تفاوتت ردود الفعل على رفض أغلبية الشعب اليوناني الخطة المقدمة من صندوق النقد الدولي بين حماس وتأييد جارف لِما يراه الكثيرون كسرًا لشوكة المنظمات المالية الدولية، مرورًا بالحذر وعدم فهم مثل هذا القرار وخوفًا من تبعاته على اليونان، إلى إدانة الدول الغربية ومعظم صحافتها لنتيجة الاستفتاء.
الرواية السائدة في الغرب هي أن صندوق النقد الدولي تدخل كالمنقذ من سياسات يونانية متهورة، وأن الرفض يدل على عقلية مغامرة متجذرة في الأساطير اليونانية، مما يعني ضمنًا غياب العقلانية لدى معظم الشعب اليوناني، وسط تصعيد لنبرة التخويف والتهيب من التداعيات الـ«لا» اليونانية.
السيدة كريستين لا غارد، مديرة صندوق النقد الدولي، ساهمت في ترسيخ فكرة لاعقلانية الرفض قبل تاريخ الاستفتاء بأيام بقولها أن الأزمة بحاجة ألى استئناف الحوار بوجود «الراشدين في الغرفة»، أي استبعاد رئيس الوزراء أليكسس تسبيراس لوزير المالية يانس فاروفاكيس وحزب اليسار الراديكالي من المفاوضات، وأن الرفض دليل مراهقة وعدم نضوج.
معظم الدول في السنوات الأخيرة، بما فيها بلدان الثورات العربية، رضخت للشروط وتعاملت مع الصندوق كشريك أو كشرٍّ لا بد منه.
كلمات لاغارد الاستعلائية ليست مستغربة؛ فمعظم الدول في السنوات الأخيرة، بما فيها بلدان الثورات العربية، رضخت للشروط وتعاملت مع الصندوق كشريك أو كشرٍّ لا بد منه، فالدول الغارقة بالديون لا مخرج لها إلا بديون جديدة شريطة قبول حزمة من الإجراءات التقشفية وخصخصة أصول الدولة وعدم التقدم بخطة صرف قرض المؤسسات، أو وضع خطة بديلة.
من المهم التوقف عند النقطة الأخيرة لأن اليونان طلبت التقدم بخطة بديلة وطالبت بإلغاء الديون القديمة حتى تستطع إعادة بناء اقتصادها وتخفيف الضرر على الطبقات الوسطى والكادحة. الصندوق والدول الغربية رفضت حتى التفكير في الطلب، علمًا بأن تقريرًا للصندوق الدولي نفسه خلص إلى أنه على الصندوق أن يفكر جديًا بتمديد المهلة النهائية وتخفيض قيمة الديون.
الدول الغربية تعاملت مع الطلب اليوناني وكأنه خارق لكل الأعراف، علمًا بأن الغرب وافق على إلغاء 50% من ديون ألمانيا في عام 1953، كما أشار الكاتب لاري إليوت، وإن كان اتفاق لندن مبنيًا على إدخال ألمانيا كطرف الحرب الباردة. لكن السؤال الأهم هل قبول اليونان لشروط صندوق النقد الدولي كان ليصب في صالح الاقتصاد والشعب اليوناني؟
في السابق، حذر الكثير من الاقتصاديين والباحثين الاجتماعيين اليساريين من تداعيات التغييرات الهيكلية التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، منهم منهم بول كاغان وإدواردو غاليانو وسمير أمين. لكن في العقدين الأخيريين، انضمت إليهم أصوات متجذرة في المدرسة الليبرالية مثل جوزيف ستيغليتز وبول كروغمان وكلاهما حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، لتصبح في طليعة نقاد كل من البنك وصندوق النقد الدوليين. فستغيلتز فاجأ الجميع بمقال كتبه في عام 1999 متهمًا فيه النبك الدولي وصندوق النقد بأنهما ليسا أكثر من مستشارين للحكومات الغربية.
لم يكتفِ كل من ستيغليتز وكروغمان بالنقد، بل فنّدا ادعاءات الصندوق وحرّضا علانية اليونانيين على التصويت بـ«لا» في الاستفتاء الشعبي واتهما الغرب بمحاول عقاب اليونان
في حال اليونان، لم يكتفِ كل من ستيغليتز وكروغمان بالنقد، بل فنّدا ادعاءات الصندوق وحرّضا علانية اليونانيين على التصويت بـ«لا» في الاستفتاء الشعبي واتهما الغرب بمحاول عقاب اليونان، محذرين بأن الشروط الدولية ستعمق أزمة اليونان الاقتصادية والاجتماعية. لم يكن هذان الاقتصاديان أول من فضح ابتزاز صندوق النقد الدولي، لكن الملفت في حالتهما أنهما جاءا فكريًا من رحم النظام الرأسمالي.
قبل الاستفتاء بأيام، أعلن ستيغليتز أنه لو كان يونانيًا كان سيصوت بـ«لا» رافضًا حزمة الصندوق، لأن الرفض، وبالرغم من تبعاته، سيفتح بوابة لمستقبل أفضل من حاضر اليونان الصعب. وهنا يجب عرض أهم النقاط التي دفعت ستيغليتز إلى موقفه المعلن:
أولًا: إن خطة الصندوق الدولي السابقة التي قبلتها اليونان في عام 2010 أدت إلى انخفاض الناتج الاجمالي المحلي بنسبة 25% وزيادة البطالة إلى أكثر من 60%، والأنكى برأي ستيغليتز أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي لم تتحمل أي منها مسؤولية الضرر الذي وقع على اليونان.
ثانيًا: «الترويكا» وضعت شروطًا تعجيزية في الخطة الجديدة المقدمة، في خطوة اعتبرها ستغليتز وآخرون عقوبة على اليونان خاصة بعد فوز حزب اليسار الراديكالي وخروجه عن الإجماع الغربي.
ثالثًا: إن معظم الأموال التي أقرضها صندوق النقد الدولي لليونان لم تذهب الى البلد نفسها بل لتدعيم الأجهزة البنكية في الدول الكبرى الدائنة وأهمها ألمانيا.
خلص ستيغليتز إلى أن اليونان تدفع ثمن خيارها في الانتخابات النيابية التي وصل بها اليساري أليكسيس تسيبراس إلى منصب رئيس الوزراء، لكن أهمية كلمات ستيغليتز أنها لا تشرح الوضع في اليونان فحسب بل تكشف أساليب الضغط والابتزاز التي يمارسها صندوق النقد والحكومات من ورائه لإخضاع الدول والشعوب.
كروغمان أعلن أيضًا عن تأييده لرفض الخطة مؤيدًا خيار الشعب اليوناني، ومشبهًا المؤسسات الدولية والحكومات التي تدعمها بـ«أطباء القرون الوسطى الذي كانوا يعالجون المريض باستنزاف دمه» وإذا لم ينجح علاجهم وتدهورت صحة المريض«يقومون بالمزيد من استنزاف المريض»، أي إعادة فرض وصفة الإجراءات التقشفية التي أثبتت فشلها مرارًا وتكرارًا.
لقد رضخت في السنوات العشرين الأخيرة الدول الواحدة تلو الأخرى لسيطرة المؤسسات المالية الدولية، إذ أن إعادة «الهيكلة الاقتصادية» كما يطلق على شروط الصندوق، كانت وما زالت في طليعة أولويات سياسات الدول الغربية، وليست منفصلة عنها، فالبعض يذكر تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري المتتابعة عام 2012 والتي طالب فيها مصر علانية في عهد مرسي بعدم التلكؤ بتنفيذ إجراءات التقشف وما يرافقها من خطوات. ورفضت الدول الغربية في تلك السنة أي تفكير بخطط بديلة، ليس لقرض الصندوق الذي كانت حكومة مصر مثلها مثل تونس قد وقعت على اتفاقية بشأنه، بل لخطة الإنفاق التي وضعتها المعارضة المصرية تحت إشراف الاقتصادي أحمد سيد النجار.
لم يتجاهل صندوق النقد خطة «إنقاذ الاقتصاد المصري»، بل طلب اجتماعًا مع المعارضة بحضور النجار، لجس نبض قوة وجدية الخطة التي ركزت على صرف القرض على مشاريع إنتاجية تؤمن سد الديون ووضع أسس بناء اقتصاد منتج حتى لا تعود مصر إلى الاقتراض من الصندوق. لم تلتفت القيادات المصرية سواء في عهد الاخوان أو السيسي للخطة، بل توغل السيسي في الرضوخ لكل الإجراءات تأمينًا للدعم السياسي الأمريكي.
اقرأ/ي أيضا:
أما في الأردن وفي نفس العام، تعاملت الدولة مع الشروط وكأنها الحل الوحيد، خاصة وأن الدول الغربية والسفراء الغربيين في عمان كانوا واضحين بأن المطلوب توقيع الاتفاقية وتنفيذها بما يتطلب ذلك من تعديل واستحداث في القوانين، وطويت صفحة التحقيقات في خرق عمليات الخصخصة للدستور والسيادة الأردنية عدا عن شبهات الفساد وتقويض عملية التنمية.
أسوق أمثلة الأردن ومصر مضافًا إليها انخراط تونس بعد الثورة في سياسات الصندوق، لتبيان أهمية وقع الرفض على الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية. إذ أن رفض اليونان قد يقدم نموذجًا جديدًا تسعى هذه الدول إلى إفشاله، وينسى المعارضون لهذا الرفض نماذج سابقة ناجحة في طليعتها الهند التي أصرت على تقديم برنامج إنمائي بديل وافق عليه الصندوق.
لا شك أن اليونان مقبلة على مرحلة شاقة جدًا، فكل خياراتها صعبة، لكن الموضوع سياسي بقدر ما هو اقتصادي، إذ أنها تجرأت على تحدي الوصفة التي يصورها الغرب بأن لا بديل لها، ولهذا ثمن. لكن معظم الإعلام سيكون منشغلًا بإثبات عدم جدوى الرفض، غير آبه بما يحذر منه اقتصاديون مرموقون، لأن هذا الإعلام لا يشغل نفسه بتداعيات الخضوع لشروط الصندوق بقدر تركيزه على تبعات رفضها.