رأي

«النهج» اقتصاديًا: احتجاجات الأردن وسياسة الاقتراض

الخميس 07 حزيران 2018
تصوير علي السعدي

كان الوضع في الأردن في غاية الغرابة، إذ ظلت الدولة لسنوات ممعنة في رفع الأسعار وزيادة الضرائب دون اكتراث، مستندة إلى ما بدا لها أنه انعدام لقدرة الشعب على القيام بأي رد فعل، على أساس أن ما جرى في سوريا لن يسمح بأن يكرر الشعب الثورة. لكن في الواقع كان هذا المسار يفرض نشوء ردات الفعل والتمرُّد الشعبي، لأن الشره في نهب المواطن وصل الى حدٍّ لا يُطاق. ومَنْ يعرف صبر الشعب يعرف أن هذا الصمت مؤقت، وأن الاندفاع للدفاع عن الحياة سوف يحدث.

هذا ما جرى خلال الأسابيع الماضية، حيث ظهر مدى الاحتقان الذي يطال الغالبية العظمى من الشعب، والذي كان ينتظر حدثًا كي ينفجر. هذا ما وفره مشروع قانون ضريبة الدخل، الذي يدمّر ما بقي من الطبقة الوسطى، وتمتد آثاره إلى كل الشعب، والذي أُتبع بقرار رفع سعر البنزين للمرة الخامسة هذه السنة، وكذلك رفع أسعار الكهرباء.

الحكومة كانت تعتبر أنها تنفّذ سياسة إصلاحية فرضت تحرير الأسعار وإلغاء الدعم وزيادة الضرائب، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وأن قانون الضريبة هو الخطوة الأخيرة في هذه السياسة، لذا، لا بدّ من تنفيذه. وقد استدانت وهي تنفّذ هذه السياسة مليارات الدولارات، وراكمت على ميزانية الدولة مبالغ مهولة كسداد لأقساط وفوائد الديون. ورغم أنها باعت الكثير من مؤسساتها الوطنية، فقد وصلت المديونية حدًا يهدد بإفلاس البلد.

هذا هو تبرير الحكومة الذي يسمح لها بالدفاع عن سياستها الاقتصادية. لكنها سياسة رمت غالبية الشعب في الفقر والبطالة، وحتى الجوع. فهل هذه السياسة مبررة؟

المبرر الأساسي الذي يتكرر هو «عجز الموازنة» نتيجة الأعباء الكبيرة الملقاة على الدولة، مما يفرض الميل الى الاستدانة. لكن كان يظهر دائمًا أن عجز الموازنة يتزايد من جهة، والمديونية تكبر من جهة ثانية، والشعب ينحدر الى أسوأ وضع من جهة ثالثة. لهذا نجد أن عمّان هي أغلى مدينة عربية للسنة الثانية على التوالي، وهي الرقم 29 عالميًا، مقابل أن الأردن هو في مكان منخفض عالميًا في مستوى الأجور. هذا الاختلال بنيوي، وهو نتاج تكوين اقتصادي وُضع لمصلحة فئات رأسمالية، الأمر الذي يوضّح أن الشكل الذي تعلنه الدولة لطبيعة المشكلة، المتعلق بعجز الميزانية، والذي يبرر اتباع سياسة صندوق النقد الدولي، ما هو سوى غطاء تبريري، بينما يتعلق الأمر بتكوين الاقتصاد ذاته، الذي تشكّل لخدمة مصالح رأسمالية محلية وعالمية. بالتالي فإن كل سعي لحل الأزمة يجب أن يتجاوز الإطار الشكلي الذي تعلنه الحكومة، والغوص عميقًا في تكوين الاقتصاد لتغيير طابعه بما يخدم مصلحة المجتمع.

الكتلة المالية التي سُدِّدت كأقساط وفوائد أُخذت من الشعب، رغم أن أحدًا لا يستطيع فرض أين يجري توظيف القروض التي باتت تُسجّل كديون على الدولة، ويسددها الشعب.

 

فمثلًا يجري ترويج أن اللجوء الى صندوق النقد الدولي، وإلى الاقتراض عمومًا، هو بسبب الحاجة التي يفرضها عجز الموازنة. هنا لا بد من تناول سبب عجز الموازنة من طرف، وطبيعة القروض من طرف ثانٍ، وسنجد أن الرابط بينهما يتحدد في مصلحة الطُغَم المالية العالمية من جهة، والرأسمال المحلي من جهة أخرى، وهو أبعد من أن يكون حاجة «تقنية» تخص عجز الموازنة. وهذا يظهر واضحًا من أن عجز الموازنة يتصاعد، وأن المديونية تتضخم، فلا تكون القروض حلًا لعجز الموازنة، بل شيئًا آخر يظهر واضحًا في نزوح الرأسمال الى الخارج، وتجريف المجتمع من ثروته، حيث أن الكتلة المالية التي سُدِّدت كأقساط وفوائد أُخذت من الشعب، رغم أن أحدًا لا يستطيع فرض أين يجرى توظيف القروض التي باتت تُسجّل كديون على الدولة، ويسددها الشعب. وبهذا يذهب الجزء الأكبر مما تجبيه الدولة الى الطغم المالية الدولية، والى الطغم المحلية، التي بدورها تصدِّره الى البنوك العالمية. بمعنى أن هذه الديون لا تذهب الى قطاعات اقتصادية تُنتج فائض قيمة لكي يكون ممكنًا سدادها «من ذاتها»، ولكنها تبدو كـ«رشوة» لفئة مجتمعية لكي تقبل شروط صندوق النقد الدولي التي تحكم السيطرة على الاقتصاد المحلي، وتضمن تسديد «أرباح» (أي أقساط وفوائد) الديون المتراكمة.

فصندوق النقد الدولي ليس هيئة محايدة، أو هيئة «إنسانية»، هو شايلوك العصر الحديث الذي يقتطع «لحم» الشعوب. فهو يعبّر عن أصحاب الرأسمال الموظف فيه، والمسيطر عليه من قبل الرأسمال الأميركي، بالتالي فهو يمثّل الطغم المالية التي تنشط في المضاربات والمديونية، والتي لها مصالحها حين تُقرض، حيث أنها تسعى الى الربح، والربح الأعلى. هنا نحن لسنا إزاء «مساعدة»، أو قرض ميسَّر من طرف يريد المساعدة، بل نحن إزاء توظيف مالي بفائدة مرتفعة. وصندوق النقد يضع شروط تحقيق الربح، وهو يصرّ على تحقيق الربح الأعلى، أي أعلى مما يتحقق في الاقتصاد الحقيقي. لهذا تأتي شروطه من أجل توجيه الاقتصاد بما يخدم الطغم المالية، ويضمن سداد أقساط وفوائد الديون. لقد نهب الصندوق «القطاع العام» عبر ذلك، وبات يحتاج إلى موارد نهب أخرى، مما جعله يركز على الضرائب كجباية مضمونة تسمح بتسديد أقساط وفوائد القروض.

في المقابل، لا بد من ملاحظة أن القروض من طرف، والتراكم المالي الذي تحققه الدولة من طرف ثانٍ، يؤولان إلى فئة قليلة، سواء من خلال «الفساد» المباشر، أو من خلال الأجور المرتفعة للفئة الأولى في الدولة. فمن هذا «النبع»، تُراكم قلّة قليلة رأس المال بتغطية من صندوق النقد الدولي مقابل موافقتها على شروطه وتبرير سياساته التي تخدم الطغم المالية الدولية.

هذه البنية هي التي يجب أن تنتهي. لا شك أن اقتصاد الأردن ضعيف، وكان يعتمد على المساعدات الخارجية، الممتدة منذ تأسيس المملكة حين كانت تأتي من بريطانيا، ثم منذ نهاية السبعينات من دول الخليج والولايات المتحدة وغيرها. لكن كانت هذه البنية تمتص كل ما يدخل الأردن، وتمنع تطوير الاقتصاد بالحدود الممكنة في بلد ضعيف الموارد. وهي البنية التي أدت الى «هبة نيسان» سنة 1989، والاحتجاجات في نهاية تسعينيات القرن العشرين، وحراك 2011 مع بدء الثورات العربية، و«هبة تشرين» سنة 2012. لهذا، لا يتعلق الأمر بـ«الحكومة» التي تعتبر أنها مجبرة على اتباع شروط صندوق النقد الدولي للحصول على القروض، بل يتعلق بنمط اقتصادي يجب أن ينتهي، وفئة من المتمولين تتحكم به، ولا شك في أن الاقتراض جزء من هذا النمط، ومن مصلحة هؤلاء. هذا يعني أن المسألة تتعلق بمصلحة فئات في نشوء واستمرار هذا النمط، وأن كل الحكومات تأتي لضمان ذلك، وتنفيذ السياسات التي تخدمه.

هذا ما فهمه المحتجون، ويصرّون عليه، مما جعل المطلب الجوهري، هو ليس قانون الضريبة أو الأسعار فقط، بل أن «تغيير النهج والسياسة الاقتصادية» هو ما بات يوحِّد كل هذه الجموع. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني تغيير الطابع الريعي للاقتصاد، الذي يتمثل في تركز النشاط الاقتصادي في العقارات والخدمات وأسواق الأسهم والاستيراد. دعم القطاعات المنتجة هو الذي يسهم في معالجة البطالة، وتدني الأجور، وارتفاع الأسعار. ولن يتحقق ذلك قبل تحقيق عدد من الخطوات، أولها القطع مع صندوق النقد الدولي وسياسة الاقتراض، لأنها توظيف مالي باهظ الكلفة، حيث يمتصّ الفائض المحلي، ووصل إلى امتصاص كل ما يملك الشعب. وبالتالي، اتخاذ قرار جريء بإلغاء الدَيْن، (أو على الأقل تجميده لفترة طويلة). بالطبع، هذا سوف يزيد من الضغوط على الدولة، لكن ليس من خيار آخر، خصوصًا أن الضغوط تبقى قائمة في كل الأحوال من أجل قبول شروط صندوق النقد الدولي.

لا بد من ملاحظة أن القروض من طرف، والتراكم المالي الذي تحققه الدولة من طرف ثانٍ، يؤولان إلى فئة قليلة، سواء من خلال «الفساد» المباشر، أو من خلال الأجور المرتفعة للفئة الأولى في الدولة

ثانيها، مصادرة أموال كبار الرأسماليين الذين ينشطون في قطاعات غير منتجة أو مساعدة في الإنتاج، أي تلك التي تنشط في القطاع المالي/العقاري، وفي الاستيراد. ولا شك في أن محاربة الفساد تستدعي العمل على استرجاع الأموال المنهوبة. ثالثها، خفض كبير في رواتب كبار الموظفين، وإلغاء رواتب التقاعد لمن عمل في مجال سياسي (وزراء، أعضاء برلمان، وغيره)، وهي الرواتب التي تكلف الميزانية عبئًا كبيرًا. رابعها، فرض ضريبة تصاعدية على رأس المال، وإلغاء الضريبة على السلع الأساسية، وخفض أسعار المحروقات والكهرباء، وفرض الدعم على الخبز وخفض أسعار الخدمات العامة (وهذا ما يطرحه الحراك). خامسها، تحديد أجور تسمح بعيش كريم لكل العاملين بأجر من الطبقات الشعبية، وتحديد راتب مؤقت للعاطلين عن العمل لحين توفير عمل لهم. وسادسها، إعادة هيكلة الضمان الاجتماعي، والتعليم المجاني، وتحسين وضعية الضمان الصحي. وأخيرًا، وضع خطة اقتصادية لإعادة بناء الاقتصاد على أسس جديدة، تركز على الإنتاج وليس على الريع وغسيل الأموال، والمضاربة في أسواق المال، والعقارات.

هذا ما يجب أن يتحقق لتغيير النهج وبناء سياسة اقتصادية تحلّ مشكلات الشعب، الفقر والبطالة والتهميش، وانهيار الصحة والتعليم. لا شك في أن للدولة دور أساسي في تحقيق ذلك، لكن أي دولة؟ هذا ما يجب أن يفتح على نقاش واسع حول البديل، والمساحة الديمقراطية المتاحة لتقديمه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية