قُضي الأمر، ورُفعت البوابات، ومُسحت بقع الدم، وعاد الجميع إلى مواقعهم سالمين، إلا بضعة شبان في عمّان والقدس.
«راسمالها» كان ٢٨ ساعة، ولقاء بين رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) ورئيس المخابرات الأردنية في عمّان، واتصالًا بين الملك ونتنياهو. نائب مدير أمن السفارة الإسرائيلية في عمّان، القاتل، وصل تل أبيب بعد اتصالات عدة مع مسؤولين إسرائيليين بينهم بنيامين نتنياهو. لعق جروحه «الطفيفة»، بحسب وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتي لم تتطلب حتى دخول المستشفى بما أنه لم يغادر مبنى السفارة طيلة «الأزمة»، وعاد إلى «بيته».
لا ندري إن كانت مسرحيةً أم محاولةً لم تكتمل حين تم تأخير إخلاء القاتل وباقي طاقم السفارة بتدخل مباشر من وزير الداخلية، غالب الزعبي، وما قيل من أنه «منع» لسفر القاتل إلى حين التحقيق معه؛ التحقيق الذي ينفي الإسرائيليون أنه حدث، ويؤكده «مصدر رسمي» أردني. لكن المؤكد الآن بعد أن أصدر الأمن العام نتائج التحقيق الأولية، و«جرى تحويل كافة التحقيقات للمدعي العام المختص الذي باشر التحقيق واستكمال باقي الإجراءات القانونية وإجراء المخاطبات القانونية اللازمة لمتابعة القضية»، هو أن «القضية» أصبحت في تل أبيب، وأن أي نتائج أخرى ستأتي لن تقود إلى محاسبة القاتل.
حصانة دبلوماسية بموجب اتفاقية فيينا، سيقول التبرير الرسمي. وكأن قتلة الشهداء زعيتر والعمرو والكسجي كانوا جميعًا دبلوماسيين. وكأن ذلك هو ما حصّنهم. -من هو الإسرائيلي الذي يستطيع الأردن محاسبته يا ترى؟- لكن حتى لو افترضنا أن هذه هي المسألة، سيكون منطقيًا أن تظل الفجوة التي يخلقها غياب إفادة القاتل في التحقيق مأخوذة بعين الاعتبار، وألا نكون وحّدنا بالرواية الإسرائيلية، أن تتبقى «شكوك» تجاهها، وألّا نلوم الضحية ونبرر الجريمة. أليس كذلك؟
«أشار مسؤول إسرائيلي كبير إلى أن الأردنيين الذين التقى بهم آرغامان [رئيس الشاباك] لم يشكّوا في أن الحارس قد هُوجم، ولا في أن إطلاق النار كان مبررًا، لكنهم أوضحوا أن على الأردن أن تجد حلًا حتى تحفظ ماء وجهها أمام الضغط الشعبي»، تقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
لا تجد الحكومة في ذلك سببًا لمؤتمر صحفي أو حتى توضيح رسمي، ولا يصدر في ذلك إلا بيانان للأمن العام، وكأنهم ضحية حريق أو حادث سير
كان مبررًا أن يضع الحارس طلقتين في صدر الشهيد الفتى محمد الجواودة، فيرديه. كان مبررًا أن يُقتل، بالمعية، الشهيد بشار الحمارنة، أو بالأحرى أن «يُجرح» الأخير، ثم «يموت بعدها متأثرًا بجروحه»، كما قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية. هكذا، بأفعال مبنية للمجهول، يُقتل الأردنيون، ويعود قَتَلتهم إلى «بيوتهم» محصّنين. يُقتلون برصاص إسرائيلي على أرض أردنية، ولا تجد الحكومة في ذلك سببًا لمؤتمر صحفي أو حتى توضيح رسمي، ولا يصدر في ذلك إلا بيانان للأمن العام، وكأنهم ضحية حريق أو حادث سير، ودون أن يكون ذلك سببًا لقطع زيارة الملك الخاصة، التي بدأت نهاية حزيران ولم تنتهِ بعد، فيما نعلم.
لا يهم كل ذلك الآن. المهم هو الأردن حقق انتصارًا دبلوماسيًا -محصّنًا من النقد أيضًا؟- استثمر فيه دماء شهيديه اللذين لم يدفنا بعد، من أجل رفع البوابات الإلكترونية التي نُصبت الأسبوع الماضي على مداخل الحرم القدسي الشريف. لا يهم أيضًا أن هذه البوابات كانت في طريقها للرفع أصلًا، وأن الحكومة الإسرائيلية كانت بوضوح تدرس خياراتها الأخرى لإزالة البوابات، وأن تركيب كاميرات المراقبة -التي يرفضها المقدسيون كذلك- جاء في هذا الإطار. لا يهم أن أي إنجاز سيتحقق في القدس دفع ثمنه المقدسيون دمًا وعرقًا، وأن الشهداء الثلاثة الجبّارين، وشهداء الأسبوع الماضي الأربعة، شرف وأبو غنّام ولافي وكاشور، دفعوا حياتهم لإحقاق هذه «السيادة» المقدسية. المهم أن الملك هاتَفَ نتنياهو وفرض شروطه على إسرائيل. أليس كذلك؟
«بحسب مسؤول أردني، فقد قدمت إسرائيل، كجزء من المحادثات بين عمّان والقدس، وعودًا بخصوص كاشفات المعادن في جبل الهيكل. لكن مكتب رئيس الوزراء نفى أن يكون هنالك مطلب أردني بربط عودة الحارس إلى إسرائيل بإزالة كاشفات المعادن في جبل الهيكل»، تقول صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.
يحادث نتنياهو مواطنه العائد إلى «وطنه» هاتفيًا فيبدأ كلامه بالسؤال «هل حددت موعدًا للقاء صديقتك؟». «ليس بعد، ولكنني سأتصل بها»، يرد الحارس القاتل، ثم يعبر عن سعادته البالغة وامتنانه لجهود رئيس الوزراء في إعادته، وعن شعوره بأن «الدولة كلها وقفت إلى جانبنا». ليس مستغربًا بالطبع أن يحادث قاتل مثل نتنياهو قاتلًا آخر مثل الحارس بهذه الأريحية بعد أقل يوم ونصف على جريمته. لا نحتاج إلى أدلة جديدة لتؤكد لنا أن هذا العدو لا يرى فينا سوى أشباه كائنات يجب إزاحتها عن الطريق. لكن الأدلة الجديدة اليوم هي تلك التي تؤكد أن حكّام هذا البلد يروننا كذلك أيضًا.
سيباشر مدعي عام الجنايات الكبرى التحقيق في القضية، وسيستمع إلى شهادات أهل الشهيدين، وإلى سائق المركبة التي نقل فيها الأثاث الذي ركُب في السكن الذي تستأجره السفارة، في الغرفة التي حدثت فيها الجريمة. لكن من الذي سيعاقب في نهاية هذه المحاكمة إن كان القاتل صار وراء النهر ويرتب مواعيدَ غرامية؟ لن يكون مفاجئًا بعد كل ما حدث أن يكون التحقيق مع سائق «بكب ديانا لون أبيض» هو مبلغ «السيادة الأردنية».