البدو والنساء والمسيحيون في قوانين الانتخاب: من التمييز إلى تسييس الهويات المولودة

الملك الحسين بن طلال في مبنى البرلمان القديم، موقع وزارة الثقافة.

البدو والنساء والمسيحيون في قوانين الانتخاب: من التمييز إلى تسييس الهويات المولودة

الخميس 02 حزيران 2016

في الذكرى السبعين للاستقلال، خاطب الملك عبد الله الثاني الأردنيين قائلًا إن الأردن بُني على مبادئ «المساواة والعدالة والمواطنة وسيادة القانون». قد تتكرر كلمة «المواطنة» في العديد من الاحتفالات الوطنية، لكن هل هي متحققة في أبسط تعريفاتها كعلاقة حقوقية بين الأفراد والدولة من جهة وبين الأفراد فيما بينهم من جهة أخرى؟ وهل تتعامل الدولة مع «المواطنين» بصفتهم مواطنين أم بصفتهم أعضاء في جماعات؟ وهل ثمة مساواة سياسية حقيقية بينهم أم أن العملية السياسية تمأسست على اللامساواة لعقود طويلة بعد أن قامت بتصنيف «المواطنين» والتمييز بينهم؟ وهل ساهمت الدولة من خلال قوانينها بصناعة هويات أدت إلى تشويه العملية السياسية ونشوء عصبيات والإخلال بمبادئ العدالة والمساواة؟

سيحاول هذا المقال الإجابة على بعض هذه الأسئلة من خلال قراءة وتحليل القوانين الانتخابية منذ تأسيس الإمارة حتى يومنا هذا ووضعها في سياقها التاريخي وتوضيح أثر هذه القوانين على مجمل العملية السياسية في البلاد، وبالتحديد من خلال دراسة الكيفية التي تعاملت بها الدولة مع ثلاث «مجموعات» هي البدو والنساء والمسيحيون في الأردن عبر هذه القوانين.

وبعد إقرار قانون الانتخاب الجديد الذي نعتقد أنه قد يشكل خطوة إيجابية للنهوض بالعملية السياسية إن كانت هناك نية حقيقية في البناء عليه، نود كذلك أن نشير من خلال هذا المقال إلى مجموعة من الإشكاليات التاريخية التي ورثها القانون الحالي عن سابقيه، والتي استمرت دون إعادة النظر فيها.

البدو في القوانين الانتخابية

لم يُسمح للبدو الذكور بانتخاب ممثليهم في المجالس التشريعية الخمسة التي تشكلت في عهد الإمارة أسوة بباقي الشرق-أردنيين الذكور. إذ تشير المادة 7 من قانون الانتخاب لعام 1928 إلى أن كل رجل أردني غير بدوي أتم 18 سنة يحق له التصويت، حيث عُرّف البدوي في القانون نفسه بأنه كل شخص ينتمي إلى إحدى العشائر البدوية المدرجة في القانون، وقسّمت هذه العشائر جغرافيًا في حينه إلى بدو الشمال وبدو الجنوب. وكان يتم تمثيل البدو في المجالس التشريعية عن طريق ممثلين اثنين، حيث يعين الأمير لجنتين، واحدة لبدو الشمال والأخرى لبدو الجنوب، وتتكون كل لجنة من عشرة من شيوخ العشائر البدوية ثم تختار كل لجنة ممثلًا واحدًا عنها في المجالس التشريعية.

Capture66

منشور بأسماء شيوخ الشمال وفقًا للمادة (16) من قانون انتخاب المجلس التشريعي الصادر سنة 1928، الجريدة الرسمية، 28-1-1929، المكتبة الوطنية.

يشير الباحث جوزيف مسعد إلى أن المشرعين أصبحوا أكثر صراحة بعد الاستقلال بتعريف هويات محددة بالقانون، حيث عرّف قانون انتخاب 1947 البدوي بأنه «كل فرد ذكر بالقبائل البدوية»(1). بقي الحال على ما كان عليه في المجالس التشريعية الخمس في عهد الإمارة بالنسبة لتمثيل البدو في أول برلمان بعد استقلال المملكة، إذ يشير قانون رقم 9 لسنة 1947 إلى أن الملك يعين «بأمر سامٍ (..) لجنتين من بدو الشمال وبدو الجنوب، تؤلف كل منهما من عشرة مشايخ، وتنتخب كل لجنة نائبًا واحدًا».

في سنة 1951، أصبح انتخاب البدو انتخابًا مباشرًا بموجب قانون رقم 79 لسنة 1951، الذي نص على ما يلي:

Capture14

الجريدة الرسمية، العدد 1070، 14-6-1951.

لكن في عام 1960، صدر قانون يمنع أعضاء الجيش العربي من التصويت مع العلم بأن نسبة كبيرة من أبناء الجيش كانت من البدو(2). وفي عام 1961، تم فصل عشائر بني صخر واستحدثت لهم دائرة بدو الوسط، وظلت جميع دوائر البدو غير محددة جغرافيًا إلى يومنا هذا، بل تحدد بأسماء العشائر التي تدرج في النظام الانتخابي (المادة 6). في هذه النقطة، توارد التبرير القائل بأن عدم تحديد دوائر البدو جغرافيًا له علاقة بنمط حياة البدو القائمة على الترحال، لذلك يقال إن الدوائر الانتخابية للبدو تكون «أينما حلوا وأينما ارتحلوا»، لكن في عامنا هذا، هل ثمة بداوة قائمة على الترحال حقًا؟

يشير مسعد إلى النظرة للبدو منذ زمن الاستعمار وتأسيس الأمارة كتهديد لفكرة الدولة الوطنية، لذا كان توطينهم جزءًا من عملية بناء «الدولة الوطنية» الحديثة(3). طرأت تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى على نمط حياة البدو، بعد كل ما فرض عليهم من أجل توطينهم ومنعهم من أن ينتموا لكيانات اجتماعية ما فوق وطنية تجتاز حدود الدولة الوطنية(4). عند إقرار اتفاقية «حدة» أو «حداء» بين ابن سعود وحكومة شرق الأردن، تم منع العشائر البدوية الشرق-أردنية والحجازية من اجتياز الحدود بين البلدين دون الحصول على «الوثائق اللازمة لذلك».

وفي عام 1929 أصدرت الحكومة «قانون الإشراف على البدو»، وتم تحديثه عام 1936، وهدف هذا القانون كما تشير المادة 3 منه إلى «المراقبة والإشراف بصورة عامة على جميع العشائر الرحل المشار إليها في المادة الثانية من هذا القانون أو على بعضها، وأن يلاحظ تنقلاتها وأن يعين الأماكن التي تعتبر لازمة لها للذهاب اليها أو للبقاء فيها في أي وقت كان»(5). وعند تحديث القانون عام 1936، أسقِطت أسماء عشائر كانت تعد بدوية في قانون 1929، وأضيفت إلى القائمة أسماء عشائر لم تكن تعُرّف كعشائر بدوية، وألغي قانون الإشراف على البدو عام 1976(6).

اختزال الفرد بكونه ابن جماعة ولا يعترف به سياسيًا إلا من خلالها، ما هو إلا قمع «للمواطن» وتشويه لفكرة المشاركة السياسية.

شُكلت لجان عديدة وأقرت قوانين وممارسات وإجراءات كانت تهدف بالأساس وبشكل رئيسي لتوطين البدو وإخضاعهم لفكرة الدولة الحديثة وبالتالي إلى تغيير نمط حياتهم القائم جزئيًا على الترحال، وصولًا إلى زوال البداوة نهائيًا من المجتمع الأردني كنمط معيشي(7).

تحدد الدائرة الانتخابية للناخب إما بمكان إقامته أو ببلدته الأصلية، وينطبق هذا على الجميع باستثناء من ولد بدويًا أو من قرر القانون في مرحلة تاريخية معينة أنه بدوي، فالذي يحدد الدائرة الانتخابية هو اسم عشيرته فقط، ويورث البدوي لأبناءه دائرته الانتخابية من ضمن ما يورث، إذ تعُتبر دوائر البدو مغلقة ديمغرافيًا، فالبدوي الذي تزوج واستقر في إربد من عشرات السنين، وأصبح جزءًا من المجال الاجتماعي السياسي فيها، لا يحق له بالقانون أن ينتخب إلا بدويًا. والبدوي الشيوعي المقيم بمنطقة العبدلي منذ عشرات السنين، لا يحق للحزب الشيوعي الأردني أن يدرجه في قائمته الانتخابية في الدائرة الثالثة مثلًا لأنه ينتمي بالولادة إلى عشيرة من العشائر المعُرّفة بالقانون بأنها عشائر بدوية، بالتالي يمنع عليه الترشح إلا في دائرة من دوائر البدو التي أدرجت بها عشيرته.

يكشف ذلك صناعة الدولة للهويات من خلال تسييسها لهويات مولودة، حيث تحدد الدولة هوية الفرد السياسية من خلال انتماءه القبلي لجماعة ينتمي اليها بالمصادفة، أي بالولادة. وهذا الوضع القائم على اختزال الفرد بكونه ابن جماعة ولا يعترف به سياسيًا إلا من خلالها، ما هو إلا قمع «للمواطن» وتشويه لفكرة المشاركة السياسية، يؤدي بالضرورة إلى نشوء عصبيات منظمة انتخابيًا بالقانون.

قد يكون أفضل مخرج من هذا الوضع القائم الذي تم توريثه للأردنيين لأسباب تاريخية منذ ما قبل تأسيس الإمارة، في خطوة أولى نحو صيغ انتخابية أكثر إيجابية ترتقي بالحياة السياسية، هو تحويل دوائر البدو إلى دوائر بادية، أي أن تحدد دوائر البدو جغرافيًا بدلًا من أن تُعرف بأسماء العشائر البدوية، ويطبق على البدوي ما يطبق على غيره من حيث اختيار مكان الإقامة كدائرة انتخابية أو البقاء ضمن دائرة البادية.

النساء في القوانين الانتخابية

للتمييز ضد النساء تاريخ طويل تمتد جذوره إلى تأسيس الإمارة، فالأمير عبد الله كما يشير مسعد في كتابه كان يعبر صراحةً عن امتعاضه من خروج النساء إلى الحيز العام، وكان يفضل أن تبقى النساء في المنزل وألّا تختلطن بالرجال، إذ كان يرفض نزول النساء إلى السهل مع الرجال ومشددًا على الالتزام بغطاء الرأس. كما وضع ضوابط على ظهور المرأة العاملة -في المدارس آنذاك- في الحيز العام، حيث أصدر مرسومًا يمنع فيه النساء وتحديدًا المعلمات من تزيين الوجوه، مستشهدًا بآيات من القرآن، واضعًا معايير لنموذج المرأة المسلمة(8).

تم استبعاد النساء من المشاركة السياسية كليًا، وحرمن من حقوقهن السياسية لعقود طويلة. وترافق استبعاد النساء من السياسة مع نضال طويل للنسويات الأردنيات، ففي منتصف الخمسينات وبعد محاولات عدة للنسويات لتغيير قانون الانتخاب من أجل السماح للمرأة بالمشاركة السياسية، قرر البرلمان منح المرأة الحاصلة على التعليم الابتدائي الحق بالتصويت فقط دون الترشح، (مع العلم أن شرط التعليم الابتدائي لم يفرض على الرجل). لكن بعد أن حل الملك الحسين البرلمان وأقال حكومة سليمان النابلسي، ألغيت جميع القرارات التي اتخذها هذا البرلمان ومن ضمنها قرار منح المرأة الحق بالتصويت(9).

حصلت المرأة على الحق في الترشح للمجالس النيابية وانتخابها لأول مرة في عام 1974(10)، بموجب قانون رقم 8 لسنة 1974، الذي نصت المادة (2) فيه على ما يلي: «يعدل تعريف كلمة (أردني) بشطب كلمة (ذكر) الواردة فيه والاستعاضة عنها بعبارة (ذكرًا كان أم انثى)».

Capturemm

الجريدة الرسمية، رقم العدد 2481، 01-04-1974.

وحصلت المرأة لأول مرة على حق الانتخاب والترشح في المجالس البلدية عام 1982. وكانت أول مشاركة للمرأة في المجالس الرسمية في عام 1978 في ما سمي آنذاك بالمجلس الوطني الاستشاري، وهو مجلس شكله الملك الحسين بالتعيين في الأعوام (1978-1984) لسد الفراغ الدستوري في فترة تجميد الحياة البرلمانية على إثر حرب عام 1967، وشهد المجلس ثلاث دورات مدة كل منها سنتين، ولم يكن له أي صلاحيات لها علاقة بالتشريع، ولم يحق له أن يستجوب الحكومة بل أن يساءلها فقط. حينها عين الملك ثلاث نساء من أصل 60 مقعدًا وهن: إنعام المفتي، ووداد بولص، ونائلة الرشدان. في عام 1984 جرت انتخابات فرعية لملء بعض المقاعد الشاغرة في مجلس النواب التاسع (1967) ولم تترشح أي امرأة لهذه الانتخابات الفرعية، واعتبرت هذه الانتخابات، أول انتخابات في تاريخ البلاد يحق للمرأة فيها أن تنتخب وتترشح.

فعليًا، تعتبر انتخابات 1989 الأولى التي تشارك فيها المرأة الأردنية كناخبة ومرشحة، حيث ترشحت 11 امرأة من أصل 647 مرشحًا ومرشحة ولم تحصل أي من النساء على مقعد. وفي انتخابات عام 1993 حصلت المرأة لأول مرة في تاريخ البلاد على مقعد بالبرلمان، حظيت به آنذاك توجان فيصل، بعد أن كانت واحدة من ثلاث نساء كنّ قد ترشحن من أصل 534 مرشح ومرشحة.

في عام 2003 طبق لأول مرة نظام الكوتا والذي سمح بدخول ستة نساء إلى مجلس النواب، وفي عام 2007 ترشحت 212 امرأة، وتمثلت المرأة بسبعة مقاعد، ستة منهم مقاعد كوتا، ومقعد واحد فقط بالتنافس الحر. وفي انتخابات 2010 ارتفعت مقاعد الكوتا إلى اثني عشر مقعدًا، مقعد لكل محافظة، إلا أن عدد المرشحات انخفض بنسبة 33% مقارنة بانتخابات 2007. وفي انتخابات 2013 ارتفعت مقاعد الكوتا إلى خمسة عشر مقعدًا، مقعد لكل محافظة وثلاث مقاعد للنساء البدويات اللواتي لم تشملهن مقاعد الكوتا الاثني عشر الخاصة بانتخابات 2010، وأبقى القانون الحالي المقاعد المخصصة للكوتا كما هي في انتخابات 2013، خمسة عشر مقعدًا.

من الواضح أن نظام الكوتا، وبهذا العدد القليل من المقاعد لا يستطيع محو الظلم التاريخي الذي وقع على النساء، ولا يكفي للارتقاء بالحياة السياسية لكي لا تكون حكرًا على الرجال -الأغنياء تحديدًا- بعد أن تمأسست لعقود على ذلك.

الأردن ليس حالة فريدة، فهناك نماذج عديدة في التاريخ تثبت أنه إذا كان هناك نية حقيقية وقرار سياسي من أجل فرض المساواة السياسية أو التأسيس لها على الأقل، ستستطيع الدولة أن تخطو خطوات مهمة على هذا الطريق.

ليست الكوتا هدفًا بحد ذاته، بل من المفترض أن تكون حالة مؤقتة لإيجاد حل لوضع قائم على تمييز متراكم عبر العقود.

تعتبر رواندا الدولة الأولى على العالم من حيث نسبة تمثيل النساء في البرلمان، حيث وصلت نسبتهن في آخر انتخابات أجريت في البلاد عام 2013 إلى 63.8%، تليها بوليفيا التي وصلت نسبة تمثيل النساء في آخر برلمان فيها عام 2014 إلى 53.1%. يروج البعض لخطاب يقول إن الإبادة الجماعية التي تعرضت لها رواندا والتي راح ضحيتها ما يقارب المليون شخص، حولت المرأة إلى أغلبية ولهذا تحظى بأعلى نسبة تمثيل نساء في برلمانات العالم. لكن هذا الخطاب الذكوري يفترض أن الأغلبية تحكم بالضرورة، وهذا ليس بدقيق على الإطلاق، فالعالم اليوم تحكمه أقلية طبقية رغم أغلبية الفقراء.

لعبت الدولة في رواندا وفي بوليفيا دورًا كبيرًا جدًا في التأسيس للمساواة السياسية. التزمت كل من رواندا وبوليفيا في دستوريهما بتمثيل النساء بنسبة 30% كحد أدنى يكفله القانون، ليس في البرلمان والمجالس البلدية فحسب، بل في جميع أجهزة صنع القرار في الدولة والأحزاب السياسية(11). في بوليفيا اليوم، 43% ممن يشغلن منصب العمدة أو المحافظ هم من النساء، 96% منهن يشغلن المنصب لأول مرة ونسبة كبيرة منهن من السكان الأصليين للبلاد، وهناك سبع قاضيات من أصل 14 في المحكمة الدستورية العليا في رواندا.

في تونس، حصلت النساء على 31% من مقاعد برلمان 2014، وضمن قانون الانتخاب مبدأ التناصف والتناوب في القوائم الانتخابية بين الجنسين، وأجبرت الأحزاب السياسية بالقانون على تشكيل القوائم وفقًا لهذا المبدأ، وهو ما نص عليه دستور البلاد الجديد كالتالي: «تعمل الدولة على ضمان تمثيل المرأة في المجالس المنتخبة»، «تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة»(12).

ليست الكوتا هدفًا بحد ذاته، بل من المفترض أن تكون حالة مؤقتة لإيجاد حل لوضع قائم على تمييز متراكم عبر العقود، وتفرض الكوتا بشكل مؤقت لكي تلغى لاحقًا، لا لتبقى. لكن الكوتا تصبح شكلًا من أشكال التمييز السلبي إذا تحولت لخانة ثابتة ولم تُسند بقوانين وأنظمة وخطط واضحة وممنهجة للتأسيس لحالة أكثر مساواةً.

كان من الممكن للقانون الحالي أن يخطو خطوة للأمام فيما يتعلق بالمقاعد المخصصة للنساء، عبر أمرين:

أولًا: رفع عدد مقاعد الكوتا من 15 مقعد (مقعد لكل محافظة) إلى 23 مقعد (مقعد لكل دائرة)، وإذا كان هناك تخوفات من زيادة مقاعد عمان وإربد والزرقاء لأسباب ديموغرافية-سياسية، فمن الممكن أن تُطرَح هذه المقاعد من حصة الرجال دون أن يزيد عدد المقاعد الكلي في هذه الدوائر.

ثانيًا: بما أن هذه الانتخابات تقوم على مبدأ القوائم النسبية المفتوحة، كان من الممكن للقانون أن يفرض على كل قائمة ضمان تنوّع جندريّ بنسبة 30%.

المسيحيون في القوانين الانتخابية

تتعامل القوانين الانتخابية مع المسيحيين «كأقلية»، (وما ينطبق هنا على المسيحيين، ينطبق كذلك على الشركس والشيشان، ولم يتم تحديدهما منعًا للتكرار) وظهر أول استخدام لمصطلح الأقليات في القانون الأساسي (الدستور) الأول لسنة 1928، والذي أشار صراحة في إحدى مواده إلى أن المجلس التشريعي يتألف «من ممثلين منتخبين طبقًا لقانون الانتخاب والذي ينبغي أن يراعى فيه التمثيل العادل للأقليات». وأعاد المشرع النص في دستور سنة 1947 بالقول إن مجلس النواب يتألف «من ممثلين منتخبين طبقًا لقانون الانتخاب الذي ينبغي أن يراعى فيه التمثيل العادل للأقليات».

Capture1928

تسمية مقاعد عام 1928.

يعتبر مصطلح «الأقليات» مصطلحًا حديثًا، إذ تذكر الباحثة صبا محمود أن الأوروبيين بدأوا باستخدام المصطلح في آواخر القرن التاسع عشر لزيادة نفوذهم بالمنطقة وتقويض الحكم العثماني، وبدأ مصطلح «حقوق الأقليات» بالانتشار تحت مسمى حماية «مسيحيي الشرق» أو الحفاظ عليهم. وساهم الاستعمار مساهمة كبيرة في قومنة «الأقليات» الدينية، أي تحويلهم إلى قومية، في مفارقة خلقتها مأسسة الدولة الوطنية الحديثة، إذ قومنت جماعات دينية وجدت قبل عصر القوميات أصلًا(13).

منذ نشأة البرلمان الأردني إلى يومنا هذا، تُوزع مقاعد البرلمان توزيعًا دينيا، ويحدد بالقانون أو بالنظام الانتخابي حصة أصحاب كل دين من المقاعد، فيقال هذا مقعد مسيحي، وذاك مقعد مسلم. وتراوحت عبر تاريخ البلاد المقاعد المخصصة للمسيحيين بين أربعة مقاعد كما في انتخابات 1947، ووصلت إلى 11 مقعدًا في زمن برلمان الضفتين (ستة مقاعد للضفة الشرقية وخمسة مقاعد للضفة الغربية). ومنذ انتخابات عام 1989 إلى اليوم، هناك تسعة مقاعد مخصصة للمسيحيين في البرلمان.

وعلى عكس ما يعتقد، لا توجد كوتا للمسيحيين والشركس والشيشان في البرلمان، إذ أن تقسيم المقاعد كما هو قائم بالوضع الحالي، ما هو إلا شكل من أشكال المحاصصة الدينية والإثنية، فالكوتا لا تحدد سقفًا أعلى بل تضمن حدًا أدنى من التمثيل. لكن القائم حاليًا هو تحديد عدد معين من المقاعد، فلا يستطيع الأردنيون المسيحيون مهما حدث أن يتجاوزوا المقاعد التسعة المخصصة لهم في البرلمان.

Capture2010

جزء من تسمية مقاعد عام 2010(14).

يعزل قانون الانتخاب القائم على تسمية المقاعد على أساس ديني الأردنيين المسيحيين عن باقي «المواطنين» سياسيًا، لا بل يقونن هذا العزل وينظمه، حيث يسمح القانون الحالي للمسيحي في حالة عدم تخصيص مقعدًا مسيحيًا في دائرته الانتخابية، أن ينتقل إلى أي دائرة انتخابية أخرى مخصص لها ذلك المقعد ضمن المحافظة نفسها، وإذا لم يكن في تلك المحافظة مقعد مسيحي، يحق له أن ينتقل إلى دائرة انتخابية في محافظة أخرى مخصص لها ذلك المقعد(15).

إن الدولة تدفع «المواطن» دفعًا باتجاه أن يكون عضوًا في طائفة، وتشجعه وتسهل الطريق له عبر القانون لدخول العملية السياسية من خلال الطائفة، وهذا ما وصفته صبا محمود بكيفية قيام الدولة الحديثة، دولة القانون، بإنتاج العلاقات الدينية في المجتمع وإعادة إنتاجها وتنظيمها(16).

الدولة تدفع «المواطن» دفعًا باتجاه أن يكون عضوًا في طائفة، وتشجعه وتسهل الطريق له عبر القانون.

ووفقًا تعليمات صادرة بموجب نظام الدوائر الانتخابية الحالي، لا تستطيع المرأة المسيحية(17) أن تترشح سوى على المقاعد المخصصة للمسيحيين، أي أنها لا تستطيع المنافسة على المقاعد المخصصة للمرأة، على خلاف المرأة المسلمة التي تدخل المنافسة على مستوى المقاعد العامة ومقاعد المرأة معًا(18).*

أن يتعامل القانون مع المسيحيين بوصفهم طائفة، بمنطق «الأقليات» و«الأكثريات»، فهذا نقيض «المواطنة». لا يولد الإنسان عضوًا في أغلبية أو أقلية ثابتة لا تتغير، بل قد يكون جزءًا من أغلبية أو أقلية سياسية متغيرة بموجب المواقف والبرامج السياسية. وبدل ترديد خطابات التعايش الفارغة، كان من الممكن إلغاء هذا التصنيف الطائفي من الدوائر الانتخابية وتحرير المسيحيين والعملية السياسية من هذه التقسيمات الطائفية التي ورثناها من عهد الاستعمار. أما إذا كان هناك إصرار على تمثيل المسيحيين لأسباب تاريخية تحولت بسبب سياسات الدولة إلى «حقوق مكتسبة»، فكان من الممكن إيجاد صيغة أكثر تقدمية لتمثيل المسيحيين من دون تسمية المقاعد على أساس ديني وأن تخضع هذه الصيغة لمعادلة القوائم النسبية المفتوحة، بأن تلزم القوائم المترشحة بالتنوع الديني والإثني، وبتحديد حد أدنى لفوز عدد من المرشحين المسيحيين دون الإخلال بمبدأ النسبية.

لا شك بأن القانون الحالي بمجمله يعتبر خطوة للأمام، من ناحية توسيع الدوائر من جهة، ومنح الفرصة للأحزاب والقوى السياسية والمرشحين من خلال مبدأ القوائم النسبية المفتوحة في بناء تحالفات على أسس سياسية من جهة أخرى. لكن المشكلة في القانون تبقى في طريقة احتساب المقاعد المخصصة لكل من النساء والمسيحيين والشركس والشيشان، حيث أن القانون الحالي، لمعرفة الناجح عن المقعد المسيحي -وهذا ينطبق على مقاعد النساء والشركس والشيشان- يقارن الأصوات التفضيلية التي حصل عليها المرشح المسيحي (أ) المنتسب إلى القائمة (س) مع أصوات المرشح المسيحي (ب) المنتسب إلى القائمة (ص) على سبيل المثال(19). والمغالطة هنا تكمن أن:

أولًا: احتساب الأصوات بهذا الشكل يحرم مقاعد المسيحيين والمرأة والشركس والشيشان من مبدأ النسبية الذي يقوم عليه القانون الحالي، إذ أن الطريقة التي تحسب فيها الأصوات الخاصة لهذه المقاعد أقرب إلى صيغة الأغلبية منها إلى النسبية.

ثانيًا: الأصوات التفضيلية تستخدم للمقارنة بين مرشحي القائمة نفسها، ولا يجوز أن تستخدم للمقارنة بمرشحين ينتمون إلى قوائم أخرى.

ثالثًا: هذا الشكل من احتساب الأصوات قد يمنح بعض القوائم، تحديدًا في الدوائر المخصص لها مقاعد مسيحيين وشركس وشيشان إلى جانب الكوتا النسائية، نسبة مقاعد في البرلمان مغايرة للنسبة التي حصلت عليها فعليًا.

خاتمة

إن السياسة الاستعمارية التي قامت على أساس عزل الناس عن بعضها البعض، استمرت مع نشوء الدولة، لا بل قامت الدولة بممأسسة هذه السياسة وبقوننتها، فالجماعات الدينية والإثنية والقبائلية هي مُعطيات اجتماعية، لكن تسييسها هو قرار سياسي أدى إلى عزل المكونات الاجتماعية عن بعضها البعض.

هذه المسارات التي فُرضت منذ ما قبل تأسيس الإمارة ليست أبدية. فالدولة التي يصفها غرامشي بـ«المربية» قادرة على إعادة دمج المكونات الاجتماعية، والخطوة الأولى في هذا الاتجاه تبدأ عندما تكف الدولة عن التعامل مع البدو والنساء والمسيحيين بعقلية «الأقليات» و«الأكثريات»، وتؤسس لحياة سياسية تقوم على مبادئ العدالة والمساواة لجميع أفراد المجتمع، وأن يؤخذ بالحسبان الغُبن التاريخي التي تعرضت له فئات اجتماعية بعينها.

* تنويه: اعتمدت نسخة سابقة من هذا المقال على مسودة نظام الدوائر الانتخابية، والتي جاء في المادة 5 منها أن على «المرأة الراغبة في الترشح ضمن دائرة مخصص لها مقعد مسيحي أو شركسي / شيشاني (..) تحديد المقعد إما ضمن المقاعد المخصصة وفقًا للبند المذكور أعلاه أو ضمن المقاعد المخصصة للمرأة»، أي أنها تختار بين الترشح كمسيحية أو شركسية أو شيشانية، وبين الترشح كامرأة. لكن هذه الصيغة النهائية للنظام كما صدرت عن الجريدة الرسمية خلت من هذه المادة، وحل محلها ما ينص على إصدار الهيئة التعليمات اللازمة لتنفيذ أحكام القانون.

  • الهوامش
    1- Massad, Joseph, Colonial Effects, The Making of National Identity In Jordan, Columbia University Press, 2001, p.54
    2- جوزيف مسعد، مرجع سابق، ص 55.
    3- جوزيف مسعد، مرجع سابق، ص 111.
    4- جوزيف مسعد، مرجع سابق، ص 59.
    5- المادة 3-أ، قانون الإشراف على البدو، 1936.
    6- جوزيف مسعد، مرجع سابق ص 57.
    7- عبد العزيز خزاعلة، وهن الدولة وسياسات التفكيك في المجتمع، مجلة عمران للعلوم الإجتماعية والانسانية، 2013، ص 153.
    8- جوزيف مسعد، مرجع سابق ص 88-92.
    9- جوزيف مسعد، مرجع سابق ص 96.
    10- يعزي مسعد توقيت منح المرأة الحق بالمشاركة السياسية إلى انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة في المكسيك وتشكيل النسويات الأردنيات وفد للمشاركة في المؤتمر ترأسته أنذاك النسوية إميلي بشارات رئيسة الإتحاد النسائي الأردني في ذلك الوقت.
    11- راجع المواد 9 و76 من دستور رواندا والمادة 8 من دستور بوليفيا.
    12- راجع المواد 21، 34، 46 من الدستور التونسي الجديد.
    13- Mahmood, Saba, Religious Difference in a Secular Age, Princeton University press, 2016, p.31-32
    14- لأول مرة في تاريخ البلاد تزال كلمة «مسلم» من النظام الانتخابي عام 2016 عند وصف المقاعد المخصصة للمسلمين. واكتفى النظام بتسمية مقاعد غير المسلمين (المسيحيين)، دون أن تسمى باقي المقاعد مقاعد مسلمين، وبقي الحال كما هو عليه دون أي تغيير من حيث تقسيم المقاعد على أساس ديني.
    15- راجع المادة الرابعة، الفقرة (ز) رقم (2) ورقم (3) من قانون الانتخاب الحالي.
    16- صبا محمود، مرجع سابق.
    17- وينطبق هذا ايضًا على المرأة الشيشانية والشركسية.
    18 – راجع المادة (5) من النظام الانتخابي لسنة 2016.
    19- راجع المادة (46) رقم (2)، رقم (3)، ورقم (4) من قانون الانتخاب الحالي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية