السلام بين أريتريا وإثيوبيا: كيف انهار جدار برلين الأفريقي؟

الإثنين 23 تموز 2018
رئيس الوزراء الأثيوبي رفقة الرئيس الإريتيري

مئة يوم فقط احتاجها رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد (41 عام) منذ استلامه السلطة في الثاني من نيسان/أبريل الماضي، لتحقيق تحوّل جذري في السياسة الداخلية والخارجية لبلاده بطي صفحة حرب استمرت 22 عامًا بين بلاده وجارتها أريتريا، خسر فيها البلدان أكثر من 80 ألف جنديًا ومئات المليارات من الدولارات.

هذا التحوُّلٌ يشكّل انقلابًا حقيقيًا يقطع الكثير مع الماضي، وهو أمرٌ لا يختلف اثنان في أثره على الدولتين بالخصوص، وعلى منطقة القرن الأفريقي ككل. ولن تكون المنطقة العربية محل استثناء من أثر تلك التحولات.

جدار برلين

قد لا يجد المواطن العربي تفسيرًا للوجود الكثيف لأشخاص قادمين من دولة إثيوبيا وأريتريا في بلدانهم، ولا يعرف أيَّ جحيم خرجوا منه، وقد لا يعرف كثيرًا عن الحرب التي كانت تدور على مرمى حجر في منطقة من أكثر مناطق العالم استراتيجية، وكيف تم بناء جدار برلين في قلب أفريقيا قبل نحو عشرين عامًا وكيف ينهار الآن ذلك الجدار.

للإجابة عن تلك الأسئلة، نحتاج إلى العودة للوراء كثيرًا، لنعرف ما الذي جرى بين إثيوبيا وأريتريا، ولماذا تتصالحان الآن.

في العام 1974 وقع انقلاب على الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي وصعد للحكم نظام شيوعي بقيادة منقستو هيلا مريام، لتبدأ حرب أهلية استمرَّت حتى إسقاط نظام هيلا مريام وصعود الجبهة الشعبية الإثيوبية لسُدَّة الحكم في العام 1991. في ذات الوقت كان الانفصاليون الأريتريّون يقودون حربًا ضد النظام الماركسي في إثيوبيا، وفي 1993 جرى استفتاء شعبي، صوت فيه الأريتريون للاستقلال.

بعد فترة وقعت خلافات بين أثيوبيا والدولة الأريترية الحديثة حول ترسيم الحدود، خاصة من منطقة (بادمي)، لتنطلق منها شرارة الحرب في العام 1998 وتبدأ مواجهات عسكرية امتدَّت لعدد من المناطق. إثر ذلك أغلقت الحدود وانقسم الشعبان رغم أن الأغلبية هنا وهناك تنحدر من قوميات إثنية مُشتركة. ومُنعت الأسر من زيارة بعضها البعض، وحتى الاتصالات الهاتفية أصبحت ممنوعة.

أثّرت الحرب على المنطقة كلها، حيث تشرّد مئات الآلاف ولجؤوا إلى بلدان الجوار، إلى جانب خسارة البلدين للموارد وآلاف الجنود.

تحت الضغط الإقليمي والدولي، وقَّع رئيس الوزراء الإثيوبي حينئذٍ، ملس زيناوي، والرئيس الأريتري أسياس أفورقي، اتفاقَ سلامٍ بالجزائر في ديسمبر/كانون الأول 2000، وأُحيل النزاع الحدودي للجنة دولية. ورغم أن الاتفاق تضمن بندًا يلزم البلدين بقرار اللجنة إلا أن إثيوبيا رفضت الاستجابة، مما عرقل جهود بناء سلام حقيقي، ودخل البلدان في حالة حرب باردة استمرّت حتى وصول رئيس الوزارء الإثيوبي المنتخب حديثًا لسُدَّة الحكم.

عوامل التحوُّل

البعض اعتبر التحول الإثيوبي في العلاقة مع أريتريا مفاجئًا، ولكنه ليس كذلك، بل جاء في ظل ظروف داخلية موضوعية فرضت التحوّل، بجانب تحولات إقليمية وترتيبات دولية في أفريقيا عمومًا.

منذ سنوات، بدأت إثيوبيا تقديم نفسها بوصفها قوة اقتصادية ناهضة ووجدت الدعم الدولي والإقليمي، ليُصبح الاقتصاد الإثيوبي من أكثر الاقتصاديات نموًا في المنطقة بحسب تقرير للبنك الدولي، حيث بلغ النمو ​​10.3 بالمئة ما بين 2005 و2015. بيد أنه مع استمرار الكبت السياسي واعتقال المعارضين وتململ بعض القوميات الإثنية خاصة (الأرومو) ذات الأغلبية المسلمة و(الأمهرا) خرجت احتجاجات شعبية، وصلت حتى العاصمة أديس أبابا.

واجهت الحكومة الإثيوبية الاحتجاجات بعنف أدى إلى سقوط 669 شخصًا بحسب تقرير المفوضية الإثيوبية لحقوق الإنسان، وفرضت نتيجة لذلك حالة الطوارئ، مما دفع الائتلاف الإثيوبي الحاكم لإجراء مراجعات حقيقية تخوُّفًا من انفجار الأوضاع بشكلٍ أكبر.

نتيجة لذلك، قدّم رئيس الوزراء هايلي ديسالين استقالته في فبراير/شباط الماضي، ليقوم حزب المنظمة الديمقراطية لشعب أرومو، أحد أحزاب الائتلاف الحاكم، بانتخاب السياسي الشاب آبي أحمد كرئيس للحزب، مما وضعه في موقع قوي للمنافسة على منصب رئيس الوزراء، خاصّة وأنه عضو في البرلمان، وهذا أحد الشروط التي يجب أن تنطبق على رئيس الوزراء. انتخب البرلمان الإثيوبي آبي أحمد للمنصب في 2 نيسان/أبريل 2018، ووضعَت الجبهة الديمقراطية الشعبية – الائتلاف الحاكم – استراتيجية جديدة لمواجهة الاحتجاجات ليبدأ الرئيس الشاب في تنفيذها.

بدأ الإعلان عن الاستراتيجية الجديدة في خطاب رئيس الوزراء الجديد أمام البرلمان عقب أدائه اليمين الدستورية، حيث جاءت الرسالة والمؤشرات أوضح ما يكون من خلال ذلك الخطاب بإعلان أبي احمد إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء تهم الإرهاب في مواجهة عدد من القوى السياسية المعارضة في الخارج، ودعوتهم للعودة إلى البلاد. أعلن آبي أحمد كذلك استعداد بلاده للقبول بقرار لجنة ترسيم الحدود مع أريتريا وتسليمها منطقة (بادمي)، وقدّم دعوة للحكومة الأريترية لزيارة إثيوبيا.

لقي هذا صدى كبيرًا داخليًا وإقليميًا، وفي نفس الوقت ترحيبًا حذرًا من جانب أريتريا. لكن الحكومة الأريترية سرعان ما أدركت جدية النظام الإثيوبي الجديد، لترد التحية بإرسال وفدٍ برئاسة وزير الخارجية، عثمان صالح، إلى أديس أبابا في أول زيارة رسمية بين البلدين منذ 20 عامًا.

بعد ذلك تسارعت وتيرة الأحداث بإعلان رئيس الوزراء الإثيوبي زيارة للعاصمة الأريترية أسمرا، ليجد هناك استقبالًا رسميًا وشعبيًا كبيرًا، تبعه لاحقًا زيارة الرئيس الأريتري أسياس أفورقي لأديس أبابا والإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات وخطوط الطيران.

ثمنٌ غالٍ

مخاوفُ كثيرةٌ تُحيط بهذا السلام المُتسارع خاصة داخل إثيوبيا، حيث يُوجد تململٌ من قيادات داخل التحالف الحاكم الذي تسيطر عليه قومية (التقراي)، خاصة أن عددًا من أبناء هذه القومية يعتبرون المنطقة المُتنازع عليها (بادمي) جزءًا من أراضيها خاضت من أجل المحافظة عليها حربًا شرسة. لذلك هم غير راضين عن تسليمها للجانب الأريتري، ولا عن الانفتاح السياسي بين البلدين.

الحدث الأبرز خلال ولاية آبي أحمد، هو التفجير الذي حدث في 23 يونيو- حزيران الماضي خلال لقاء جماهيري لرئيس الوزراء في العاصمة أديس ابابا، والذي اُعتبر محاولة لاغتياله، وكانت رسالة قوية من الدولة العميقة للحاكم الجديد بأنه يُمكن أن يفقد حياته نتيجة التحوّل الكبير الذي يقوده.

من المفهوم تمامًا وقوف بعض القيادات القديمة ضد الاختراقات التي أحدثها آبي أحمد، وكترياق لأية مُمانعة أُقيل أقوى الشخصيات العسكرية، رئيس هيئة الأركان الجنرال سامورا يونس الذي قاد الحرب ضد أريتريا ووقف بقوة ضد أيِّ محاولة سلام معها. يقول الكاتب والصحفي الاريتري جمال همت إن «المهددات كثيرة لهذه التحولات وإن صقور التقراي انحنوا فقط للعاصفة، ولكن إذا لم يتم التعامل مع التغييرات الحالية بهدوء يمكن أن تنفجر الأوضاع في إثيوبيا في أية لحظة، ويُمكن أن يتفجَّر صراعٌ إثنيٌّ يُؤدِّي لتقسيم البلاد». ويُضيف في حديث لحبر أن الدعم الشعبي للتغييرات هو أكبر ضامنٍ لها، إضافة إلى أن الائتلاف الحاكم يرعى هذا التحوُّل منذ فترة رئيس الوزراء الأسبق، خاصة ملف العلاقات مع أريتريا. ومع خروج الجنرال سامورا والأب الروحي لجبهة تحرير التقراي سبحت نقا من المشهد يصبح الطريق مُمهَّدًا للذهاب في طريق الإصلاح والسلام مع أريتريا، بحسب قوله.

مصالح متبادلة

في الجانب الآخر، نجد أن لدى الرئيس الأريتري سجلًّا حافلًا من المناورات السياسية مع خصومه في الداخل والخارج، ويمكنه التراجع عن هذا الاتفاق في أي وقت، لكنَّه في الوقت الحالي يحتاج للتطبيع مع إثيوبيا بسبب الظروف الداخلية خاصة الاقتصادية. حيث يشهد نظامه عزلةً دوليةً وعقوباتٍ من مجلس الأمن منذ 2009 بسبب دعمه المتمردين الصوماليين، شملت حظر سفر للقيادات السياسية العليا والعسكرية وتجميد حسابات البلاد وحظر توريد الأسلحة. كما تحتاج أريتريا جارتها إثيوبيا لأسباب اقتصادية، إذ يُنتظر أن تستأنف إثيويبا استخدام ميناء عصب ومصوع لاستيراد وتصدير بضائعها، وهذا سيضمن لأريتريا موارد مالية كبيرة خاصة بعد إغلاق السودان في ديسمبر/كانون الأول حدودها مع أريتريا، وهي حدود يعتمد عليها الأريتريون في جلب البضائع والوقود.

تحتاج أريتريا أيضًا للعلاقات الدولية التي تتمتع بها إثيوبيا، لإعادة التطبيع مع المجتمع الدولي، فقد وعد رئيس الوزراء الإثيوبي بأن يكون بمثابة وزير خارجية لأريتريا في المحافل الدولية ويسعى لرفع العقوبات المفروضة على البلاد.

إثيويبا أيضًا تريد تحقيق فوائد اقتصادية من هذا الاتفاق خاصة في إقليم التقراي المُجاور لأريتريا، والذي يُعاني من البطالة. كذلك فإن إثيوبيا دولة مغلقة تفتقد للسواحل وتحتاج في نهضتها الاقتصادية لاستخدام الموانئ الأريترية، حيث كانت في الفترة الماضية تستخدم ميناء جيبوتي بكلفته الاقتصادية الكبيرة مقارنة مع الموانئ في أريتريا، لذلك فإن المعادلة الاقتصادية لهذه المصالحة حاضرة بقوة وقد تكون عاملًا لإنجاح هذا الأمر.

البعد العربي

الدول العربية ليست بعيدة عن ما يحدث من تغييرات في العلاقة بين إثيوبيا وأريتريا، إذ تقف الإمارات والسعودية بقوة وراء هذه المصالحة في سياق بسط نفوذهما في أفريقيا، حيث تحتفظ الرياض وأبوظبي بعلاقاتٍ جيدة مع أطراف الصراع، لذلك زار ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد قبل المصالحة أديس أبابا، وأعلن دعم بلاده لإنهاء حالة العداء مع أريتريا، بجانب دعمه للاقتصاد الإثيوبي بثلاثة مليارات دولار في شكل ودائع.

أريتريا دولة مهمة للإمارات خاصة بعد اندلاع حرب اليمن، حيث تستخدم أبوظبي الموانئ الأريترية، ولديها قواعد عسكرية تتحرَّك منها الطائرات المشاركة في عاصفة الحزم بجانب السعودية التي لديها وجود أيضًا في أريتريا، إضافة إلى علاقات اقتصادية قوية مع إثيويبا. لذلك فإن إنهاء حالة العداء مُهمَّةٌ لحفظ مصالح الرياض وأبوظبي.

أمّا مصر فتنظر لهذه المصالحة بحذر، حيث ما يزال ملف مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي يثير مخاوفها، رغم زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للقاهرة، ووعده بأن لا تتضرَّر مصالح مصر المائية، إلا أن التوجُّس قائمٌ لدى القاهرة، التي كانت تستفيد من حالة العداء بين أريتريا وإثيوبيا، وسعت لإيجاد وجود عسكري على الأراضي الأريترية في حال وصل الأمر للقيام بفعل عسكري تجاه إثيويبا. كذلك فإن مصر متهمة بدعم المعارضة الإثيوبية المسلحة التي تنشط على الحدود. لذلك يبدو حتى الآن أن مصر تخسر ورقتها القوية في الضغط على إثيوبيا بهذه المصالحة، لكن ليس لديها خيار سوى دعمها إكرامًا لأعين الإمارات والسعودية.

أمّا الولايات المتحدة، فهي تتابع هذا الوضع الجديد في القرن الأفريقي، ويبدو أنها تستعدُّ لمكافأة أريتريا في حالة استمرار المصالحة مع إثيوبيا برفع العقوبات عنها مثلما فعلت مع السودان بعد إيقافها دعم الحرب في جنوب السودان. كذلك يريد الاتحاد الأوروبي إنهاء حالة الحرب التي يعيشها النظام الأريتري والخدمة العسكرية التي بموجبها اندفع ملايين الشباب للهجرة عبر السواحل الليبية وصولًا لأوروبا.

لكن مع كل هذه العوامل، يبقى الأمل في نهاية الأمر معقودًا على الجماهير التي خرجت بالآلاف في شوارع البلدين، فرحًا بهذه المصالحة، وقد تكون هي الضامن الأكبر، خاصة أنها هي وحدها التي دفعت ثمن الحرب وتريد اليوم أن تجني ثمار السلام.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية