انتكاسة الانتفاضة العربية: ما السبب وراء كل ما حصل؟

الأحد 05 شباط 2017
من غلاف كتاب «انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضيّة» لجلبير الأشقر.

مع ما تمرّ به المنطقة منذ 2011، ومن ثم تطوّر الأحداث وصعود الثورات المضادة في البلدان التي شهدت مدًّا ثوريًا، حاول الكثيرون الإجابة على السؤال، دائم الحضور: ما السبب وراء كل ما حصل؟

يحاول جلبير الأشقر، الأكاديمي اللبناني في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (SOAS)، من خلال كتابه «انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضيّة»، الواقع في 256 صفحة، والصادر عن دار الساقي عام 2016، الإجابة على هذا التساؤل من خلال بعض الأدوات المفاهيمية أو النماذج التفسيرية وتركيبها معًا، للخروج ببعض الإجابات الوافية.

مثلث القوى

حسب الأشقر، فإن الاستثناء التاريخي الذي يمرّ بالمنطقة العربية وثوراتها هو أنها تتكوّن من ثلاثة فاعلين، وليس اثنين حسبما اعتاد العالم تاريخيًّا، وهؤلاء الفاعلون هم: النظام القديم (قوى رجعية)، الأصوليون الإسلاميون (قوى رجعية إسلامية)، الليبراليون واليساريون الذين يمثّلون تطلّعات الثورة (قوى تقدّمية). طبعًا هذه القوى متمثّلة بأناس منتمين فعلًا لمؤسساتها أو من أناس عاديين متعاطفين.

هؤلاء الفاعلون، بحسب الأشقر ليسوا موجودين في فقاعات منعزلة، وإنما يتفاعلون بشكل دائم. فالتفاعل بين النظام القديم والأصوليين الإسلاميين أخذ طابعًا بنيويًا وآخر أدائيًا. الطابع البنيوي يشي بحجم التشابه الكبير ما بين القوّتين؛ فبحسب الكاتب، كلتاهما قمعيتان، ورجعيتان من حيث القيم التي تؤمنان بها، وتتبعان نفس التصوّر عن إدارة الدولة اقتصاديًا (تظهر هذه النقطة جليّة أكثر في الدول التي تسنّى للقوى الإسلامية فيها الحكم. ومصر هي الحالة التي اتخذها الكاتب للتحليل). أما الطابع الأدائي، فكان يظهر أحيانًا على شكل صراع ما بين القوّتين في بعض اللحظات (مثل انقلاب السيسي في مصر على حكم مرسي، ومعارك جيش الأسد مع الفصائل الإسلامية)، أو على شكل تحالفات ومصالح مثلما فعل نظام الأسد في بداية الثورة السورية حين سرّح العديد من القيادات السلفية بعفو عام من سجن صيدنايا العسكري، وقبل ذلك بكثير، تسهيل نظام الأسد لتدفّق المجاهدين من سوريا إلى العراق أثناء الغزو الأمريكي، وعلاقاته الجيدة مع هذه التنظيمات، وكذلك الصفقات التجارية بين نظام الأسد وداعش. بالإضافة إلى العلاقة ما بين الأخوان المسلمين في مصر والمجلس العسكري أثناء الفترة الانتقالية.

أما التفاعل ما بين القوى الثورية وبقية القوى فقد أخذ شكلًا مَرضيًّا بشدة؛ فتارة تتحالف القوى الثوريّة مع القوى الرجعية (بوصف الكاتب)، خاصة في بداية الثورات؛ تحالفات لم تكن مدروسة جيدًا ولم تحتوِ على بنود واضحة أو أهداف فعّالة، وهي التحالفات التي سرعان ما انهارت؛ مثل تحالف القوى الثورية في مصر مع جماعة الأخوان المسلمين وما جرى بعد ذلك من انقسام، وحتى سقوط قتلى في بعض المظاهرات المناهضة لمحمد مرسي. بالإضافة للمعارك ما بين فصائل الجيش الحر والعديد من الفصائل الإسلامية مثل داعش وجبهة النصرة أو الحراكات السلميّة ضد الفصائل الجهادية في سوريا. وتارة تحالفتْ هذه القوى مع بقايا الأنظمة القديمة، تحالفات مريضة أدت لوأد الثورة في مصر خصوصًا وتونس.

إن هذه التفاعلات جميعها احتوت على العديد من الأخطاء التي أدت إلى الوضع المتدهور الذي وصلت إليه أحوال الثورة في مصر وسوريا وغيرها. بالإضافة للأخطاء الذاتية من قبل جميع هذه القوى، خصوصًا الإسلامية والثورية، والتي تزاوجت مع الأخطاء التفاعلية، مثل عدم اتفاق القوى الثورية في مصر على مرشح رئاسي واحد، وقمع الإخوان المسلمين للمظاهرات المناهضة لهم، واتباعهم للنهج الاقتصادي النيوليبرالي (الذي يمثل اتساقهم الشديد مع الأنظمة السابقة)، وسوء تصرّفهم أثناء فترة الانقلاب، وتساهل القوى الثورية مع التمويل الخارجي في سوريا مما أدى لانقسامات عديدة.

يمثّل الكتاب سردًا تاريخيًّا تحليليًّا، شبه شامل، يحاول الأشقر من خلاله سرد تاريخ ما حدث ولماذا حدث في السنوات التي تلت كتابه «الشعب يريد: بحث جذريّ في الانتفاضة العربية» والذي صدر عام 2013.

إن أمعنّا النظر في هذا التقسيم الثلاثي الذي يبدو جاذبًا للوهلة الأولى وقادرًا على تفسير الظاهرة، سننتبه إلى أنه يقوم على بعض الاختزالات والأحكام المتسرّعة؛ ففي الكتاب، يصف الكاتب القوى الليبرالية واليسارية بأنها القوى «التقدمية» التي تعبّر عن آمال الثورة والثوّار، وفي مقابلة حديثة له على موقع الجمهورية يقول الأشقر: «دعني أقول إن السياسة «التقدّمية»، إن فهمناها بشكل صحيح -سأستخدم هنا مصطلح التقدمية بدلًا من اليسارية– هي التي تُدافع عن كافة القيم التي تعرّف الحداثة والتقدم التاريخي منذ ثورات القرن الثامن عشر، مع تأكيدٍ خاصٍ على قيمة جوهرية هي العدالة الاجتماعية والمساواة». قد يكون ترفّع الكاتب عن اعتبار «اليسار» فقط هو المعبّر عن آمال الثورة وإنما «التقدّميّون» أمرًا جيدًا، لكنه يدفعنا لأن نتساءل: هل، بالفعل، قيم الحداثة والتقدّم التاريخي هي من ضمن آمال الثورة؟ العلمانية، وأهمية التطوّر العلمي، وشكل الدولة مثلًا، كل هذه الإشكالات «الحداثية» لم تكن مطروحة للنقاش، أو على الأقل، فإن أمر الجزم باتخاذها منهجًا غير محسوم، وليس بالضرورة هو الخيار الأمثل. ربما كان على الأشقر أن يشتغل على تعريف منطلقاته أولًا قبل الشروع باستخدامها.

أمّا أكثر ما أعتبره مغالطة في هذا التقسيم فهو وصف «الإسلاميين» بـ«الرجعيين»، وهذه مغالطة مركّبة؛ ففي بداية الأمر، هو يجعل الإسلاميين كتلة واحدة مصمتة، غير قابلة للتنوّع أو النقد الذاتي والمراجعة، بل يشير إلى أن «الإخوان المسلمين -أو أي مجموعات تنتمي إلى الأصولية الدينية، أيًّا كان دينها- لا يمكن الوثوق بكونهم ديمقراطيين حقيقيين، حيث تتناقض الديمقراطية جوهريًّا مع رؤيتهم للعالم». بالإضافة إلى ذلك، فهو يعود إلى استخدام المصطلحات القاصرة عن تفسير الظاهرة مثل الرجعية والتقدمية.

التدخل الأجنبي

إن اعتبرنا ما سبق هو العوامل الداخلية لما يمكننا أن نسميه ظاهرة «انتكاسة الانتفاضة العربية» التي يحاول الكاتب دراستها وتحليلها، فإن التدخل الأجنبي يمثّل العامل الخارجي لهذه الظاهرة السياسية الاجتماعية.

وهنا أيضًا يمكننا أن نرى تكرارًا للقوى الفاعلة المذكورة أعلاه، ولكن هذه المرّة على شكل دول، إذ أن حضور الأنظمة الرجعية (التي تشبه الأنظمة القديمة) والأصولية الإسلامية، واضحٌ جدًا، مثل روسيا والسعودية وقطر وإيران (يضيف الكاتب تركيا أيضًا لكنني لا أجدها تقع بين هذين التصنيفين: رجعي أو إسلامي).

يمكننا تقسيم طبيعة هذا التدخّل إلى ثلاثة أقسام: الأول؛ عسكري مباشر مثل تدخّل روسيا وإيران ومختلف الميليشيات الشيعية في سوريا، مما أدى لعدم توازن القوى بين الفصائل المقاتلة والجيش النظامي وأعوانه. الثاني؛ تمويليٌّ مباشر مثل الدور الذي لعبته كل من قطر والسعودية وتركيا لخلق استقطاب ما بين القوى الثورية والقوى الثورية الإسلامية، والتمييز بينها في الدعم المادي، مما أدى، في النهاية، لتفكك الكتلة الثورية المقاتلة الأولى «الجيش السوري الحر» والهيئات السياسية المتوازية معه. بالإضافة للتمويل السعودي والإماراتي لانقلاب السيسي، وقبلها الدعم القطري والتركي لنظام مرسي الذي زاد من تعنّت الجماعة وعدم اكتراثها لعقد تصالحات جادة مع المعارضة قبل أن تغرق تلك في علاقة مَرَضية مع قوى النظام القديم. أما ثالث أشكال التدخّل، والذي يخصص له الأشقر جزءًا كبيرًا من البحث، فهو التدخل غير المباشر، أو عن طريق التقاعس. والمثال الأهم عليه هو الولايات المتحدة، حيث آثرت إدارة أوباما عدم التدخل في قضايا المنطقة وترك الأمور إلى ما تريد أن تؤول إليه، أو ما تريد القوى الأخرى (روسيا وإيران ودول الخليج) أن تؤول إليه. وهذا، برأي الأشقر، ساهم في تدمير الآمال الثورية في مصر وسوريا (الحالات المدروسة في الكتاب) عن طريق حرمان المعارضة المسلّحة في سوريا من أسلحة متقدمة قد تعيد موازنة كفة القوى في الداخل، وعدم الاكتراث لما حصل في مصر من مجازر ارتكبها السيسي والموافقة عليه كرئيس.

خاتمة

برأيي، أجاد الأشقر تحليل العوامل الداخلية والخارجية للظاهرة، لكنه أهمل وبشدّة، العلاقات ما بين القوى الأجنبية، وصراعات موازين القوى فيما بينهما. بالإضافة إلى أنه أهمل التفاعلات الداخلية ما بين قوى الثورة نفسها، أو بين ما يسمّيها قوى الرجعية الإسلامية نفسها، وكأن الجماعات الإسلامية، كما أشرنا سابقًا، كتل مصمتة لا تمارس نقدًا ذاتيًّا أو كأنها لا تحتوي على العديد من الأطياف (فالكاتب يضع الأخوان المسلمين في صف واحد مع السلفيين تقريبًا). ربما يكون سبب هذا الاختزال تحديد البحث والرغبة بعدم إطالته، لكنه برأيي غير مبرّر.

إن ما سبق يُعتبر أهم ما جاء في الكتاب بنظري، ويمثّل الكتاب سردًا تاريخيًّا تحليليًّا، شبه شامل، يحاول الأشقر من خلاله سرد تاريخ ما حدث ولماذا حدث في السنوات التي تلت كتابه «الشعب يريد: بحث جذريّ في الانتفاضة العربية» والذي صدر عام 2013. ويعدّ الكتاب (وهذا سبب إعجابي به حقًّا) مرجعًا مهمًّا لتأريخ الحوادث التي جرتْ في مصر وسوريا في الفترة ما بين 2013 و2015، ومليئًا بالتقارير والكتب المتنوّعة التي سوف يستفيد منها القرّاء والباحثون حين الاطلاع عليها بعد أن أشار إليها الأشقر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية