا لفحصها في الوقت ذاته. فتفجيرا أحد الشعانين في كنيستي الإسكندرية وطنطا، وإعلان النظام المصري لحالة الطوارئ بعدهما، أكّدا على تلك العلاقة الديالكتيكيّة بين العنف الجهادي والاستبداد، التي يغذي فيها أحدهما الآخر، حيث تدفع الهجمات الإرهابية لمزيد من القمع ويقود القمع الدولاتي لمزيد من الأحقاد المجتمعية. كما أن هذين الحدثين، التفجيران وإعلان حالة الطوارئ، دفعا للتشكك في الموقف الواجب اتخاذه من النظام الحاكم في ظل التهديد التي تمثله الجماعات الجهادية، فهل يجب التغاضي عن الإجراءات القمعية للنظام أو على الأقل التعايش مع سلطويته بشكلٍ مرحليّ في سبيل مواجهة الخطر الأكثر دموية وآنية ممثلًا في تنظيم داعش؟ لكن الأحداث اللاحقة سرعان ما أفرغت السؤال من منطقه، وكشفت عن معضلة أكثر تعقيدًا، فالتسجيل المصوّر الذي سرّبته قناة «مكملين»، دعم روايات متداولة، تعززها الكثير من الأسانيد، عن قيام القوات المسلحة المصرية بارتكاب تجاوزاتٍ فادحة في حربها على الإرهاب في سيناء، تصل إلى حد القتل العشوائي والروتيني خارج إطار القانون.
هكذا، فإن ممارسات أجهزة الدولة لا تبدو فقط تعزيزًا لتصاعد الإرهاب، عبر خلق أحقاد ثأرية، مفهومة دوافعها، لدى قطاعات من الأهالي ضد الدولة والمجتمع، بل وتؤطّر النظام الحاكم نفسه بوصفه خطرًا لا يقل دموية عن غرمائه من الإرهابيين، الأمر الذي يترك لنا خيارات محدودة، إن وجدت أصلًا، بين إرهاب الجماعات الجهادية من جانب وإرهاب الدولة من جانب آخر.
لكن وبالعودة إلى فودة، فإن الاقتباس المقتطع من سياقه لا يبدو دقيقًا على الإطلاق، ولا يتطابق؛ لا مع الواقع السياسي للمنطقة في الحاضر، ولا حتى في الماضي، حين تم كتابته. فمسار التاريخ الدائري، وتبادل السلطة الدوري بين قطبيه، الذي يبدو واقعًا لا فكاك منه بحسب فودة، غير مثبت تاريخيًا، فباستثناء الجزائر، ومؤخرًا مصر، اللتين أعقب في كليهما صعود الإسلاميين للسلطة انقلاب عسكري، لا يوجد نموذج آخر لتعزيز ذلك الطرح. أما السودان، التي يشير لها فودة كنموذج وضع العمامة فوق الزي العسكري، فتاريخها السياسي الحديث مع قصره، يكشف عن مسار أكثر تعقيدًا وثراءً من ثنائية العسكر والإسلاميين المختزلة، ساهمت أحزاب، وجماعات سياسية ومناطقية في رسم خطوطه وتحولاته. وفيما تطرح المغرب وتونس والأردن، على سبيل المثال، نماذج لا يمكن تدجينها داخل نموذج فودة، حيث تلعب الأحزاب الإسلامية دورًا جوهريًا على الساحة السياسية، بينما لا يبدو الجيش منخرطًا في الشأن العام، إلا أن مقولات فودة لا تزال صالحة بمعنى أكثر عمومية، فبلا شك تنتهز الأنظمة الاستبدادية العنف الجهادي لتدعيم قبضتها القمعية وتبرير شرعيتها، وكذا تخلق الإجراءات السلطوية بيئة مناسبة لتصاعد شعبية الجماعات الجهادية، في دائرة ذاتية التغذية.
تنتهز الأنظمة الاستبدادية العنف الجهادي لتدعيم قبضتها القمعية وتبرير شرعيتها، وتخلق الإجراءات السلطوية بيئة مناسبة لتصاعد شعبية الجماعات الجهادية، في دائرة ذاتية التغذية.
يطرح جلبير الأشقر في كتابيه، «الشعب يريد» (2013)، وانتكاسة الثورات العربية (2016)، نموذجًا أكثر آنية، لا تبدو فيه المعارضة العلمانية «غائبةً» بالكامل، كما لدى فودة، بل طرفًا في صراع ثلاثي. يُرجِع الأشقر ما يسميه، «انتكاسة» الانتفاضات العربية، إلى أنها لم تواجه صراعًا بين الثورة والثورة المضادة، أي بين الطموحات التحررية والنظم السلطوية القديمة، بل خاضت صراعًا ثلاثي الأقطاب بين القطب الثوري، والنظم السلطوية، وخصمها الرجعي، أي التيار الإسلامي الأصولي، الذي يختلف عنها في جوهره السلطوي والقمعي. لا يختلف نموذج الأشقر عن نموذج فودة في كونه مثلّث الأقطاب فقط، بل في مفارقته للحتمية؛ فعلاقة السلطوية- العنف الجهادي، لا تبدو عملية أوتوماتيكية، بل على العكس علاقة عمدية، تحكمها القصدية. وبحسب الأشقر فإن النظام السوري لم تكن مساهمته في ظهور الفصائل الجهادية المسلحة، راجعة لأثر جانبيّ غير متعمد لقمعه الوحشي للانتفاضة السلمية، بل إلى العلاقات التاريخية بين النظام السوري والجماعات المسلحة في العراق أثناء الاحتلال الأمريكي، واستغلاله لتلك العلاقات لتحفيز ظهور جبهة النصرة وداعش لاحقًا، بوصفهما «العدو المفضّل» للنظام السوري. وما يسري على النموذج السوري، يبدو صالحًا للانتفاضة المصرية بحسب الأشقر، فالنظام القديم ممثلًا في الجيش تحالفَ مع جماعة الإخوان، وسعى لتصعيدها على حساب سحق المعارضة المدنية، بوصفها خصمًا «مفضلًا» أيضًا، تمكن إزاحته بعد تفريغ الثورة من محتواها.
يذهب سليمان الفرازلي، في كتابه «حروب الناصرية والبعث» (2016) إلى أبعد مما ذهب إليه الأشقر من كوْن صعود جماعات الجهاد المسلح عمليةً متعمدةً، بفعل تحفيز الأنظمة السلطوية لها. فعلى خلاف الأشقر الذي ينظر في الآني، فإن الفرازليّ ينظر في تاريخ أبعد، لفهم مآلات الحاضر، محيلًا إيانا إلى «ماضي لا يمضي»، في مواجهة «المستقبل الذي لا يقبل»، وإن كان لا يسقطنا بالضرورة في دوامة فودة الدائرية.
فبالرغم من أن كتاب الفرازلي يبدو شديد التفكك، ولا يتتبع نسقًا من الأفكار يمكن تتبعها، إلّا أن واحدة من خيوطه الكثيرة المتناثرة دون انتظام والجديرة بالنظر، هي محاولته تفسير صعود الحركات الجهادية المسلحة بعد الربيع العربي بالرجوع إلى العلاقة الملتبسة بين الإسلام السياسي والأنظمة الاستبدادية العربية، كاشفًا عن الجوهر الإسلامي الأصولي للناصرية والبعث العراقي والسوري، والتي بدأت مع علاقة الظباط الأحرار بجماعة الإخوان المسلمين وتنظيرات سيد قطب ووصولا إلى إعلان صدّام حسين عن إسلام «ميشيل عفلق» بعد وفاته. الخطوة الاستثنائية التي يتخذها الفرازلي، هي نفيه للثنائية القطبية بين السلطوية والجهادية، جازمًا بالوحدة العقائدية والأيدولوجية لهما. ففي النهاية، تنهل السلطوية والجماعات الإرهابية من معينٍ عقائديٍ واحدٍ، وتمارسان نهجًا تخريبيًا واحدًا، استأثرت بجل جرائمه الأنظمة الحاكمة بفعل موقعها في السلطة. وينتهي الفرازلي بتعميم العلاقة بين الاستبداد والجماعات الجهادية ليشمل ذرائع الاستبداد الأخرى، أي مواجهة الأستعمار أو المعركة مع «إسرائيل» وغيرها.
يؤكد الأشقر والفرازلي، على أن معركة التيار الديمقراطي لا بد لها أن تخاض على جبهتين، في الوقت ذاته، دون مهادنة للسلطة المستبدة، أو تواطؤ، باسم الحرب على الإرهاب.
يقدم فودة والأشقر والفرازلي ثلاثة نماذج من نماذج عدة لفهم علاقات الاستبداد بذرائعه، وبالأخص العنف الجهادي. وبرغم اختلافات تلك النماذج في تفاصليها، إلّا أنها تتفق في مرجعية الاستبداد السلطوي من حيث الأسبقية، وأولوية مواجهته. فمجمل أعمال فودة تجزم بأن «غياب» المعارضة المدنية التي تقودنا إلى الدائرة المفرغة، ليست حدثًا عارضًا، بل تعمّدًا من قبل السلطة المستبدة (العسكر)، «التي تنجح في تفريغ المجتمع من القيادات المدنية المؤمنة بالشرعية، وتنجح أيضًا، وهذا هو الأهم، في ترسيخ مفاهيم إهدار الشرعية الدستورية». فيما يؤكد الأشقر والفرازلي، كلٌّ بطريقته، على أن معركة التيار الديمقراطي لا بد لها أن تخاض على جبهتين، في الوقت ذاته، دون مهادنة للسلطة المستبدة، أو تواطؤ، باسم الحرب على الإرهاب، أو غيرها.
تظل محاولة الوصول إلى معادلة واحدة صالحة للتطبيق في كل أقطار المنطقة مع تنوع سياقاتها التاريخية والاجتماعية وخلفيات مساراتها السياسية طموحًا عصيًا على التحقق. ويبقى الحديث النظري، عاجزًا أمام التحديات اليوميّة التي يجب على أساسها أن يتخذ الفاعلون السياسيون قراراتهم، فبين خيارات القتل تحت مدرعات الجيش في ماسبيرو والقنابل في قدّاسات الأعياد في الكنائس تبدو الخيارات العقلانية والعملية محدودة أمام الأقباط على سبيل المثال، كما يبدو القتل عشوائيا بطلقات السلاح «الميري» في سيناء هو ذاته الذبح بتهمة التعاون مع الجيش هناك أيضًا.
وفي ظل غياب معارضةٍ ديمقراطيةٍ قادرةٍ على لعب دورٍ جوهري في صياغة نظام الحكم، وضبط علاقات السلطة مع المجتمع، تظّل الخيارات الممكنة مقامرات مرحلية وآنية، وفي أحيانٍ أخرى فرديةً جدًا، لا أكثر، وغير قادرةٍ على الخروج من الدائرة المفزعة، سوى بإدراك براجماتي بأسبقية السلطة وأولوية مواجهتها وإصلاحها كخطوة أولى لمواجهة ذرائع الاستبداد سواء أكانت إرهابا أو استعمارًا.