عاد في السنوات الأخيرة -إثر حراك قادته المناضلة الراحلة نعمة الحباشنة- الحديث حول قانون الجنسية الأردنية والجدل المتراوح بين المطالبات بضرورة الاعتراف بحق الأردنية بمنح جنسيتها لأبنائها وبين الرافضين -بشدة- لهذا التعديل. فقانون الجنسية الأردني رقم 6 لسنة 1954 يعد الشخص أردنيًا إن ولد لاب أردني (المادة 3/2)، ويعد أبناء الرجل الأردني أردنيون أينما ولدوا (المادة 9)، وله حق منح الجنسية لزوجته العربية بعد ثلاث سنوات من الزواج والأجنبية بعد خمس سنوات (المادة 8)، في حين أن المرأة الأردنية لا تستطيع منح زوجها الجنسية أو أبنائها وبناتها إلا في حال ولدوا على الأرض الأردنية لأب مجهول الجنسية أو لأب عديم الجنسية أو لم تثبت نسبته لابيه قانونًا (المادة 3/4).
إلا أن المطالبات بالتعديل بحد ذاتها ليست جديدة؛ فمنذ تبلور وعي المرأة الأردنية بحقوقها، كان قانون الجنسية أحد القوانين على أجندة الحركة النسوية الأردنية والمطالبات الحقوقية بضرورة تعديله؛ ففي مذكرة رفعتها المحامية الراحلة إملي بشارات رئيسة الاتحاد النسائي في الأردن (الاسم السابق لاتحاد المرأة الأردنية) لمجلس الوزراء بتاريخ 1/1/1976 مطالبةً بإجراء تعديلات على التشريعات التي تميز بأحكامها ضد النساء، كان قانون الجنسية واحدًا من 11 قانونًا استهدفتها المذكرة في حينه، ولم تتوقف المطالبات منذ ذلك التاريخ.
إذن، المطالبة بالتعديل ليست بجديدة، وموقف المعارضين الرافض ليس بجديد كذلك؛ إنما المتغير هو المبررات التي يسوقها المعارضون لتعديلات قانون الجنسية. في السابق، كانت الحجة الوحيدة التي تساق هي أن التعديلات المطلوبة تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وتحديدًا المسائل المتعلقة بالنسب، فالنسب شرعًا وقانونًا للأب («ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله»، سورة الأحزاب، آية 5)، والأبناء بالتالي يتبعون جنسية أبيهم.
تخلى المعارضون عن هذه الحجة أمام الحقيقة القانونية القائلة بأن الجنسية ليست نسبًا وإنما هي علاقة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة ينال بموجبها حقوقًا وحماية من الدولة، وتترتب عليه التزامات وواجبات. لذا تمنح الجنسية في دول العالم أما على أساس الدم تبعًا للأم أو الأب أو الأرض أو الإقامة.
بعد قرار فك الارتباط الاداري والقانوني مع الضفة الغربية سنة 1988، تمسك المعارضون بأسباب مفادها أن منح الجنسية لأبناء الأردنيات يعني فتح الباب على مصراعيه لتجنيس الفلسطينيين، وهو ما يتناقض مع قرار الجامعة العربية الداعي إلى عدم تجنيس اللاجئين الفلسطينيين، بالإضافة لتعارض منح الجنسية مع أحكام اتفاقية الجنسية العربية لسنة 1954 التي نصت المادة السادسة منها على: «لا يقبل تجنس أحد رعايا دول الجامعة العربية بجنسية دولة أخرى من دول الجامعة إلا بموافقة حكومته وتزول عنه جنسيته السابقة بعد اكتسابه جنسية جديدة». ويرى المعارضون أن الاعتراف لأبناء الأردنيات بالحق بالحصول على الجنسية يعني -وبالضرورة- إفراغ الأرض الفلسطينية من أهلها خدمة للمشروع الصهيوني وإهدارًا لحق العودة.
فما وجاهة هذه المبررات؟
«الخوف» على حقوق محفوظة
أولًا، إن قرار جامعة الدول العربية المشار إليه هو القرار رقم 426/د16، بتاريخ 23/9/1952 الذي أوصى: «تنصح اللجنة السياسية الدولة المضيفة للاجئين الفلسطينيين بأن عليهم، كلٌ بحسب مسؤولياته، الموافقة على تنفيذ مشاريع تؤدّي إلى تحسين ظروف سكنهم و(مشاريع توفّر) فرص عمل لهم، وكذلك أية مشاريع قد تحسّن ظروفهم بشكل عام. ويجب تمويل مثل هذه المشاريع التي ستتولى الأونروا مهمة تنفيذها. ويكون الاتفاق مع الأونروا مشروطًا بأن لا يقدم أي من هذه المشاريع إقامة دائمة، وكذلك الإشارة إلى الحق الكامل للاجئين في العودة إلى ديارهم». كما صدر قرار آخر بهذا الشأن وهو ما يعرف ببروتوكول الدار البيضاء الخاص بمعاملة اللاجئين الفلسطينين الصادر عن جامعة الدول العربية والمصادق عليه من قبول الملوك والرؤساء العرب في 11/9/1965، وقد جاء في مادته الأولى: «مع الاحتفاظ بجنسيتهم الفلسطينية، يكون للفلسطينيين الحق في العمل والاستخدام أسوة بالمواطنين».
لقد تجاهل الأردن القرارين ذاتهما طيلة سنوات الوحدة بين الضفتين؛ فقانون الجنسية الأردني هو نفسه من منح الجنسية الأردنية لآلاف الفلسطينيين الذين كانوا يقيموا في أراضي المملكة بضفتيها، إذ نصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة من قانون الجنسية على أنه: «يعد أردني الجنسية كل من كان يحمل الجنسية الفلسطينية من غير اليهود قبل تاريخ 15/5/1948 ويقيم عادة بتاريخ صدور القانون في المملكة الأردنية الهاشمية». وقد أُدخل تعديل على نص المادة بموجب القانون المعدل رقم 7 لسنة 1963، لتشترط إقامة من كان يحمل الجنسية الفلسطينية في المملكة خلال المدة الواقعة ما بين 20/12/1949 ولغاية 16/2/1954.
وأكثر من هذا، فإن الفقرة الرابعة من المادة الثالثة تعد أردنيًا:«من ولد في المملكة الأردنية الهاشمية من أم تحمل الجنسية الأردنية وأب مجهول الجنسية أو لا جنسية له أو لم تثبت نسيته لأبيه قانونًا»؛ وعليه فإن كل فلسطيني ولد بالأردن لأم أردنية هو أردني الجنسية لأن أباه فلسطيني، والفلسطيني وفقًا للقانون الدولي هو عديم الجنسية.
القانون لم يتعامل مع المرأة كمواطِنة كاملة المواطنة، بل كتابع لرجل، وعلاقتها بالجنسية الأردنية تتبع علاقتها به كابنة أو زوجة.
وبالاستناد إلى قرارات جامعة الدول العربية نفسها، فقد اتخذ مؤتمر المشرفين على شؤون الفلسطينين قرارًا سنة 1970 جاء فيه: «إن اكتساب بعض الفلسطينيين لجنسية أخرى لا يعد مبررا لحذف أسماءهم من سجلات اللاجئين». مما يعني أن القرار ذاته سمح بازدواج الجنسية للفلسطينيين على غير ما قضت به أحكام اتفاقية الجنسية الموقعة سنة 1954، التي لم تدخل أصلًا حيز التنفيذ حيث لم يصادق عليها سوى دولتين عربيتين!
هل يتناقض منح الجنسية الأردنية مع حق العودة؟ يجيبنا القانون الدولي بلا، فحق العودة حق أصيل وثابت لا يتقادم ولا يمكن التنازل عنه، وهو ما يضمنه القرار الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1948 رقم 194، وتعترف به اتفاقيات حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير.
وفقًا لأحكام اتفاقية وضع اللاجئين لسنة 1951، فإن التوطين يفقد اللاجئء مركزه القانوني كلاجئ، إلا أن هذا لا ينسحب على اللاجئء الفلسطيني، فتجنسه بأية جنسية أخرى لا تزيل عنه صفة اللجوء؛ إذ أن للاجئ الفلسطيني مركز قانوني مختلف وفقًا للقانون الدولي، بل أنه مستثنى من ولاية اتفاقية سنة 1951 التي نصت على أنه: «لا تنطبق هذه الاتفاقية على الأشخاص الذين يتمتعون حاليًا بحماية أو مساعدة من هيئات أو وكالات تابعة للأمم المتحدة غير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين»، ومن المعروف أن هذا لا ينطبق واقعيا إلا على اللاجئء الفلسطيني.
ونشير في هذا السياق لقرار المحكمة الإدارية المصرية في نقضها لقرار وزير الداخلية المصري برفض منح الجنسية لأبناء المصرية المتزوجة من فلسطيني الذي جاء فيه: «إن اعتبارات القومية العربية واتفاقيات الجنسية الموقعة بين أعضاء جامعة الدول العربية لا تشكل قيدًا على نص القانون الذي يمنح الجنسية المصرية لأبناء الأم المصرية المتزوجة بأجنبي، وإن امتناع وزارة الداخلية عن منح الجنسية لإبناء الأم المصرية لأب فلسطيني لاعتبارات الحفاظ على الكيان الفلسطيني لا يعد حجة لحرمانهم من الجنسية».
فما السبب الحقيقي إذا وراء هذه الممانعة الشرسة للاعتراف بأن للأردنيات كل الحق في تمرير جنسيتهن لأبنائهن ولأزواجهن أسوة بالرجل الأردني؟
أهلية تابعة
علاوة على عدم وجاهة حجة الحفاظ على حق العودة، فإن هذه المبررات لا تقدم ردًا للأردنيات المتزوجات من غير فلسطينيين، لما فيها من تأويل غير سليم لإرادة المشرع، وتحميل للنص ما لا يحتمل. وتعديلات قانون الجنسية فيما يتعلق باحتفاظ الأردنية بجنسيتها عند زواجها بغير أردني وتجنيس غير الأردنية عند زواجها بأردني خير دليل على ذلك. فالقانون عند صدوره سنة 1954 نص على أن زوجة الأردني أردنية وزوجة الأجنبي أجنبية، وعليه كانت الأردنية تخسر جنسيتها الأردنية بمجرد زواجها من غير أردني، وكانت الأجنبية تكتسب الجنسية الأردنية رغمًا عنها. وكانت أحكام المادة الثامنة من القانون تجبر المراة التي اكتسبت الجنسية الأردنية بالزواج على أن تتخلى عن جنسيتها الأردنية خلال سنتين من وفاة زوجها أو فسخ نكاحها. ذات المادة كانت تسمح للأردنية التي فقدت جنسيتها بالزواج من غير أردني أن تعود وتكتسب الجنسية الأردنية خلال سنتين من وفاة زوجها أو فسخ نكاحها.
ظل هذا الحكم سائدًا حتى صدور القانون المعدل رقم 3 لسنة 1961 بتعديل أجراه على المادة الثامنة أبقى فيه حكم أن زوجة الأردني أردنية وزوجة الأجنبي أجنبية، إلا أنه سمح للمرأة التي تتزوج من غير أردني بالاحتفاظ بجنسيتها إلى أن تحصل على جنسية زوجها، منعًا لبقائها فترة عديمة الجنسية. كما أجاز القانون للأجنبية التي تتزوج من أردني الاحتفاظ بجنسيتها إذا أرادت، شريطة أن تعبر عن رغبتها بالاحتفاظ بجنسيتها خطيًا لوزير الداخلية خلال سنة واحدة من تاريخ زواجها. وطبعًا إن انقضت المدة دون هذا الإعلان فهي حكمًا أردنية.
وفي سنة 1963 صدر القانون المعدل رقم 7 الذي سمح فيه فقط للمرأة الأردنية الاحتفاظ بجنسيتها الأردنية إن تجنس زوجها بجنسية أخرى، ومنح الأجنبية مهلة سنتين من تاريخ إقامتها في المملكة للتعبير عن رغبتها بالاحتفاظ بجنسيتها.
وفي آخر تعديل، باتت الأردنية، بموجب القانون المعدل رقم 22 لسنة 1987، لا تخسر جنسيتها تلقائيًا بمجرد الزواج من غير أردني أو كنتيجة حتمية لزواجها كما كان سابقًا، ولم يعد على الأجنبية أن تكتسب الجنسية حكمًا بزواجها من أردني، وإنما لها الحق بالجنسية الأردنية أن أبدت رغبتها باكتسابها بعد ثلاث سنوات من زواجها إن كانت عربية، وخمس سنوات إن كانت اجنبية.
لكن الأردنية التي تتنازل عن الجنسية لتكتسب جنسيتها زوجها ما زالت وفقًا لأحكام القانون النافذ لا تستطيع العودة لاكتساب الجنسية الأردنية إلا بعد انتهاء الزواج بوفاة الزوج أو الطلاق، في حين أن الرجل الأردني الذي يتنازل عن جنسيته الأردنية لاكتساب جنسية أخرى أن يعود متى شاء لاكتساب الجنسية الأردنية.
إذن، فالقانون منذ صدوره وحتى الآن لم يتعامل مع المرأة كمواطِنة كاملة المواطنة، بل كتابع لرجل، وعلاقتها بالجنسية الأردنية وأهليتها بالحصول عليها (وبالتالي أهليتها لاكتساب الحقوق) تتبع علاقتها به كابنة أو زوجة، وهو ما لا يقتصر على قانون الجنسية وحده، وإنما لا زالت العديد من التشريعات الأردنية تميز ضد النساء ولكل حجته؛ مرة باسم الدين وإعمال خاطئ لمفهومي الولاية والقوامة، ومرة باسم العادات والتقاليد وتارة بحجة الحماية والسترة.
والنظرة الذكورية في الآراء المعارضة التي قدمنا لها أعلاه يصعب إخفاؤها، ففي الحديث عن التوطين وتفريغ الأرض، لا يتم الالتفات لآلاف الفلسطينيات المتزوجات من أردنيين ويصبحن بموجب القانون أردنيات بعد ثلاث سنوات، ولا يعد الزواج بهن توطينًا أو تفريغًا للأرض، وكأن الأرض لذكورها فقط!
علينا أن نتذكر بأن المادة السادسة من الدستور الأردني تنص على أن الأردنيين متساوون أمام القانون وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين، وأن هذا التمييز ضد النساء في قانون الجنسية وغيره من التشريعات يخالف أحكام الدستور نفسه ويخالف أبسط قواعد العدالة والمساواة والكرامة الانسانية والتزامات الأردن بموجب الاتفاقيات الدولية.