الإخوان المسلمون في سوريا: المسألة الطائفية والاجتثاث

الخميس 26 نيسان 2018
الصورة من ويكيبيديا، لمدينة حماة السورية بعد مذبحة حماة 1982

(هذا المقال ينشر بالتعاون مع موقع الجمهورية، وهو الرابع ضمن ملفٍّ تنشره حبر بمناسبة مرور تسعين عامًا على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. ستنشر المقالات أسبوعيًا على مدار الفترة القادمة. المقال الأول، المقال الثاني، المقال الثالث).

تتميّزُ تجربة جماعة الإخوان المسلمين السوريّة بخصوصيتين رئيسيتين؛ الأولى هي تراكبُ مشروعها السياسي الإسلامي مع مسألةٍ طائفيةٍ في سوريا، والثانية هي الاجتثاث والتجريف الذي تعرّضت له الجماعة وأنصارها في ثمانينيات القرن الفائت، والمرتبط بدوره بالسلوك الإباديّ لنظام الأسد، الذي بلغ ذروته الأولى في مذبحة حماة عام 1982، ونشهد في هذه السنوات فصول ذروته الثانية المستمرّة.

إسلاميون في وجه علمانيين، أم سنّة في وجه علويين؟

نشأت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا من اندماج جمعيات إسلامية دعوية، كانت قد تأسَّست تباعاً في الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات في مدن سوريا الرئيسية1، وكانت كلّها متأثرة برؤى جماعة الإخوان المسلمين المصرية الأم، وأفكار مؤسسها حسن البنا، ولم تكن تختلف في خطابها ودوافع نشاطها وعملها عمّا كان مطروحًا في مصر، من ضرورة مواجهة التغريب والعلمنة وملامح الابتعاد عن الدين في الأخلاق والاجتماع والسياسة، وأيضًا مواجهة نشاط الإرساليات التبشيرية المسيحية، وإن كان هذا العامل أقلّ حضورًا في سوريا ممّا كان عليه في مصر.

كان رجال الدين والعلماء والناشطون الأكثر تأثيرًا في هذه الجمعيات، في معظمهم، من أبناء عائلات بارزة في مدن حلب وحماة وحمص ودمشق على وجه الخصوص، يغلب عليهم الطابع البرجوازي المدينيّ، وهي البيئة نفسها التي انتشرت فيها جماعة الإخوان المسلمين ونشطت آنذاك، وهي أيضًا البيئة نفسها التي خرجت منها النسبة العظمى من رجال العمل الوطني السوري الناشئ، الذين خاضوا الصراع السياسي مع سلطات الانتداب الفرنسي، وقادوا البلاد خلال السنوات التالية للاستقلال.

كان مصطفى السباعي، من مدينة حمص، المراقب العام الأول للجماعة في سوريا، وهو أحد تلاميذ حسن البنا، وكان قد نَسَجَ علاقة قوية مع الإخوان المسلمين في مصر خلال دراسته في الأزهر في الثلاثينيات. جاء الإعلان عن تأسيس الجماعة في سوريا عام 1945، أي قبل خروج قوات الانتداب الفرنسي منها بنحو عام، وشاركت الجماعة بقيادة السباعي في مجمل الاحتجاجات والإضرابات والصدامات التي سبقت انسحاب القوات الفرنسية، كما شاركت أيضًا بفعالية في الحياة السياسية والبرلمانية السوريّة بعد الاستقلال.

يقول سعيد حوّى، وهو أحد الشخصيات القيادية الإخوانية البارزة في حماة، في كتابه هذه تجربتي وهذه شهادتي: «يعتقد الإسلاميون في سورية أن الدستور الأول لسورية لو أضيفت إليه هاتان المادتان لكان دستورًا صالحًا للبقاء، ولكن بحجة أن في سورية أقليات تُستبعَدُ هاتان المادتان»، والمادتان المقصودتان، هما مادةٌ تقول إن دين الدولة هو الإسلام، وأخرى تقول إن الإسلام هو المصدر الأساسي في التشريع.

يتحدث سعيد حوّى هنا عن النقاشات التي رافقت إقرار دستور سوريا الأول بعد الاستقلال، دستور العام 1950، إذ طالبَ السباعي، وكان ممثلَ الإخوان المسلمين في اللجنة الدستورية، بأن يكون هناك نصٌّ واضحٌ في الدستور على المادتين المشار إليهما أعلاه، وكان الردُّ الأبرزُ من قبل الرافضين لهاتين المادتين، يتعلَّقُ بأن اعتبار دين الدولة الإسلام، واعتبار الإسلام مصدرًا أساسيًّا للتشريع، يهضمان الأقليات الدينية حقوقها.

على أي حال، انتهى النقاش آنذاك إلى حلٍّ وسط، ليصدر الدستور متضمنًا مادةً تنصّ على أن يكون «دين رئيس الجمهورية هو الإسلام»، دون ذكرِ دين الدولة، ومتضمنًا مادةً أخرى تقول إن «الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع»، في صيغة مخفّفةٍ لعبارة: الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع.

قدّمَ الراحل السباعي في مرافعته عن مطالب الإخوان المسلمين الدستورية، رؤيةً تحاول أن تقول إن هذه المطالب لا تهدد حرية العبادة والعقيدة، ولا حقوق المواطنين وحرياتهم. وأيًّا يكن الرأي في مرافعته تلك، فإن ما يعنينا من هذا النقاش، أنه منذ اللحظة الأولى بدا أن الهوية الإسلامية للدولة السورية لا تقف في مواجهةٍ مع العلمانية بقدر ما تقف في مواجهة مع حقوق الأقليات، ليصبح مضمون كل سجالٍ حول علاقة الإسلام والإسلاميين بالحكم في سوريا، منصرفًا إلى تأثير هذا على أوضاع الأقليات، وليس إلى تأثيره على حقوق المواطنين عمومًا ومفهوم المواطنة، وهو ما يبدو واضحًا في كلام حوّى الذي كتبه بعد نحو 35 عامًا على نقاش الدستور إياه.

اتخذَ هذا السجال منحىً متعرجًا خلال السنوات التالية لعام 1950، متزامنًا مع الانقلابات العسكرية المتتالية التي أطاحت تدريجيًا بالحياة السياسية الوليدة في البلاد، لكنه دخلَ منعطفًا حادًّا مع انقلاب البعث واستيلائه على السلطة في الثامن من آذار عام 1963، الذي مثّلَ تتويجًا للانزياح التدريجي في مراكز السلطة من يد نخب سوريا المدينيّة القادمة من خلفيات سياسية متعددة، إلى يد ضباط منحدرين من الأرياف، يحملون توجّهات قومية ويسارية، والقسمُ الأكبر منهم من أبناء الطوائف العلوية والدرزية والإسماعيلية.

تصاعدَ الاستقطاب الطائفي في سوريا مع هيمنة حافظ الأسد على البلاد، وتمكينه لضباط علويين من مفاصل السلطة العسكرية والأمنية التي بدأت تتغوّل وتتوسّعُ في البلاد على حساب الحريات العامة

في مسارٍ بالغ التعقيد، والدموية أحيانًا، لكن التفصيلَ فيه خارجٌ عن موضوعنا، هيمنَ ضباطٌ ينحدرون من الطائفة العلوية تباعًا على مفاصل السلطة في البلاد، وهو ما انتهى إلى انقلاب قاده حافظ الأسد عام 1970، ساحقًا جميع خصومه بمن فيهم كبار الضباط العلويين الذين نافسوه على السلطة. وترافق ذلك مع ضعفٍ شديدٍ في تماسك جماعة الإخوان المسلمين، ناتجٍ عن مراحل القمع المتكرر الذي تعرضت له منذ الوحدة مع مصر، ثم انقلاب 1963، وعن النزاع الدمشقي الحلبي على زعامة الجماعة، وعن عدم الاتحاد في الموقف حيال قضايا كبرى، منها ما يقوله حوّى في مذكراته بأسىً شديد، عن تنصّل قيادات إخوانية كثيرة من صدام مسلّح خاضه عناصر من الجماعة في حماة عام 1964، مع قوات سلطة البعث الناشئة آنذاك: «من الذكريات أن القيادات المحلية للإخوان المسلمين في بقية المحافظات لم تحرّك ساكنًا ولسنا نعتب عليها… فقالت نحن لا نؤمن بالوصول إلى الحكم إلا عن طريق الديموقراطية ولو كلفنا هذا خمسمائة عام…». منذ ذلك الوقت إذن، كان هناك تيارات إخوانية تتخذ طريقًا جهاديًا، وأخرى تسعى إلى التزام الأساليب المدنية في عملها.

تصاعدَ الاستقطاب الطائفي في سوريا مع هيمنة حافظ الأسد على البلاد، وتمكينه لضباط علويين من مفاصل السلطة العسكرية والأمنية التي بدأت تتغوّل وتتوسّعُ في البلاد على حساب الحريات العامة وسائر التيارات السياسية. ومنذ ذلك الوقت، أصبحَ كلّ حديثٍ في أوساط الإخوان المسلمين ضد السلطة، لا يخلو من إدانةٍ ورفضٍ للطابع الطائفي العلوي لها، إلى جانب العداء لوجهها العلماني، الذي صار أكثرَ هامشيةً يومًا بعد يوم. كما أن الوجه العلماني للسلطة نفسها كان يذوي يومًا بعد يوم أيضًا، لصالح حكم الحزب الواحد، ثم الطغمة الطائفيّة، ثم العائلة. وبالمقابل، نُظِرَ إلى الإخوان المسلمين على نحوٍ متصاعد، على أنهم رأس حربة الاحتجاج السنّي على تولّي علويين للسلطة في البلاد.

ساهمَ هذا الوجه الطائفي للصراع على السلطة في التأسيس للإبادة كأداة حكم للأسديّة، وكان من أبرز وجوه هذه الإبادة، اجتثاثُ حركة الإخوان المسلمين، والعنف الاستئصالي ضدها وضد أنصارها، الذي بدأت ملامحه تتضح منذ أواخر السبعينيات.

الاجتثاث

في أواخر السبعينيات، كان صعبًا الحديث عن جماعة إخوان مسلمين سوريّة متماسكة، بل كانت أقرب إلى تيار عريضٍ يضمّ بين جنباته توجهات وأفكارًا متنوعة، وجاء ذلك في سياق كفاحٍ عامٍ خاضته أحزاب وقوى عديدة ضد استبداد نظام الحكم، من بينها يساريون وقوميون عرب ونقابيون، وإسلاميون متنوعون طبعًا، محسوبون في مجملهم على التيار الإخواني العريض إياه.

واجه نظام الحكم أشكال التمرد والاحتجاج آن ذاك بقمع متفاوت الشدّة، لكنه كان يحتاج بهدفِ تثبيت أركان حكمه إلى كبش فداء يخصّه بقمعٍ ساحقٍ لا يترك مجالًا لأي مقاومة، وكانت الاغتيالات المتتالية التي طالت ضباطًا وشخصيات علويّة، وكان المتهمون بتنفيذها محسوبين على تيار الإخوان المسلمين رغم النفي المتكرر لقيادة الجماعة، ذريعةً لتصعيد اللهجة والعنف ضد التيار الإخواني على وجه الخصوص.

كانت مذبحة مدرسة المدفعية في حلب، التي ارتكبها النقيب إبراهيم اليوسف عام 1979، نقطة تحولٍ أساسية. وأيًّا تكن حقيقة ما جرى في القاعة التي ارتُكبت فيها المذبحة المروعة ضد طلاب المدرسة، فإن الرواية الأقرب للصحّة، والتي حفرت عميقًا في التاريخ السوري، كانت أن اليوسف قد حرص على أن يكون القتلى من الطلاب العلويين فقط. ومن المفارقات أن اليوسف كان ضابطًا بعثيًّا أصلًا، لكن تنظيم الطليعة المقاتلة إخواني المنشأ لم يتردد في نسبة هذه العملية إلى نفسه، في حين نفت القيادة الرسمية للجماعة أي علاقة لها بالهجوم، كما أنها كانت تنفي علاقتها بتنظيم الطليعة المقاتلة كلّه.

حدثٌ آخرٌ قاد إلى الاجتثاث، كان محاولة اغتيال حافظ الأسد التي نَفّذّها محسوبون على التيار الإخواني في حزيران عام 1980، وكان الردُّ عليها ارتكابَ قوة تابعة لرفعت الأسد، شقيق حافظ، مذبحةً مروعة عبر تصفية أكثر من 500 من سجناء التيار الإخواني في سجن تدمر، ثم صدور القانون رقم 49 في تموز من العام نفسه، الذي تنص مادته الأولى: «يعتبر مجرمًا ويعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين».

تلا ذلك تصعيدٌ في المواجهة، عبر المزيد من الاعتقالات والتصفيات والإعدامات في صفوف الجماعة، وبالمقابل تفجيرات استهدفت مقار تابعة لحزب البعث والأجهزة الأمنية، لتبلغ المواجهة ذروتها في مذبحة حماة عام 1982، عندما ارتكب نظام الأسد حملة إبادة جماعية في المدينة، أدت إلى تصفية تنظيم الطليعة المقاتلة، الذي تُنكِرُ قيادة الإخوان الرسمية علاقتها به، وإلى تدمير نحو ثلث المدينة، وتصفية الآلاف من أبنائها، وبينهم آلاف النساء والأطفال.

كان وقعُ الإبادة مروعًا، إذ أدخلَ البلد في نفقٍ من الطغيان المحمي بجريمة إبادة لم يُحاسَب عليها أحد، بل تم التسويق لها كنصرٍ في وجه الأصولية الدينية والطائفية وعملاء الإمبريالية. كذلك فإنه مع استمرار العمل بالقانون 49، أفضت الإبادة إلى اجتثاث حركة الإخوان المسلمين من سوريا، التي لم ينفعها نفيُ قيادتها لأي علاقة لها بالجماعات التي قاومت النظام بالسلاح، لتتحول تدريجيًا إلى حركة معارضة سياسية منفيّة خارج البلاد، ويصبح أي تعاطفٍ معها داخل سوريا تُهمةً قد تقود إلى الموت.

تعرّضَ المعتقلون الإسلاميون إلى أشدّ أنواع التعذيب والإذلال في سجون النظام، تحت طائلة التهديد المستمر بالإعدام في حال ثبوت أي علاقة لهم بتنظيم الإخوان، وكما اتُخِذَت الحرب ضد من انتهجوا خيار السلاح من أبناء التيار ذريعةً لتصفية التيار كلّه، كذلك كانت تصفية التيار ذريعةً لخنق كل أشكال المعارضة في البلاد أيًّا كانت.

لعقدين تالييْن، كان على طلاب المدارس الإعدادية والثانوية في سوريا، أن يتعاهدوا في شعارات الصباح المدرسية على التصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وسحق «أداتهم المجرمة، عصابة الإخوان المسلمين العميلة»، وتم تصدير الإخوان المسلمين على أنهم الشيطان بين السوريين عمومًا، وأنهم «الآخر» والعدوّ الوجوديّ الذين ينبغي سحقه في أوساط الأقليات، وعلى وجه الخصوص العلويين. فيما كانت كارثية سلوك الأجنحة المسلحة في الجماعة، وخطاياها القاتلة وجرائمُها، بابًا لتحميلها المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع في البلاد، حتى من وجهة نظر كثير من تيارات المعارضة.

المنفى ومحاولات العودة

خلال العقدين السابقين لمذبحة 1982، بدا واضحًا عدم تماسك جماعة الإخوان المسلمين السوريّة على المستويات التنظيمية والسياسية والفكرية، فهي أنتجت مجموعات حاولت التزام الخيارات السياسية في نشاطها، ومجموعات أخرى انتهجت العنف وحملت السلاح في وجه السلطة، وتورطت في جرائم طائفية. وفي منفاهم الطويل بعد المذبحة، كان قادة التيار الإخواني السوري وناشطوه، يحاولون استعادة تماسكهم وتطوير بناهم وعلاقاتهم في الخارج، ويحاولون صياغة مراجعات فكرية وتنظيمية، بانتظار أول فرصة سانحة للعودة إلى داخل البلاد. وفي المنفى أيضًا، انزاح الانقسام الحلبي الدمشقي المُشار إليه أعلاه، ليصير انقسامًا حمويًا حلبيًا، بدت فيه الكتلة الحموية أكثر تشددًا على طول الخط، ولعلّ ذلك يرجع إلى إرث المذبحة التي ارتكبت في حماة.

مع وفاة الأسد الأب، وانتقال السلطة إلى بشار بسلاسة لا تشبه إلّا انتقال السلطة في أنظمة السُلالات السلطانية، تمّ الإيحاء بأن جوًّا من الانفتاح السياسي قد بدأ في البلاد، وهنا يمكن الحديث عن محطتين أساسيتين في السنوات العشرة الأولى من حكم الأسد الابن، تشرحان كثيرًا عن أوضاع الجماعة وتوجّهاتها.

كانت جماعة الإخوان المسلمين السوريّة قد أصدرت عام 2001 وثيقةً حملت اسم «مشروع ميثاق الشرف الوطني»، أعلنت فيها رؤيةً منفتحةً تتعلق بالتعددية السياسية والديموقراطية، في محاولة للإعلان عن إجرائها مراجعات فكرية تُبعدها عن سمات العنف والطائفية الموسومة بها. ولاحقًا كانت من الموقعين على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي عام 2005، الذي وقَّعَت عليه أيضًا أحزاب وحركات يسارية وعلمانية وليبرالية معارضة. لكن الجماعة انضمّت في العام 2006 إلى ما عُرِفَ بجبهة الخلاص الوطني المعارضة، إلى جانب عبد الحليم خدّام، وهو ما جعلها تفقد كثيرًا من مصداقيتها في أوساط المعارضة السوريّة.

أدخلَت مذبحة حماة البلد في نفقٍ من الطغيان المحمي بجريمة إبادة لم يُحاسَب عليها أحد، بل تم التسويق لها كنصرٍ في وجه الأصولية الدينية والطائفية وعملاء الإمبريالية.

كان عبد الحليم خدّام نائبًا لحافظ الأسد، وواحدًا من رجالات نظامه البارزين، واسمه مرتبطٌ بعشرات الجرائم التي ارتكبها النظام، فضلًا عن كونه كان قريبًا من نواة الحكم الضيقة فيه، وشريكًا لها في أوسع صفقات الفساد، التي شملت دفن نفايات نووية في أرض البلاد.

انشقَّ عبد الحليم خدّام عن النظام وهربَ إلى خارج البلاد أواخر 2005، بعد خلافات مع بشار الأسد يطول الحديث عن أسبابها، ولا يمكن تفسير تحالف الإخوان المسلمين معه إلا بضعفِ ثقلِ وتواجد الجماعة في الداخل السوري، ما أنتجَ ضيقَ أفقٍ سياسيٍ شديدٍ لدى قيادتها، وعدم إدراكٍ لحجم توازن القوى داخل البلاد، فضلاً عن بروز السلوك الانتهازي المتعطش للسلطة بأي ثمن.

موقفٌ آخر كان بالغ الأهمية، وهو إعلان الجماعة عن إيقاف نشاطها المعارض للنظام مطلع العام 2009، الذي قالت وقتها إنه يأتي على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة آنذاك. كانت هذه محاولة من الإخوان لكسب ودّ النظام السوري وفتح ثغرة في الجدار المقفل أمام وجودها في الداخل، مدفوعةً على الأرجح بالرهان على العلاقة الجيدة بين النظام السوري وحركة حماس إخوانية المنشأ، وربما أيضًا بالرهان على العلاقة الطيبة التي جمعت بشار الأسد برئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان آنذاك، القادم من خلفية إسلامية تتقاطع مع طروحات الأجنحة الأكثر ليبرالية في تيار الإخوان. لكن النظام السوري لم يُعِرْ هذه الخطوة أدنى اهتمام، وهي أظهرت -مجددًا- الانتهازية الشديدة وضيق الأفق السياسي في سلوك قيادة الجماعة، وأنتجت تراجعًا في موقع التيار الأقلّ تشددًا فيها أيضًا.

خسرت الجماعة ثقة كثيرٍ من حلفائها المحتملين في المعارضة السورية، وازداد ضعفها الداخلي، وفشلت في فتح باب للمصالحة مع النظام السوري الذي كان يبدو وقتها في أوج قوته، في وقتٍ كانت فيه السلفية الجهادية تستقطب شباب المسلمين السنّة الأكثر غضبًا وتشددًا واستعدادًا للقتال.

قبيل قيام الثورة السوريّة، لم يكن هناك أفقٌ نحو عمل سياسيٍ يخوضه الجناح المدني في التيار داخل سوريا على غرار الأحزاب التي أنتجها الإخوان في دول أخرى، ولا أفقٌ نحو عمل ديني دعويّ داخل البلاد، ولا أفقٌ نحو عمل جهادي عسكري يخوضه التيار المتشدد. هكذا بدا أن جماعة الإخوان السورية فقدت كل أملٍ في بناء مستقبلها السياسي داخل البلاد.

العودة العرجاء في زمن الثورة السوريّة

كان اندلاع الاحتجاجات في سوريا ربيع 2011، وانقلابها إلى ثورة شعبية سلميّة ثم مسلّحة، فرصةً أمام جماعة الإخوان المسلمين للعودة إلى الساحة السورية سياسيًا، لكن محاولاتها للعودة كانت محكومة بمسألتي الطائفية والاجتثاث اللتين تحدثنا عنهما.

تصاعدت المسألة الطائفية في سوريا، حتى أصبح الوجه السني-الشيعي للصراع في الإقليم فاعلًا أساسيًا في الصراع السوري، وأصبح الوجه السني-العلوي للصراع على السلطة في سوريا واحدًا من مفرداته الكثيرة. وفي ظروف كهذه، ما كان يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تعيد تموضعها حيال المسألة الطائفية، على الرغم من محاولاتها تبني خطابٍ مدنيٍ ديموقراطيٍ في أروقة المعارضة السياسية، ذلك أولًا لأنه لا مراجعات فكرية جديّة أنتجتها الجماعة في هذا السياق، وثانيًا لأن مفردات ورموز مرحلة السبعينيات والثمانينيات عادت إلى الحياة فورًا، سواء أرادت قيادة الجماعة ذلك أم لم تُرد. ولعلّ من أبرز الأمثلة على هذا، إصرار جبهة النصرة القاعديّة، وفصائل سلفية أخرى، على استخدام اسم إبراهيم اليوسف مرتكب مذبحة مدرسة المدفعية، رمزًا لإحدى معاركها ضد النظام في حلب عام 2016، رغم رفض بعض الفصائل المشارِكة في المعركة وقتها استخدام هذا الاسم. واليوسف هو رمزٌ من رموز الاستقطاب الطائفي في البلاد، وهو رمزٌ مرتبطٌ بالإخوان المسلمين، أيًا تكن حقيقة علاقته بقيادة الجماعة وقت ارتكابه جريمته.

لكن الاجتثاث وإرثه الثقيل كان هو العامل الأكثر تأثيرًا في سلوك الإخوان المسلمين في زمن الثورة، إذ بهدف تجاوز غياب وجود تنظيمي جدّي لها في الداخل السوري، وتجاوز ضعف الثقة والتشكك السائد حيالها، سعت الجماعة إلى استعادة حضورها عبر نسج علاقات مع مجموعات من الناشطين في البلاد منذ المرحلة السلميّة، ومع بعض الفصائل المسلّحة لاحقًا، وتقديم الدعم لهم دون أن يكون هذا معلنًا، ودون أن يتطور ليصير حضورًا تمثيليًا حقيقيًا على الأرض.

كان اندلاع الاحتجاجات في سوريا ربيع 2011، وانقلابها إلى ثورة شعبية سلميّة ثم مسلّحة، فرصةً أمام جماعة الإخوان المسلمين للعودة إلى الساحة السورية سياسيًا

أمّا على صعيد المعارضة السياسية، فقد سعت قيادة الإخوان المسلمين في المنفى إلى الانخراط في جميع هيئات المعارضة في الخارج، واعتمدت على كونها الجماعة الأكثر تنظيمًا خارج البلاد في محاولاتها للهيمنة على مؤسسات المعارضة، ولكن دون أن يكون هذا ظاهرًا بشكلٍ صريح، وذلك على الأرجح لأن تمثيلًا إخوانيًا معلنًا وكبيرًا، سيكون فاقدًا للمصداقية من جهة، وسيثير المخاوف حيال مستقبل البلاد في حال رحيل النظام من جهة أخرى.

تبدو محاولة تحديد مدى تواجد وتأثير الإخوان المسلمين اليوم في هيئات ومؤسسات المعارضة السورية السياسية، أو في فصائلها المسلحة، أمرًا بالغ الصعوبة، حتى أن من يزور الموقع الرسمي للائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة، لن يجد أيّ ذكر للإخوان المسلمين في القسم المخصّص لتعداد مكونات الائتلاف، على الرغم من معرفة جميع المتابعين أن للجماعة حضورًا فاعلًا عبر ثقلها الكبير في المجلس الوطني السوري، الذي هو أحد أبرز مكونات الائتلاف.

وكذلك الأمر في ميدان المواجهة العسكرية، إذ لا يوجد فصيلٌ واحدٌ في سوريا يقول إنه ذراعٌ عسكري لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أن هناك فصائل كانت موجودة واختفت، وأخرى لا تزال موجودة، بالإضافة إلى تيارات مهمّة في فصائل إسلاميّة كبيرة، كلّها مرتبطةٌ إلى درجات مختلفة بتيار الإخوان المسلمين، أو مدعومةٌ من قيادة الجماعة في الخارج2.

أيًّا يكن تفسيرُ سلوك «التخفّي» الذي يبدو أن الجماعة تنتهجه، فإنه يعني فشلًا في عودتها بشكلٍ فاعلٍ إلى الداخل السوري، لأنه إذا كان مقصودًا من قبل قيادتها، فإنه لا يمكن أن يُفهمَ إلّا بوصفه رغبةً في عدم تحمّل أي مسؤولية عن فشل التغيير السياسي الذي بات مُرجّحًا اليوم، وكذلك أي مسؤولية عن المآلات الدموية في البلاد، وهو ما سيُضعف مصداقيتها وتمثيلها حتمًا في أي معادلات مستقبلية.

أمّا إذا كان هذا السلوك مفروضًا عليها نتيجة توازنات إقليمية ودولية على الصعيد السياسي، أو نتيجة ابتلاع التيارات السلفية للعمل الإسلاميّ المسلّح والدعويّ في الداخل، فإنه مرّة أخرى يعني أنها لم تنجح في بناء أي ثقلٍ شعبيٍ يمكنها الرهان عليه.

يتقدّمُ نظام الأسد اليوم مدعومًا بروسيا وإيران، وبالأوضاع الدولية المواتية له، وهو قد نقل سلوكه الإبادي إلى مستويات جديدة، بلغت حدّ اقتلاع وتحطيم البيئات التي ثارت عليه. وإذا كان انتصار النظام السوري الكامل سيعني حتمًا سنواتٍ جديدةً من العمل في المنفى بالنسبة للجماعة، فإن انتصاره الجزئي وقبوله مجبرًا بإشراك بعض تيارات المعارضة ومن بينها الإخوان في الحكم، أو حتى انهياره نتيجة تغيّر لم يعد مأمولًا في التوازنات الدولية، لن يعني عودةً فاعلةً للإخوان المسلمين إلى الاجتماع السياسي السوري، بل سيكون أمام الجماعة عملٌ طويلٌ لغسل آثار العقود الطويلة من التورط الطائفي والاجتثاث ومحاولات العودة العرجاء.

_________________________________________________________________________

  • الهوامش

    1- للمزيد عن الجمعيات التي تشكلت جماعة الإخوان المسلمين السوريّة من اندماجها، مراجعة كتاب عدنان سعد الدين المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا: الإخوان المسلمون في سوريا، مذكرات وذكريات، ما قبل التأسيس وحتى عام 1954.

    2- ربما تكون هيئة دروع الثورة، التي تأسست من تحالف مجموعة فصائل مسلحة عام 2012، هي الفصيل المسلح الوحيد الذي كان له علاقةٌ ظاهرةٌ بالإخوان المسلمين، لكن قيادة الهيئة من جهة، وقيادة الإخوان المسلمين الرسمية من جهة أخرى، قد أكّدتا مرارًا أن العلاقة ليست تنظيمية، وأنها ذات طبيعة فكرية. ولم يعد لهذه الهيئة وجود الآن، لكن جزءًا من فصائلها انضوى لاحقًا في فصيل فيلق الشام العامل في الشمال السوري اليوم. ولفيلق الشام أيضًا علاقةٌ بالإخوان المسلمين، وهو محسوبٌ عليها وفق الرواية السائدة في الشمال السوري، لكن من غير الممكن تحديد طبيعة هذه العلاقة ومداها. وعلى النحو نفسه، ثمة علاقة غير واضحة وغير معلنة جمعت قيادة الإخوان المسلمين في الخارج بفصائل مسلحة متعددة، كما أن ثمة فصائل صغيرة عديدة قادمة من خلفيات إخوانية اندمجت في فصائل كبيرة كحركة أحرار الشام الإسلامية، التي يقال في أوساط كثيرة إن فيها تيارًا إخوانيًا، على المستوى الفكري والرمزي على الأقل، دون أن يكون ممكنًا أيضًا معرفة مدى علاقة هذا التيار بقيادة الجماعة الرسمية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية