عام 2014، باشر حمزة يحيى عمله معلمًا في مدارس الثقافة العسكرية بصفة مدنية، بعد عام على تخرجه في جامعة البلقاء التطبيقية. ورغم قبوله في الثقافة العسكرية، فإنه كان ينتظر تعيينه في وزارة التربية والتعليم بعد أن تقدّم للامتحان التنافسي ونجح.
وفي يوم رمضاني من العام ذاته، وبينما كانت الشمس تغيب عن ساكب، مسقط رأس يحيى، وقعت مشاجرة جماعية أصيب فيها نصف المشاركين الخمسة عشر بينهم، يحيى المتهم بضرب آخر على وجهه بأداة حادة، وفقًا للائحة الاتهام.
ينفي يحيى التهمة الموجهة إليه، قائلًا «وصلت مكان المشاجرة، وكانت منتهية».
في تموز/يوليو 2015، حكمت المحكمة بوضع يحيى بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات، خُفضت إلى الحبس لمدة سنة واحدة والرسوم، بعد إسقاط المشتكي حقه الشخصي، بحسب قرار محكمة التمييز.
عللت المحكمة قرارها بخفض العقوبة بأن يحيى شاب في مقتبل العمر. وترغب في «إتاحة الفرصة أمامه لعيش حياة حرة كريمة، ونهج السلوك السوي، والاندماج في المجتمع».
قبل انقضاء مدة محكوميته بشهرين، قرأ يحيى الجريدة، وتفاجأ بدعوته للتعيين في وزارة التربية والتعليم. بعد خروجه من السجن بأسبوع راجع وزارة التربية، وصدر كتاب تعيين جديد له معلمًا في مديرية تربية جرش. سلمه الموظف هناك قائمة بالأوراق المطلوبة لاستكمال التوظيف من بينها شهادة «عدم محكومية».
راجع يحيى المحكمة لإصدار الشهادة، لكنه فوجئ بالرد: «أنت جاييني مبارح من السجن، وجاي هسّا توخذ عدم محكومية؟»، حسبما يروي يحيى الذي رد قائلًا «ليش وين المشكلة؟ أنا بدّي أتوظف»، ليرد الموظف «بتروح وبترجعلي بالـ 2022». «بهذه السهولة حكالي إياها»، يعلّق يحيى.
لم يستطع يحيى الحصول على الشهادة، فعدّته الوزارة مستنكفًا عن التعيين. حاول هذا الشاب الصاعد نحو 26 عامًا من العمر العمل في مدرسة خاصّة في جرش، إلا أنها اشترطت حصوله على «عدم المحكومية»، حالها حال شركة تصنيع أغذية، فنادق وسوبر ماركت.
«أنا كنت بسجن صغير وطلعت إلى سجن أكبر، ما في فرق أنا هون محبوس، لا أنا قادر أروح ولا أنا قادر آجي»، يشكو يحيى.
يحيى كان واحدًا من عشرة أشخاص وثّق معدّا التحقيق تجاربهم المرّة في محاولة «استئناف» الحياة بعد أن مروا بالمخافر والمحاكم والسجون. وتوصلا إلى أن هناك قوانين وأنظمة تَحرم محكومين من ممارسة حيواتهم المهنية والسياسية والاقتصادية، بعد تنفيذهم أحكامًا قضائية أدانتهم بجنايات وجنح، تُبقي سجلهم الجرمي فعالًا، لمدد تتراوح بين ثلاث وست سنوات بعد قضاء مدد محكوميتهم.
يرصد هذا التحقيق 122 نصًا تشريعيًا في قوانين وأنظمة تشترط في الساعي لشغل وظيفة عامة أو خاصة ألا يكون محكومًا بجناية أو جنحة مخلة بالشرف والأخلاق العامة، ويُستدل على ذلك بإبرازه شهادة عدم محكومية. وينطبق هذا الشرط أيضًا على المنتسب إلى جمعيات ونقابات وأحزاب، والمترشح للانتخابات العامة، والبعثات الدراسية، وغيرها.
كما يشترط 60 نصًا غيرها إبراز شهادة عدم محكومية من أجل تأسيس دور الحضانة، ومكاتب الحج والعقارات، والمراكز الثقافية، ومكاتب استقدام العمالة، والمساحة، وخدمات الطلبة، وأندية المسنين، إضافة للمؤسس للمنشآت السياحية والفندقية، والمطاعم، والاستراحات وغيرها.
بحسب تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان لعام 2016، تلقى أكثر من 66 ألف شخص أحكامًا بقضايا جزائية بين مطلع 2013 وأواخر 2016. وتقف هذه «الترسانة» من التشريعات عائقًا أمام إعادة اندماجهم في المجتمع، خاصة أن المشرع لم يضع تعريفًا محدداً للجرائم المخلة بالشرف والأخلاق العامة تاركًا ذلك لرقابة القضاء وتقديره. كما أن ضعف هذا العدد مهدّدون بمواجهة المصير نفسه. إذ يقدّر عدد المشتكى عليهم في قضايا جزائية 134 ألف شخص لعام 2016 وحده، بحسب تقرير المجلس القضائي الأردني.
ويظهر التحقيق، أن هذه التشريعات فتحت بابًا للحكومات المتعاقبة لتفسيرها بمزاجية لإقصاء خصومها السياسيين، والتضييق عليهم.
رئيس ديوان التشريع والرأي في رئاسة الوزراء نوفان العجارمة يدافع عن تلك النصوص، إذ يجد فيها عقوبات تبعية غير أصلية للحؤول دون ارتكاب جرم آخر في المستقبل، «بتقديري أنها تتماشى مع العهدين الدوليين لحقوق الإنسان»، حسبما يشرح العجارمة.
النائب عبد المنعم العودات -رئيس اللجنة القانونية في المجلس سابقًا- يعلّل وجود تلك النصوص بأنها مواصفات لمن يريد أن يكون ممثلاً للمجتمع، أو يريد تولي الوظيفة العامة، مؤكدًا أن «هذا حق للمجتمع».
على أن الناشطة الحقوقية المحامية هالة عاهد، تخالف رأي العجارمة «أراها شكل من أشكال العقوبات القاسية، وبنفس الوقت تكرار العقوبة بحق مرتكب أي فعل، وتنتهك حقوقه الإنسانية والأساسية بشكل أساسي».
وتشرح عاهد بأن فلسفة العقوبة تكمن في إنصاف الضحايا، بحيث لا تمتد هذه العقوبة لتشمل كل مناحي حياة الجاني، وتمنعه من العمل وممارسة حياته بشكل طبيعي، وتذهب إلى القول: «هذه العقوبة شكل من أشكال الإعدام المعنوي للشخص».
وترى الناطق الرسمي باسم الحكومة جمانة غنيمات في ردها المكتوب، أن هذه الإجراءات تهدف للمحافظة على الطابع العام للعمل السياسي والمدني والوظيفة العامة القائم على النزاهة والاستقامة، والقدر الكبير من الثقة والقبول من الرأي العام للعاملين في هذه الحقول. وتشدد على أن الغاية من الجزاءات ضد المحكوم عليهم تحقيق الردع المطلوب.
وتؤكد غنيمات «أن هذه النصوص القانونية لا تحول دون توبة المحكوم عليهم ورجوعهم إلى جادة الصوب».
وتضيف: «أن السلوك الجيد عنوان لممارسة العمل الحزبي والنقابي والسياسي، وفتح المجال على عواهنه سيؤدي لدخول أناس غير مرغوب بهم إلى الحياة العامة أو ممارسة أعمال على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة».
122 نصًا تشترط عدم المحكومية بجناية أو جنحة مخلة بالشرف والأخلاق العامة لشغل وظيفة عامة أو خاصة
اضغط على الموضوع في القائمة أدناه لعرض القوانين والأنظمة المتعلقة به، وعلى اسم القانون أو النظام لعرض نص المادة.
عقوبات مزدوجة
في نيسان/أبريل 2013، نُظّم اعتصام أمام رئاسة الوزراء للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، امتدادًا لاحتجاجات شعبية انطلقت أواخر 2010. ظهر آنذاك الشاب علاء الصبيحات (الملكاوي) محمولًا على أكتاف المحتجين هاتفًا: «وين الأمن والأمان يللي بتجيب الزعران»، وفي خلفية المشهد لافتة عليها «دماء الأردنيين خط أحمر».
ألقي القبض على علاء الذي كان موظفًا في وزارة التنمية الاجتماعية، وهو في طريقه للمشاركة في اعتصام في منطقة الزرقاء، يستذكر علاء طريقة اعتقاله يقول «ما بين المُجَمّعين بطريقة كمين». لم يكن هذا الاعتقال الأول لعلاء بسبب نشاطه في الحراك الشعبي. في المرات السابقة سرعان ما كان يطلق سراحه.
فبعد 18 يومًا من توقيفه في سجن الهاشمية، من مدعي عام الزرقاء بتهمة إطالة اللسان على الملك والملكة، أحيل علاء إلى محكمة أمن الدولة.
أسندت النيابة العامة العسكرية لعلاء -وهو أب لخمسة أطفال- تهمة التحريض على مناهضة نظام الحكم السياسي في المملكة، والتي تصل عقوبتها في حال ثبوتها إلى الأشغال الشاقّة المؤقتة بين 3-15 سنة، بحسب قانون العقوبات.
وجاء في لائحة الاتهام: «تولّد لدى علاء في ضوء الاحتجاجات في دول عربية، الرغبة بالتحريض على مناهضة النظام السياسي بالمملكة لدى الشارع الأردني». وذكرت أن علاء أعلن عن نفسه عضوًا في تلك الحركات لتحقيق مبتغاه، وأصبح يدعو إلى المسيرات وينظّمها. كما أوردت اللائحة هتافات ردّدها علاء تمسّ الملك وتطالب برحيل النظام.
يستغرب علاء توجيه هكذا تهم إليه كمواطن أعزل لا يملك سلطة أو قرار سياسي، وغير تابع لأي جهة حزبية أو نقابية تساعده لتحقيق مبتغاه.
دانت المحكمة علاء بجرم إطالة اللسان، وقررت حبسه ستة أشهر مع الرسوم، بعد تعديل وصف التهمة، بحسب قرار المحكمة.
وبعد خروجه من السجن، قرّرت وزيرة التنمية الاجتماعية آنذاك خولة العرموطي عزل علاء من الوظيفة بسبب تجريمه. استندت العرموطي في قرارها إلى أن الموظف يعزل إذا حكم عليه بالحبس من محكمة لمدة تزيد على ستة أشهر لارتكابه أي جريمة أو جنحة، بحسب نظام الخدمة المدنية.
طَعنَ علاء في الحكم لدى المحكمة الإدارية ثم المحكمة الإدارية العليا، إلا أنهما ردّتا الدعوى شكلًا بسبب فوات مهلة الطعن القانونية، بحسب قرار المحكمة.
اليوم، يواجه علاء العاطل عن العمل سلسلة قضايا متشابكة. «أنا بطلع من القضية ما بلحق أتنفس إلا نازل بقضية أخرى (..) ترتب عليّ كثير التزامات عجز في أجور البيت، عجز في سداد البنك، عجز في التزامات كثيرة»، حسبما يقول وهو رب لأسرة من سبعة أفراد. «بدي مصروف المدرسة مع أجور مواصلاتهم للمدرسة لأنها بعيدة في منطقة صحراوية 200 دينار شهريا».
المحامي والباحث القانوني هشام نصّار يشخّص في كتابه «الجرائم المخلّة بالشرف وأثرها على الوظيفة العامة» هذه الحالة بالقول إن «العزل من الوظيفة عقوبة جماعية تطال الأسرة كلّها»، وبالتالي قد تشكّل خطرًا أكبر نظرًا لبساطة الجريمة التي يرتكبها الموظف أحيانًا مقابل هذا الأثر، الأسوأ أن العزل وإقفال الرزق «عقوبة أبدية».
يرى رئيس ديوان التشريع والرأي في رئاسة الوزراء أن إطالة اللسان لا تعدّ من الجرائم المخلّة و«لا تستوجب العزل». على أن العجارمة يقر بصدور قرارات رسمية مغلوطة. «في دولة المؤسسات السلطة تراقب السلطة (…) والفيصل هو القضاء». ويتماهى هذا الموقف مع قرارات سابقة لمحكمتي التمييز والإدارية العليا.
لكن المجلس القضائي اتخذ قرارًا في منتصف مارس/ آذار 2018 بتصنيف إطالة اللسان على الملك من الجرائم المخلّة بالشرف والأخلاق العامة، خلافًا لاجتهادات المحاكم السابقة.
النائب السابق المحامي محمود الخرابشة يرفض قرارات العزل والحرمان من العمل، ويرى أن من يقضي العقوبة التي فرضها القضاء عليه، يجب أن لا يعاقب مرة ثانية؛ سواء بموجب قانون أو بموجب نظام، «لأنه قد نال العقوبة بما يتناسب مع جسامة الفعل الذي ارتكبه».
تتشابه قصّة علاء مع ما حصل لياسر السبايلة، المعلم في مديرية تربية وتعليم محافظة الطفيلة. في عام 2010، بدأ حراك المعلمين جنوب الأردن للمطالبة بتأسيس نقابة لهم. كان السبايلة وزميله سائد العوران ناشطين في ذلك الحراك، ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية والشبابية في الأردن عام 2011، انخرط السبايلة فيها للمطالبة بإصلاحات سياسية، «حكومة منتخبة، وتعديل قانون الانتخاب».
وما إن دخل عام 2012 حتى وجد السبايلة نفسه في السجن، بتهمة إطالة اللسان على الملك، والتجمهر غير المشروع. حكمت أمن الدولة عليه بالحبس ثلاثة أشهر، أمضى منها 48 يومًا في سجني الجويدة (جنوب عمّان) والهاشمية (الزرقاء)، واستبدل باقي المدة بغرامات مالية.
حتى اليوم، ينفي السبايلة التهم المسندة إليه، ويقول: «لم تكن إطالة اللسان على الملك، وإنما مطالبته ببعض التعديلات الدستورية التي ترسخ العدالة والمساواة لأفراد المجتمع».
بعد أشهر على عقوبة السبايلة، أوقعت وزارة التربية والتعليم عقوبة جديدة عليه؛ إذ حُسم أسبوع من راتبه الأساسي على مدار سنة كاملة، بسبب صدور حكم بحقه. استندت الوزارة في قرارها إلى نظام الخدمة المدنية.
يرى السبايلة في العقوبة الثانية محاربة في الرزق لكامل العائلة: «وهي نقطة مفصلية لإيقاف الحرية العامة والمطالبة السياسية».
كان لقرار الحسم تداعيات على حياة السبايلة الاقتصادية والاجتماعية. «تأخرت في دفع استحقاقات المدرسة لأبنائي (..) كان ابني في مدرسة خاصّة نقلته لمدرسة حكومية»، يقول السبايلة. وفوق ذلك، ألغت العائلة جميع الكماليات والمواصلات، والحياة الاجتماعية مع أفراد الأسرة. «بدك تلغي كل الأشياء حتى يتناسب راتبك مع الوضع الجديد».
المعلم سائد العوران لم يكن رفيق السبايلة في حراك المعلمين فقط، بل كان رفيقه في السجن أيضًا. إذ حكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر بتهم التجمهر غير المشروع، وإثارة النعرات العنصرية، وإطالة اللسان.
ومع نهاية الشهر تفاجأ العوران بعدم نزول راتبه في البنك. وبعد الاستفسار من موظف في مديرية التربية والتعليم بمحافظة الطفيلة، أبلغه أنه لم يعد موظفًا: «أنت معزول من الوظيفة بناءً على قرار صادر بحقك».
ما أن انتشر خبر عزل العوران من عمله، حتى اجتمع معلمون في نادي معلمي الطفيلة، وطرح الاجتماع خيارات منها مقاطعة امتحان الثانوية العامة الذي كان على الأبواب. ذلك الموقف دفع وزارة التربية والتعليم في نهاية المطاف إلى إلغاء قرار العزل، بحسب كتاب رسمي حصلنا على نسخة منه.
المعلم سامر المزيد مرَّ بتجربة مماثلة. فبعد أن شارك في الحراك الشعبي عام 2011، تلقى المزيد حكمًا بالحبس ثلاثة أشهر، استبدلت بغرامة مالية، بعد أن أدانته محكمة أمن الدولة بإطالة اللسان على الملك، وتعرض هو الآخر للعزل بعد الحكم.
طَعن المزيد بقرار عزله أمام المحكمة الإدارية، التي أيدت قرار الوزارة ورأت بفعل المزيد خروجًا عن ما ادعاه من حرية الرأي والتعبير، «ومس الأخلاق العامة المجتمعية والوظيفية».
إلا أن المحكمة الإدارية العليا لم تر إطالة اللسان جنحة مخلة بالشرف والأخلاق العامة، وإنما من جرائم الذم والقدح والتحقير التي لا تستوجب العزل. وعليه قرّرت المحكمة إلغاء قرار العزل.
ورغم ذلك لم يحصل المزيد على شهادة عدم محكومية، ما حال دون سفره إلى السعودية للعمل معلمًا بدخل يعادل خمسة أضعاف راتبه في الأردن. يقول: «حكولي بالحرف الواحد خلّي حبايبك يعطوك حسن سيرة وسلوك»، ينقل المزيد عن رجل أمن.
إقصاء الخصوم
حين كان القيادي في جماعة الإخوان المسليمن علي أبو السكر نائبًا، قُتل زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي في غارة جوية أمريكية منتصف 2006، فقدّم أبو السكر العزاء لعشيرة القتيل. كان أبو السكر رفقة قياديين آخرين في الجماعة النائبين السابقين محمد أبو فارس، وجعفر الحوراني.
خلال الزيارة، ألقى أبو فارس وأبو السكر كلمتين أسبغت على الزرقاوي صفات «الشهيد والمجاهد»، بحسب قرار محكمة أمن الدولة. وهكذا اتهمت النيابة العامة العسكرية القياديين الإسلاميين بـ «النيل من الوحدة الوطنية وإثارة النعرات المذهبية والعنصرية والحض على النزاع بين مختلف عناصر الأمّة». وقررت المحكمة حبس أبو السكر لمدة عام ونصف، وتغريمه مائتي دينار. إلا أن محكمة التمييز خفضّت المدة لتصبح سنة وشهر واحد والغرامة مائة دينار.
بمجرد صدور قرار التمييز، أبلغ رئيس الوزراء آنذاك معروف البخيت مجلس النواب بحيثيات القرار وقال: «أثارت تصريحات النائبين أبو السكر وأبو فارس حفيظة ومشاعر الأردنيين بشكل عام، وأهالي ضحايا تفجيرات عمان (خريف 2005)، وقام كثير منهم بتقديم شكاوى إلى المراكز الأمنية بحق المذكورين»، بحسب محضر جلسة مجلس النواب.
وفي ختام كلمة البخيت، طلب رئيس كتلة الحركة الإسلامية في المجلس آنذاك عزام الهنيدي نقطة نظام، قال خلالها «نعتقد أن قضية النائبين قضية سياسية منذ البداية، عرضت البلد لأزمة حقيقية»، بحسب محضر الجلسة.
وفي منتصف آب/أغسطس 2006، سألت الحكومة المجلس العالي لتفسير الدستور، هل تسقط عضوية النائب حكمًا إذا حكم بالسجن مدة تزيد عن سنة واحدة بجريمة غير سياسية ولم يعف عنه، أم أن سقوط العضوية يحتاج إلى قرار من مجلسه؟
بالإجماع قرر المجلس العالي، سقوط عضوية النائب حكمًا إذا حدثت أي من حالات عدم الأهلية، «ولا يحتاج سقوطها إلى قرار من مجلسه».
في ذيل أيلول/سبتمبر 2006، أصدر الملك عبد الله الثاني عفوًا خاصًا عن أبو السكر و أبو فارس وخرجا من السجن. ورغم ذلك سقطت عضويتهما في مجلس النواب.
بعد نحو عشر سنوات ترشّح أبو السكر لانتخابات مجلس النواب الثامن عشر، في البدء قُبل ترشيحه، إلا أن محكمة الاستئناف قرّرت إلغاء ترشيحه بعد أن نظرت في طعن مقدم لها في صحة ترشيح أبو السكر.
المحكمة استندت في حكمها على قانون الانتخاب لمجلس النواب لسنة 2016 الذي يشترط في المترشح لعضوية مجلس النواب «أن لا يكون محكومًا بالسجن لمدة تزيد عن سنة واحدة بجريمة غير سياسية، ولم يعف عنه». واعتبرت المحكمة أن أبو السكر لم يرد إليه اعتباره.
ويعرّف رد الاعتبار وفق قانون العقوبات الأردني بسقوط الحكم بالإدانة بحق الجاني، ومحو آثاره بالنسبة للمستقبل، بما فيها الحرمان من حقوقه، والآثار الجرمية.
ومن بين 2106 دعوى برد الاعتبار بين عامي 2011 و 2016، وافقت المحاكم على ردّ اعتبار 1136، مقابل رفضها رد الاعتبار لـ 970 شخصًا، بحسب وزارة العدل.
المصدر: وزارة العدل
يرى أبو السكر أنه تعاقب ثلاثة مرات، الأولى بعدم تفسير هذه التهمة على أنها قضية سياسية، والثانية عقوبة السجن، والثالثة الحرمان من الترشح للانتخابات رغم مرور عشر سنوات، ويشدّد على أنه رد إليه اعتباره حكمًا لانه لم يرتكب أي جرم طيلة تلك المدة بحسب القانون. إذ ينص قانون أصول المحاكمات الجزائية على أن «كل محكوم عليه بعقوبة جنحية يعود اعتباره إليه حكمًا، إذا لم يحكم عليه خلال خمس سنوات من تاريخ تنفيذه هذه العقوبة».
يؤكد أبو السكر أنه حصل على شهادة عدم محكومية حسب الأصول قبل الترشح. ويضيف: «كان هناك قرار طعن [في الترشح]، واعتقد أنه تحرك سياسي، وليس قانوني، ولأجل هذا كان قرارًا سياسيًا في ذلك الوقت».
المفارقة، أن علي أبو السكر ترشح بعد أقل من عام للانتخابات البلدية في آب/أغسطس 2017، وفاز برئاسة بلدية الزرقاء بنحو 17 ألف صوتًا.
لدى رئيس مجلس مفوضي الهيئة المستقلة للانتخاب، خالد الكلالدة، سبب لقبول ترشح أبو السكر للانتخابات البلدية وحرمانه من الترشح لمجلس النواب. ويرجع قبول ترشحه إلى نصوص القوانين الناظمة للانتخابات.
يشرح الكلالدة أن في قانون البلديات شرط لقبول طلب الترشيح أن يكون المرشح غير محكوم بجناية أو جنحة مخلة بالشرف والأخلاق العامة، ويقول: «علي أبو السكر حصل على شهادة عدم محكومية صادرة عن الجهات الرسمية حسب الأصول».
ويضيف شرط قبول الترشح في الانتخابات النيابية أن لا يكون محكومًا لمدة تزيد عن سنة بحسب القانون والدستور، وأبو السكر حكم بمدة تزيد عن سنة «لذلك تم رفض طلب ترشيحه بناءً على قرار صادر عن محكمة استئناف عمان».
يقول الكلالدة في رده المكتوب: «القول بأن وجود مثل هذا النص القانوني يساهم في إقصاء الخصوم السياسيين للحكومة من ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية لا يقوم على أساس من القانون والواقع».
يعلق رئيس ديوان التشريع والرأي في رئاسة الوزراء نوفان العجارمة، على قضية أبو السكر، في قانون الانتخاب لمجلس النواب، ينظر في مدة العقوبة ومقدارها لا النوع، يضيف «الأصل في خصوم الدولة السياسيين أن لا يكونوا مرتادين الإجرام».
لكن المحامية والحقوقية نور الإمام تُطالب بوجود تعريف يحدد ماهية الفعل الذي يحرم الشخص من الترشح، «مش معقول نتركها سنة بشكل عام».
يدافع النائب مصطفى ياغي عن وجود نص يمنع المحكوم بمدة أكثر من سنة للترشح للانتخابات البرلمانية قائلًا «أنا بدي اليوم صفوة الصفوة مش مطلوب أجيب واحد عليه شائبة، لذلك كان النص عامًا بخلاف نصوص وردت في قوانين أخرى لها علاقة بالانتخابات».
نصوص فضفاضة
النائب السابق محمود الخرابشة ينتقد غياب تعريف واضح وصريح وجازم للجرائم والجنح المخلة بالشرف والآداب العامة، ويطالب بأن لا تبقى قضية اجتهادية متروكة للأشخاص وصاحب السلطة.
يؤكد الخرابشة أن «ما يكون مخلًا بالشرف والآداب العامة عند فئة قد لا يكون مخل لدى فئة أخرى». ويرى أنها عبارات فضفاضة ومطاطة يجب التعامل معها بحذر حتى نفهم من هو الشخص الذي يخالف القانون ويرتكب جناية أو جنحة مخلة بالشرف والأخلاق العامة.
يقر رئيس ديوان التشريع والرأي نوفان العجارمة بأنه لا يوجد تعريف جامع مانع لعبارة مخلة بالشرف والأخلاق العامة، لكن المشرع ضرب أمثلة كالسرقة والاختلاس وإساءة الائتمان والاحتيال. ويؤكد أنه «صعب جدًا حصرها».
اجتهادات قضائية
لم يسلم تفسير هذه النصوص من اختلاف الاجتهادات القضائية في أروقة المحاكم الأردنية، إذ رأت المحكمة الإدارية «أن المشرع لم يضع تعريفًا محددًا للجرائم المخلة بالشرف والأخلاق العامة قاصدًا بذلك أن يترك ما يعتبره جريمة مخلة بالشرف والأخلاق العامة لرقابة القضاء وتقديره«.
في حين يرى قاضي المحكمة الإدارية نشأت الأخرس في قرار مخالفة للأكثرية في قضية عزل سامر المزيد، «أن التوسع في تفسير عبارة (جناية أو جنحة مخلة بالشرف) يرتب التوسع في فرض العقاب التالي هو العزل، وأن من المبادئ القانونية المسلم بها هو عدم جواز التوسع في تفسير النصوص العقابية، ويضيف أن التوسع في تفسير نصوص عقابية، أمر غير جائز وهذا الأمر مستقر عليه فقهًا وقضاءً.
أما محكمة العدل العليا فقد عرّفت عام 1993 الجريمة المخلة بالشرف والأمانة على أنها تلك الجريمة التي ارتكبت «بسبب ضعف في الخلق وانحراف بالطبع أو تأثير الشهوات، أو النزاوات، أو سوء السيرة»، وتعرض مقترفها إلى الازدراء والاحتقار.
شهادة عدم المحكومية
تهدف شهادة عدم المحكومية إلى إظهار أن حاملها لم يرتكب أي جنح أو جرائم مخلة بالشرف والأخلاق العامة. وأصبحت «متطلبًا أساسيًا لغايات التوظيف في القطاع العام والخاص، أو الحصول على رخصة قيادة، أو تأشيرة سفر، أو الدراسة»، بحسب الموقع الإلكتروني لوزارة العدل.
وبينما بلغ عدد شهادات عدم المحكومية الصادرة منذ 2011 ولغاية تشرين الأول/أكتوبر 2017 مليون و978 ألف شهادة، فيما حرم 6464 شخصًا من الحصول عليها، بسبب سجلهم الجرمي، بحسب وزارة العدل.
المصدر: وزارة العدل.
ورغم أنه يوجد 60 نصًا في أنظمة وتعليمات تشترط صدور شهادة عدم محكومية لممارسة مهن أو تأسيس مشاريع صغيرة، إلا أنه لم يرد في قانون أو نظام ما ينص على كيفية صدور شهادة عدم المحكومية وتنظيمها، الأمر الذي رأت فيه محكمة التمييز «أنها لا تعتبر من الأوراق الرسمية«.
وفي منتصف آذار/ مارس 2018، أصدر المجلس القضائي دليلًا إرشاديًا لمنح شهادة عدم المحكومية من رؤساء المحاكم للاستئناس به.
وأوضح الدليل أنه لا يجوز إعطاء مرتكبي الجنايات على اختلافها شهادة عدم محكومية، إضافة إلى 57 جنحة، تتضمن جنح الاشتراك في تجمهر غير مشروع نجم عنه تخريب أو إلحاق الضرر بأموال الدولة، والانتساب لجمعيات غير مشروعة، وإطالة اللسان على الملك، وتمزيق وتحقير العلم أو الشعار الوطني، ونزع وإتلاف الأوراق والوثائق، وإذاعة وقائع ملفقة لزعزعة الثقة، وإذاعة أنباء كاذبة خارج المملكة، وإثارة النعرات، وإفشاء الأسرار، وغيرها. إذ اعتبرها الدليل جنح مخلة بالشرف والاعتبار تحول دون إعطاء شهادة عدم المحكومية.
يعلق المحامي هشام نصار: «نحن أمام إشكالية خطيرة جدًا، كيف سنعاقب شخص بناء على معيار واجتهاد قضائي، وليس نص تشريعي موجود بالقانون؟».
يرى نصار أن السلطة التشريعية تنفرد بالتشريع بلا منازع، بما في ذلك مقدار العقوبة ونوعها، وطالما أن تكييف الجريمة على أنها مخلة بالشرف يرتب عقوبة فإن هذا من اختصاص السلطة التشريعية.
ويؤكد نصار: «أن السلطة القضائية يجب أن لا يكون لها دور اجتهاد في تكييف القضايا على أنها مخلة أو غير مخلة لأنه سيكون هناك عقوبة لم يضعها المشرع (…) لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص».
يؤكد المدير التنفيذي لجمعية الرعاية اللاحقة للسجناء عبد الله الناصر، أن السجين المفرج عنه لا يستطيع الحصول على شهادة عدم المحكومية، وبالتالي لا يستطيع ممارسة حقه في العمل المكفول بالدستور والقانون، وهذا يدفع السجين للعودة وتكرار الجريمة.
يتساءل الناصر «كيف نطلب من المفرج عنه يكون موجود في بيته ويندمج في المجتمع، وندفعه إلى زوايا معينة للعودة إلى السلوك الجرمي؟».
أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج).