كيف أصبحت النسوية خادمة للرأسمالية، وكيف نستعيدها؟

الثلاثاء 01 آذار 2016

بقلم نانسي فريجر، ترجمة فريق الترجمة في مدونة ما العمل

(نشر هذا المقال بالإنجليزية في صحيفة الغارديان، ونشرت الترجمة العربية في مدونة ما العمل؟)

كنسوية لطالما افترضت أنني بكفاحي لتحرير المرأة كنت أبني عالمًا أفضل وأكثر مساواة وإنصافًا وحرية. إلا أنه مؤخرًا، بدأ يساورني القلق من أن المبادئ الأساسية النسوية أصبحت تخدم مقاصدًا مختلفة جدًا. ما يقلقني خاصةً، هو أن نقدنا للتحيّز الجنساني أصبح يوفّر المسوّغات لأشكال جديدة من اللا مساواة والاستغلال.

بتحوّل قاس لمجرى الأقدار، أخشى أن حركة تحرير المرأة أصبحت مرتبطة في علاقة خطيرة مع الجهود النيوليبرالية لبناء مجتمع السوق الحرة. وهذا قد يُفسّر سبب التعبير عن الأفكار النسوية بمصطلحات فردانية الآن، بعد أن كانت تشكل سابقًا جزءًا من وجهة نظر راديكالية عالمية. حيث أن النسويات اللاتي كنّ يرفضن في السابق المجتمع الذي يروّج للوصولية أصبحن الآن ينصحن النساء بالتماهي معه. الحركة التي كانت في السابق تمنح الأفضلية للتكافل الاجتماعي، أصبحت الآن تحتفي بسيدات الأعمال. المنظور الذي كان في السابق يمنح قيمة للرعاية والاعتماد المتبادل أصبح الآن يشجع الارتقاء الفردي والاستحقاقراطية (النظام الذي تُسند فيه المسؤوليات إلى الأفراد على أساس استحقاقهم القائم على مقدرتهم الفردية).

النسويات اللاتي كنّ يرفضن في السابق المجتمع الذي يروّج للوصولية أصبحن الآن ينصحن النساء بالتماهي معه

ما يكمن وراء هذا التحوّل، كما أرى، هو التغير الهائل الذي طرأ على طابع الرأسمالية. فالرأسمالية المنظّمة من قِبل الدولة في فترة ما بعد الحرب فسحت المجال لشكل جديد من الرأسمالية «غير المنظمة» والمعولمة والنيوليبرالية. وقد ظهرت الموجة النسوية الثانية كنقد للرأسمالية في شكلها الأول ولكنها أصبحت الآن خادمة للرأسمالية في شكلها الجديد.

وبالتأمل في الأوضاع السابقة، بإمكاننا الآن أن نرى كيف أن حركة تحرير المرأة كانت تشير في الوقت نفسه إلى مستقبلين محتملين ومختلفين عن بعضهما. في السيناريو الأول، تتصور الحركة عالمًا يسير فيه التحرر من التمييز الجنساني جنبًا إلى جنب مع الديمقراطية التشاركية والتكافل الاجتماعي. في السيناريو الآخر، تتعهد الحركة بشكل جديد من الليبرالية، يضمن للنساء كما للرجال منافع الاستقلالية الفردية والخيارات المتعددة والتقدم الاستحقاقراطي. كانت الموجة النسوية الثانية من هذه الناحية تتأرجح بين التصوّرين. وبتماهيها مع كلا التصورين المختلفين للمجتمع، هذا جعلها عرضة للتأثر ببلورتين تاريخيتين مختلفتين.

وكما أرى، فإن الموقف المتأرجح للنسوية حُسم في السنوات الأخيرة لصالح التصوّر الثاني – السيناريو الليبرالي الفرداني – ولكن ليس لأننا كنا ضحايا سلبيين للتضليل النيوليبرالي. على العكس، فقد ساهمنا نحن أنفسنا بثلاثة أفكار مهمة في تطوره.

إحدى المساهمات كانت نقدنا لــ«دخل الأسرة»: أي نموذج الأسرة التي يكون فيها الذكر معيلًا للأسرة والأنثى هي ربة المنزل، والذي كان نقطة مركزية في الرأسمالية التي تنظمها الدولة. نقد النسوية لهذا النموذج ساهم في شرعنة «الرأسمالية المرنة». هذا الشكل من أشكال الرأسمالية كان يعتمد بشكل كبير على النساء كأيدٍ عاملة خاصةً الأعمال ذات الأجرة المنخفضة في مجال الخدمة والصناعات، ليس فقط الفتيات العازبات بل وأيضًا النساء المتزوجات والأمهات، وليس فقط النساء اللاتي يتعرضن للمعاملة العنصرية بل النساء من جميع الأعراق والجنسيات. وبتدفّق النساء إلى سوق العمل في كافة أنحاء العالم، استُبدِل نموذج دخل الأسرة في الرأسمالية التي تنظمها الدولة بنمط أكثر حداثة يعمل فيه الزوجان، ومن الواضح أنه نال قبول النسوية.

ناهيك عن أن الواقع المتخفي خلف النموذج الجديد هو واقع معدلات الأجور المُحبِطة وانخفاض الأمن الوظيفي وانخفاض المستويات المعيشية والارتفاع الحاد في عدد ساعات العمل مقابل وقت الاهتمام بالشؤون المنزلية، وازدياد الأعمال ذات الورديتين والتي أصبحت تصل إلى ثلاث ورديات أو أربع، وانتشار الفقر وخاصةً في أوساط الأسر التي تعيلها نساء. النيوليبرالية أرادت تجميل هذا الواقع السيء باختلاق سردية تمكين المرأة، بالاستناد على نقد النسوية لدخل الأسرة لتبرر هذا الاستغلال، موظفةً حلم تحرير المرأة في آلة تكديس رأس المال.

النيوليبرالية أرادت تجميل هذا الواقع السيء باختلاق سردية تمكين المرأة، بالاستناد على نقد النسوية لدخل الأسرة لتبرر هذا الاستغلال، موظفةً حلم تحرير المرأة في آلة تكديس رأس المال

 هناك مساهمة ثانية للنسوية في التطور النيوليبرالي. في الفترة التي كانت فيها الرأسمالية تُنظّم من قِبل الدولة، كنّا ننتقد بحقّ النظرة السياسية ضيقة الأفق والتي ركّزت باهتمام شديد على التفاوت الطبقي ولم تكن ترى الظلم في أشكاله غير الاقتصادية مثل العنف الأسري والاعتداء الجنسي وسلوكيات التعسف المتوارثة. وبرفض إضفاء الطابع الاقتصادي والسياسي على «المسائل الشخصية»، وسّعت النسويات الأجندة السياسية ليتحدين التسلسلات الهرمية والتي أُقيمت على أسس ثقافية من التمييز الجنساني. كانت النتيجة المرجوة توسيع رقعة النضال من أجل أن تشمل العدالة كلًا من الثقافة والاقتصاد، ولكن النتيجة الفعلية كانت أنه تم التركيز المتحيّز على «الهوية الجنسانية» على حساب مشاكل المعيشة. الأسوأ من ذلك هو أن النسوية أصبحت تتماهى مع السياسات المرتبطة بشكل وثيق مع صعود النيوليبرالية والتي لا تطمح لشيء سوى سحق أي ذِكر للعدالة الاجتماعية. في الحقيقة، لقد ركزّنا على نقد التمييز الجنساني الثقافي في الوقت الذي تقتضي فيه الظروف الحرص على نقد الاقتصاد السياسي.

أخيرًا، ساهمت النسوية أيضًا بفكرة ثالثة للنيوليبرالية وهي نقد أبوية دولة الرفاه. في الواقع، أنه في عصر الرأسمالية المنظمة من قِبل الدولة، أخذ النقد صف النيوليبرالية في حربها على «الدولة المربّية» ومفارقة احتضانها الحديثة للمنظمات غير الحكومية. مثال على ذلك، «القروض الصغيرة» وهو برنامج قروض بنكية صغيرة للنساء الفقيرات في الدول الفقيرة كبديل عملي للإجراءات البيروقراطية المنهكة والتي تمر من أعلى السلم الإداري إلى الأسفل في المشاريع الحكومية. هذه القروض الصغيرة كانت توصف على أنها الترياق النسوي لعلاج فقر وخضوع النساء. ما فاتهم هنا أن هناك مصادفة محيّرة وهي أن هذه القروض الصغيرة قد ازدهرت في الوقت الذي تخلت فيه الحكومة عن مجهوداتها الهيكلية الضخمة في مكافحة الفقر والتي لا يمكن أن تُستبدل ببرنامج تسليف ذي نطاق ضيق. وفي هذه الحالة أيضًا، استولت النيوليبرالية على فكرة النسوية. لذا فإن الرؤية التي كانت تطمح إلى جعل سلطة الدولة ديمقراطية لتمكين المواطنين أصبحت تُستخدم لشرعنة اقتصاد السوق وتخفيض نفقات الدولة.

في كل الحالات فقد تم حسم الموقف المتأرجح للنسوية لصالح الفردانية (النيو)ليبرالية. على الرغم من ذلك، قد تكون السيناريوهات الأخرى التضامنية ما تزال حية. والأزمة الحالية تتيح الفرصة لتولي زمام الأمور مرة أخرى، وإعادة ربط حلم تحرير المرأة برؤية مجتمع متضامن. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب على النسويات قطع ارتباطهن الخطير بالنيوليبرالية واستعادة المساهمات الثلاث من أجل خدمة غاياتنا.

أولًا، يجب علينا أن نقطع الصلة الزائفة بين نقدنا لدخل الأسرة والرأسمالية المرنة عن طريق النضال من أجل شكل للحياة لا يكون فيه التركيز على العمل المأجور، وتُمنَح فيه قيمة للأنشطة غير المأجورة والتي تتضمن -ولا تنحصر في- أعمال الرعاية. ثانيًا، علينا تعطيل مسار نقدنا من نقد اقتصاد السوق إلى سياسات الهوية بجمع النضال من أجل تغيير نظام الطبقات المبني على قيم ثقافية ذكورية مع النضال من أجل عدالة اقتصادية. أخيرًا، يجب علينا قطع الرابط الزائف بين نقدنا للبيروقراطية وأصولية السوق الحرة من خلال استرجاع عباءة الديمقراطية التشاركية كأداة لتقوية السلطات العامة الضرورية لتقييد رأس المال من أجل العدالة.

*الصورة المرفقة من موقع فليكر لعاملات من بنغلادش. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية