ليس جديدًا أن تسعى السلطة لتصوير العنف الذي تمارسه على ضحاياها. لكنّها عادةً ما تتجه إلى اعتباره نمطًا من أنماط «المعرفة الامتيازية» التي تنحصر في المواقع العليا للسلطة التي تستفيد من العنف الموثّق في نحت مزيدٍ من آليات الإخضاع للضحايا. فإبقاء العنف سرًا يعبّر عن قوة السلطة في الإخفاء وحرمان الضحايا من إمكانيات الكفاح الوطني والاجتماعي، محافظةً على براءتها وصورتها الأخلاقية. بذلك، يكون السر جزءًا أصيلًا من السردية التأسيسية للسلطة ومن تعريفها لنفسها ولشرعيتها.[1] إلا أنّه يعبّر في الآن نفسه عن هشاشة هذه السلطة وخوفها من إفشائه، وهو ما ينطبق على كثيرٍ من الدول الاستيطانية حول العالم التي تبني قصتها، من خلال الوثائق والصور (الأرشيفات)، على أساس الفصل بين قصة صعودها وقصة الفصل العنيف للشعوب للأصلية عن أراضيها، وهو ما يُعتبر تنصلًا ضروريًا لمحو البدايات العنيفة للاستيطان، وتأسيسًا لخيالِ أمةٍ مستقلةٍ صالحةٍ و«أصليةٍ».[2]
القاتل الأسترالي الذي نفّذ، الشهر الماضي، مذبحةً مروعةً بحق مسلمين كانوا يهمّون بالصلاة في مسجدين في مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية، حاصدًا أرواحَ خمسين منهم، يمثّل، بطريقةٍ ما، شيئًا كثيرًا مما سبق. فهذا الشاب المأخوذ للغاية بهويته البيضاء أولًا -«أنا رجلٌ أبيضُ عاديٌّ»- لا ينفصل اعتداده بها عن إدراج ذاته ضمن جماهير منظومة التذكر والنسيان و«الأسرار العنيفة» تلك؛ المنظومة التي يتصاعَد نجاحها بتصاعُد الفصل بين سردية بناء الدولة والعنف الموجه نحو الأصليين، ليأتي اليوم الذي يتبجح فيه القاتل بالتعبير عن «أصلانيته البيضاء القومية» من خلال القتل.
في هذه المقالة، أركز على فيديو المذبحة، لنقارب ما أظهرَ وحجبَ، وكيف بنت الجماعات المختلفة، بما فيها القاتل، سردياتها غير المتعلقة بالحدث فحسب، وما الذي تعنيه كل الديباجات الاعتذارية على إثره.
إباحية الألم والإمتاع
يأتي فيديو مذبحة نيوزيلندا، الذي توحدت عبره هوية القاتل والمصور، ضمن نطاق ذاكرة استدخال العنف تجاه «الآخر» في وعيه الأيديولوجي بوصفه أخلاقيًا، نتيجةً لإدراك هويته الذاتية كأصليةٍ تُزاوج بين العرق الأبيض والدين المسيحي، ما يجعله يُحمّل صاحب أي هوية أخرى في الدول التي تسود فيها الأخيرة، وجهًا استيطانيًا يهدد وجودها وتماسكها، ويُفضي تراكمه إلى ما أسماه في بيانه «استبدالًا عظيمًا» تصبح فيه الهوية البيضاء المسيحية هويةً خارجية/أخرى. إذ إن «خطر» هؤلاء المُغايرين من مسلمين/ مهاجرين/ سود/ أصليين لا يتمثل في تشكيلهم هويةً مُقابِلةً، بل في محاولتهم الاستحواذ من الداخل على الهوية المهيمنة واستيطان مكتسباتها، حتى تفقد جوهرها المتُجانس، إلى أن يتلاشى ما يميزها، وتتلاشى هي بالضرورة. بعبارةٍ أخرى، فإن هذا الهاجس الحي لا يعود فحسب إلى حجم الكتلة الديمغرافية الزاحفة إليهم من المهاجرين، بقدر ما تعود إلى ما يُرى أنه استعارة المهاجرين لمكونات وعناصر ثقافية من تلك الهوية، و«احتلالهم» بعض مكتسباتها في بناء هوياتهم الجديدة. لكن هذه الاستعارة لا تؤدي دورًا معطلًا لهوياتهم الأصلية وما يميزها من أبعادٍ دينيةٍ أو قوميةٍ، بل تُصور بكونها عمليةَ إحلالٍ تدريجيةً لمركبات الهوية المغايرة، تحديدًا الإسلامية، في عمق الهوية البيضاء القومية، التي ستعمل على «أسلمة أوروبا» وربما «تعريبها»، ويتحول بدورها المسلمون إلى «البيض الجدد» -ليس بالمعنى العرقي، بل المهيمن- فيما يصبح الأوروبيون المسيحيون «آخر». لذا، فهم يرون في المغايرين -تحديدًا المسلمين منهم- جماعاتٍ استيطانيةً في طريقها إلى السيطرة، ما يستوجب الردع الذي يخلق هزاتٍ ارتداديةً عميقةً، وإنْ مارسه الأفراد، وهو ما كان مطمح القاتل الأسترالي فيما أسماه «وعيًا ثوريًا أبيض لطرد المستعمِر المسلم».
لكن تفضيل القاتل لأن تكون ضحيته مسلمة، لا يعود فحسب إلى ما يراه تدخلًا من المسلمين لنزع «بياض» أوروبا ومسيحيتها في الوقت الراهن، بل يتداخل مع ما يعتبره عداءً تاريخيًا طويًلا مع الإسلام كدين «استعمر» أوروبا وقتل أفرادها. نلحظ هذا العداء في إحالاته المتعددة، سواءً تلك التي تضمنها البيان أو خطّها على سلاحه، إلى معاركَ تاريخيةٍ هزمت فيها أوروبا المسلمين، أو خساراتٍ مسيحيةٍ أخرى؛ الأمر الذي يجعله يناقض نفسه، إذ كتب في البيان أن لا عداءَ لديه مع المسلمين الذين يعيشون في بلدانهم، موضحًا أنه يحترمهم وثقافتهم.
البث المباشر للفيديو لم يخدم كتسجيلٍ وتوثيقٍ لذاكرة العنصرية، بقدر ما خدم كآلة بروباغندا حيةٍ تهدف إلى كتابة المجزرة كحدث ملهم للجماعات التي تتفق مع أطروحته، وكتهديد متربص بأصحاب الهوية المُغايرة.
إن انطلاق المجرم مما سبق، وبثه المباشر للمذبحة، يدلان على أنه اعتبر العنفَ المُميت قتلًا أخلاقيًا، بل إن توثيقه للمذبحة يعبر عن اعتدادٍ وشعور بأفضليةٍ يتجاوزان شخصه إلى الأيديولوجيا التي ينتمي لها، معتبرًا القتلَ من خلال الصورة المتحركة وسيلةَ استردادٍ «لحقوق جماعته» ومساحتها. في هذا الإطار، نلحظ تكاملًا بين عملَيْ البيان والفيديو، فإنْ كان البيان الذي كتبه يمثل خطابًا لا ينطلق من «دستوبيا» المستقبل الأوروبي فحسب، بل يشير إلى تاريخٍ من الخسارات «المسيحية البيضاء» أمام المسلمين، فإنه بذلك يؤدي دورًا أساسيًا في تجريد ضحاياه المُرتقبين من أي عاملٍ يُسهم في جعل استهدافها لاأخلاقيًا، وهو ما تحدث عنه المفكر «جورجيو أغامبين» في منجزه «الإنسان الحرام»، ليأتي الفيديو ترجمةً لذاك التجريد.[3]
من جهة أخرى، فإن الفيديو حمل ضمنيًا تفويضًا من التيار اليميني القومي؛ ذلك أن تخطيط القاتل وتنفيذه المذبحةَ منفردًا يعبران عن استعصاء العمل الجماعي وتشكيل الخلايا، الذي لا يُلغي حتمًا حملَه قناعاتٍ وطموحاتٍ مشتركةً، يأخذ القاتل على عاتقه تحويلها إلى فعلٍ ملموسٍ يعول من خلاله على أثره المتقادم، خصوصًا أنه انطلق مما رآه عجز الدولة الأوروبية عن حسم المسألة المؤرقة. فمن خلال الفيديو، يبدو جليًا إصرارُ المجرم على التضحية بمصيره لصالح الاستقطاب؛ بمعنى أن اختياره التصوير بهذه الطريقة يتجاوز فكرة تخليد الذات، أو اعتبار الفيديو من صنف «المعرفة الامتيازية» التي تجعل من تداول القتل أرشيفًا منغلقًا على جماعةٍ ضيقةٍ، أو تحقيقًا مستمرًا للمتعة لدى المجرم. يتجاوز الفيديو ذلك نحو ما يمكن أن نسميه إباحية الألم، التي تحول الأخير إلى سوقٍ للعرض والطلب، وفضاء المسجد المُقدس إلى مسرح «البورنوغرافيا»، سعى القاتل من خلاله إلى أن تصبح الأرضية الأيديولوجية التي يقف عليها «المُشاهد» منوطةً باستجلاب موقعك من تلك الإباحية، كضحيةٍ لها أو مُتماهٍ معها ومُستمتعٍ بها.
ولكون استجابة من لا يعد طرفًا مباشرًا في مثل هذه الأحداث، تُعتبر أحد أساسات صناعة الصورة، فيمكننا القول إن البث المباشر للفيديو لم يخدم كتسجيلٍ وتوثيقٍ لذاكرة العنصرية، بقدر ما خدم كآلة بروباغندا حيةٍ تهدف، من جهةٍ، إلى كتابة المجزرة كحدث ملهم للجماعات التي تتفق مع أطروحته، مؤسسًا لما بعده من ارتداداتٍ، ومن جهةٍ أخرى، إلى كتابتها كتهديد متربص بأصحاب الهوية المُغايرة. بقدر ما كانت الاستباحة مهلكة للأجساد، تم التعاطي معها كـ«مادةٍ للتسلية» عند الأبيض المجرم، فكانت هنالك حاجة لإشراك «المشاهد» فيها؛ إشراكه بالقتل والحس الإمتاعي لمن يشاطرونه المذهب السياسي عينه، قائلًا: «دعونا نبدأ الحفلة». هذا الفعل ينبني على قناعةٍ فوقيةٍ بقدرة القاتل المطلقة على إدارة ميدان الحياة/الموت لمن يعاديهم من حاملي هويةٍ مغايرةٍ له، وبثها مباشرةً لأن الإرث الذي ينطلق منه يحمي فعلته ويمنحها نشوةً خاصةً، مقابل أن يمنح «المشاهد» النقيضُ شعورًا بالتهديد الدائم، وأن القتل يطاله أيضًا، ليكون الفيديو بذلك أكبرَ من ذاكرة كراهيةٍ توثق، إنما وسيلةُ قتلٍ، وتعبيرٌ عن مقتلةٍ يوميةٍ.
عنف الصورة/الفيديو
حفزتني الأغنية الحماسية التي رافقت القاتل، وهو في طريقه إلى تنفيذ المجزرة، والتي تحمل تمجيدًا لمجرم الحرب الصربي رادوفان كاراديتش، على إثر تنفيذه أفظعَ المذابح المعاصرة بحق مسلمي البوسنة، إلى استعادة دراسةٍ للباحثة شارون سليونسكي (Sharon Sliwinski) تتناول فيها عنف التصوير الفوتوغرافي في حرب البوسنة في عقد التسعينيات.[4] جاءت هذه الاستعادة مدفوعةً بحجم التشابه السردي التي تحملها قصة الصورة موضوع الدراسة، وقصة فيديو المذبحة، وإنْ بدا الأخير ذا عنفٍ ملموسٍ أكثر. فالصورة تعود إلى قصة عائلةٍ بوسنيةٍ مسلمةٍ استولى الصرب على جميع ممتلكات منزلها، وحملوها معهم، باستثناء صورةٍ تجمع أفراد العائلة داخل إطارها. شوّه الصرب وجوه العائلة وغيبوها تمامًا بخدوشٍ أفقيةٍ، وأبقوها في المنزل. شعَرَ الصرب بأن في هذه الصورة ما يهدد طموح نقائهم، على عكس الممتلكات الأخرى، حتى أكثرها حميميةً، التي تعاطوا معها بعين الدمج والاستحواذ، وحولوها أغراضًا خاصةً بهم، على اعتبار أن نقطة الهوية المميزة محجوبة في إطارها. بالمقابل، لم تستحِلْ الصورة بشكلها المشوَه، بحسب الباحثة، حجبًا للعائلة وكراهيةً محددةً تجاهها، بل تعد تعبيرًا عن مسعى الإبادة الجماعية والتصفية الإثنية، لتسأل الباحثة: هل ينبغي قراءة التشوه كخيالٍ يحجب أشكالًا أكثرَ مباشرةً من العنف، أم أن هذا النوع من التمثيل يؤدي حتمًا إلى أشكالٍ أكثر عمقًا من الدمار؛ أي إبادة البشر؟[5]
تأسيسًا على ما سبق، فإنْ كانت العلامات المسجلة على هذه الصورة تحمل اعترافًا ضمنيًا بأن ثمة هويةً مغايرةً «غريبةً» موجودةً مكان ما هو «أصلي»، إلا أنها تصبح الوسيط الأمثل للتهديد والقتل/الإقصاء. فهي لا تعمل كُملحقٍ يُجاري القتل الدائر في الحيزات العامة والخاصة لمسلمي البوسنة، بقدر ما تشكل هي نقطةَ انطلاقٍ لخوض حرب الإبادة؛ فالصورة بشكلها الجديد تحمل طبقتَي هدمٍ وبناءٍ؛ تهدم الهوية الحيزية لمسلمي البوسنة، وتبني بالمقابل حيزًا نظيفًا «صربيًا» لا يمكن بلوغه سوى بتطهير الهوية المهددة له. بالتالي، إنْ كان كلٌ من النصر والقوة في القتل يُرتجى عبر الصورة من خلال إنتاج الخدش والشطب فيها، فإن فيديو المذبحة أيضًا سعى، رمزيًا، لإثبات قدرة «القومية البيضاء» على أن يتجاوز رصاصها الأجساد المُباشرة أمام القاتل نحو المشاهدين «الغرباء» عن فضائها الهوياتي في «معقلها»، بحيث يصبح إنتاج «الحيز النظيف» عصيًا على التحقق دون التواطؤ مع القيمة الاستمتاعية الاحتفالية التي خلّفتها الصورة لدى البعض، الذي يبدو القاتل عاقدًا الأملَ عليه، بإعلانه أن المذبحة ستشكل ثورةً فيما بعد.
ترجع الباحثة العنف بحق مسلمي البوسنة إلى ما يسميه فرويد «نرجسية الاختلافات الطفيفة»؛ إذ يصف المصطلح كيف تُعنى الشعوب التي تشترك في نفس مساحة الأمة بتمييز نفسها كأعضاء في مجموعةٍ اجتماعية معينةٍ، فبدلًا من فرض مصدرٍ بيولوجيٍ أو عرقيِ للعنف الاجتماعي، يقترح فرويد أن ديناميكيات المجتمع مبنيةٌ على تقلبات الحب والكراهية؛ فالرغبة المُطلقة في النقاء تُجبر أعضاء المجموعة الاجتماعية على طرد شوائبها من الآخرين القريبين، لتعيد المجموعة تحويل جيرانها إلى غرباء يجب تحييدهم بالعنف المُميت.[6] بالتالي، فإن القاتل الأسترالي تعاطى مع عنف المجزرة بحق مسلمي البوسنة بوصفها نموذجًا يُقتدى به، وإن كان «النقاء» هناك حَمَل معنىً إثنيًا دينيًا من داخل نفس مساحة الأمة، إلا أن المذبحة الأخيرة بالضرورة تحول من تعتبرهم «غرباء» إلى «غُزاةٍ عاتين» يجب تحييدهم.
ما يحجبه الفيديو
استُقبل فيديو المذبحة بوصفه أساسًا معياريًا تُقاس من خلاله درجةُ الانحراف والحيود عن «التسامح الغربي» ونهج «التعددية الثقافية» الذي تتيحه الديمقراطية الليبرالية، خصوصًا من قبل اليسار الأوروبي الذي نزع نحو استخدام المذبحة كموطئ تعريفٍ للنسخة العلمانية من أوروبا بالتضاد. إذ إن اختزال المذبحة في تعبيرها حصرًا عن «اليمين القومي» يطرح بدوره نقاءً موازيًا لأوروبا العلمانية، على الرغم من أن الدولة العلمانية لطالما استخدمت هويتها مُنطلقًا لإقصاء المسلمين، بحجة أنه تعذر عليهم الاندماجُ في بيئةٍ تحمل هويةً مخالفةً لهوياتهم؛ الأمر الذي يحجب جميع السياسات العنفية والإقصائية التي بنَتْ تلك النسخة العلمانية من أوروبا، سواءً إزاء المهاجرين والمغايرين على أراضيها، أو باتجاه الشعوب الجنوبية التي قُتلت ونُهبت باسم التحرر من الطغيان المحلي.
من ناحية أخرى، فإن تصوير القاتل للمذبحة التي ارتكبها، وُظِّف في تكوين مقولة الوصمة الذاتية، إذ يتيح الفيديو بذاته بعضًا من الراحة لدى كثيرين بموضعة ما حصل ضمن «جنونٍ عاتٍ»، على نحوٍ تصبح فيه الصورة معيارَ «الجنون»، المنفصل عن الفعل ذاته أو خلفيته ومرجعياته. فحينما تقول رئيسة وزراء نيوزيلندا: «إنه مجرمٌ، متطرفٌ، إرهابيٌ. لا أريد أن أذكر اسمه»، فإن الفيديو يسهل عليها مهمة التبرؤ من الجريمة وعزل ثقافتها عنها.
فيما تلقى كثيرٌ من العرب والمسلمين فيديو المذبحة كمبعثٍ لجلد الذات والانشقاق عنها، على نحوٍ يستبطن «التطرف الإسلامي» كماهية ثابتةٍ، من الضروري أن تحتل موقعيةً سابقةً على أي «تطرفٍ مسيحيٍ أبيض» وتكون مَنشأً له، مما يجعل من القاتل الأسترالي محض ضحيٍة لذاك «التطرف» الذي استهدف «أرضه»، والذي بدوره يتحمل مسؤولية إنتاج ضحايا الضحية بنهاية المطاف. يمكننا الادعاء أن فيديو المذبحة، بتأسيسه ما صُور على أنه لحظة عنف شاذة عن نَسَقِها الثقافي والأيديولوجي، خلق لدى هؤلاء من العرب والمسلمين انصياعًا لتاريخٍ كاملٍ من الطي والنسيان نظمته المنظومة الغربية إزاء ضحاياها التاريخيين، التي لطالما أشاحت بنظرها عنهم.
ثمة فئةٌ أخرى تعاطت مع الفيديو بكونه برهانًا على «إرهابٍ مسيحيٍ» بإمكانه أن يعمل كنظيرٍ لـ«إرهابٍ إسلاميٍ»، وكأنه قد انبثق أخيرًا ما يمكن أن يعد دليلًا صارخًا على «إرهابٍ» نستجدي من خلاله نزعةَ مساواةٍ بين «الإرهابَيْن»، في انصياع لكل الأطر السياسية والفكرية الغربية التي صاغت «نظرية الإرهاب»، وتعاطت معها كمجهرٍ يُفسَر من خلاله الإسلام والمسلمون كـ«ظاهرةٍ إرهابيةٍ»، وبالتالي تُحدد هذه الفئة رؤيتَها لذاتها من خلال المرآة نفسها التي تبث التصورات البيضاء حول المسلمين.
الاعتذار طريقًا للنسيان المنظم
إعلانُ الأسف والاعتذار الذي صدر عن غالبية الدول الغربية عمل على خلق مسافة شاسعة بين تلك الدول وبين الفرد القاتل. بيْد أن الأسف هنا يخدم ضمان الصورة «النقية» لهذا الغرب أمام نفسه، وليس مرتبطًا بالدرجة الأولى بالضحية ولا بمستقبل ضحايا «سياسات الهوية» و«المركزية الغربية» المُحتملين. فهذا النوع من الأسف لا ينطلق من التطلع لمستقبلٍ يشكله ما تسميه نانسي فريزر التصحيح المؤسسي المُغير الذي يعمل على خلخلة الإطار الأساسي،[7] بل إنه يحول المذبحة إلى ماضٍ يحقق الاعتذارُ عنها مسافةً منها وابتعادًا عنها. ففي الوقت الذي يُصوَر فيه الاعتذار، إجمالًا، أقصى أشكال الاعتراف بألم الضحايا- مع ضرورة الإشارة إلى أن «أضعف الإيمان» هذا غالبًا لم يتحقق باتجاه ضحايا الاستعمار والاستيطان الغربيَيْن- فإنه يرتبط أساسًا بالسعي نحو تمويه الذنب لدى الجاني والتطهُر منه، وتحويل اللامُغتفر إلى أمرٍ مغفورٍ يمكن تجاوزه، لتبقى الضحية بالمقابل تحمل وحيدةً آثار وذاكرة العنف والإقصاء التي تشكل حاضرها.
يجعلنا هذا نستحضر ما قاله بول ريكور يومًا بخصوص العفو والصفح: «إن العفو هو نسيانٌ منظمٌ، فقدانُ ذاكرةٍ مستهجنٌ (…) العالم الذاتي هو عالم الصفح، والعالم الجماهيري هو عالم العدالة (…) إن الصفح نفسه يجب أن يظل مرتبطًا بالفرد الذي تعرض للأذى والظلم، وذلك على عكس مؤسسة العفو المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمد والجزر الحاليَيْن للاحتفالات السياسية العلنية للاعتذار والندم».[8]
في هذا الإطار، فإن تأمين أماكن الصلاة للمسلمين، وتقديم الأوروبيات تضامنًا رمزيًا بارتدائهن الحجاب في الجنازة الرسمية التي أُقيمت للضحايا (بمعزل عن كونهما بادرة حسنة النية) يشكلان ما تسميه فريزر «تصحيحًا محافظًا»[9] لبعض النتائج غير العادلة دون خلخلة الإطار الأساسي، وهو ما لا يمكنه بأي حالٍ من الأحوال منع نفاذ العنف تجاه الهويات المُغايرة إلى فضاءاتٍ أخرى غير مكانية. في المقابل، كانت تأدية قبائل الماوري -السكان الأصليين في نيوزيلندا- أدائية «الهاكا»، مواساةً وتخليدًا لضحايا المجزرة، تعبّر في مجازيتها عن لغةٍ مشتركةٍ توحد ضحايا العنف ذاته، وإنْ بمرجعياتٍ وذرائعَ مختلفةٍ. إنها لغةٌ جاءت تتحدى النسيان المنظم الذي أُريد لها، وأدائيةٌ ظهرت وسط ادعاءات «أصلنةٍ» متكررةٍ للقاتل المُتحدر من أستراليا الاستيطانية الإحلالية، لتكون بالمقابل هذه الأدائية إعلانًا عن أن «الأصلنة» الحقيقية التي اسُتحوذ عليها لا تحول المسلم إلى غريبٍ غازٍ؛ إنما تحتضنه وتعترف به على أرضها.
إن هؤلاء الماوري حُوِل وجودهم إلى نكرانٍ، وألمهم التاريخي إلى ذاكرةٍ مفقودةٍ لدى المستوطنين البيض، ما مكّن القاتل الأسترالي من مراكمة هويةٍ مصنوعةٍ من خليط «الأولانية» المُدعاة وقناعة الفوقية العرقية. بذلك، حملت هذه الأدائية، من جهةٍ، اعتراضًا على مسارات تطبيع العنف لإباداتٍ وإقصاءاتٍ وحالاتِ عبوديةٍ تاريخيةٍ، ومن جهةٍ أخرى، اعتراضًا على جميع أطروحات «سياسات الهوية» ومحاولتها إفناءَ الهويات المُغايرة، تحقيقًا للنقاء المنشود؛ عبر الإعلان بأن قتلنا ونزعنا عن أراضينا منذ سنين طويلةٍ لم يحولا دون بقائنا وتراثنا؛ «بقاءٌ» ينظر إلى المستقبل، متجاوزًا الثمن الذي ستدفعه الضحايا.
-
الهوامش
[1] Hannoum, Abdelmajid. «Archiving Algeria: Power, Violence and Secrecy» within «Sources and Methods in Histories of Colonialism», By Kirsty Reid and Fiona Paisley, London and New York: Routledge, PP 77- 79.
[2] Malissa Adams-Campbell, Ashley Glassburn Falzetti, Courtney Rivard. 2015, «Introduction: Indigeneity and the Work of Settler Archives», Settler Colonial Studies, Vol 5,No 2, PP 109- 116.
[3] أغامبين، جورجيو. 2015، «حالة الاستثناء- الإنسان الحرام»، ترجمة: ناصر إسماعيل، مدارات للأبحاث والنشر.
[4] Sliwinski, Sharon. 2009, «On Photographic Violence», Photography and Culture Journal, Vol (2), Issue (3), PP 303- 316.
[5] Ibid, PP 303- 316.
[6] Ibid, PP 300- 316.
[7] فريزر، نانسي. 2004، «من التقسيم للاعتراف؟ معضلات العدل في زمن «ما بعد الاشتراكيّة»- مُقتبس لدى: عميت، غيش. 2016، «بطاقة ملكيّة: تاريخٌ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة»، ترجمة: علاء حليحل، عمّان: الأهليّة للنشر والتوزيع، رام الله: مدار.
[8] Ricoeur, Paul. 2004, «Memory, History, Forgetting», Trans. Kathleen Blamey and David Pellauer, Chicago and London: University of Chicago Press, PP 425- 426.
[9] فريزر، ناسي. مرجع سابق.