إجهاض الديمقراطية الأردنية: من هبة نيسان إلى حراك 2011 نحو الملكية المطلقة

متظاهرون يحتجون على قرار رفع أسعار المحروقات في اليوم الأول من هبّة تشرين، 13-11-2012. تصوير محمد حامد، لوكالة رويترز، عن النيويورك تايمز

إجهاض الديمقراطية الأردنية: من هبة نيسان إلى حراك 2011 نحو الملكية المطلقة

الإثنين 17 نيسان 2017

كنت قد تطرقت في الجزء الأول من هذا المقال إلى دور الحركة الوطنية الأردنية الناشئة في عشرينيات القرن الماضي في التأسيس للمسار الديمقراطي الأول، ودور السلطة الحاكمة في قطع ذلك المسار بالانقلاب على الحكومة البرلمانية الأولى التي شكلها سليمان النابلسي في الخمسينيات.

وفي هذا الجزء، سوف أتطرق إلى مسارين ديمقراطيين آخرين؛ مسار «عودة الديمقراطية» إثر هبة نيسان عام 1989، والأثر الكبير الذي تركته معاهدة وادي عربة على هذا المسار، بالإضافة إلى المسار الديمقراطي الثالث الذي أطلقه حراك 2011 وأجهضته التعديلات الدستورية الأخيرة التي وسّعت من صلاحيات الملك على حساب السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وكما أسلفت في الجزء الأول، فإن السُلطة أُجبرت في المنعطفات التاريخية الثلاثة على تقديم تنازلات سياسية على إثر حراكات اجتماعية-سياسية أدت إلى فتح الطريق لمسارات ديمقراطية كان من الممكن البناء عليها لو لم تنقلب السلطة نفسها عليها وتقطع الطريق أمامها. وقد تساعدنا هذه القراءة في أن نبرهن على أن السلطة، التي لطالما تمسكت بفكرة استعمارية مفادها أن «لا ديمقراطية دون نضوج ديمقراطي»، هي المعطل الأول لأي «نضوج ديمقراطي»، والعائق الأكبر تجاه التحول الوطني الديمقراطي الذي ناضل الأردنيون والأردنيات من أجله منذ عشرينيات القرن الماضي.

انتفاضة نيسان والمسار الديمقراطي الثاني

احتاج الأردنيون أكثر من ثلاثة عقود من أجل استعادة الحياة السياسية التي اختطفتها السلطة الحاكمة منذ الإطاحة بحكومة سليمان النابلسي عام 1957. هذه الاستعادة تمثلت في فتح هبّة نيسان 1989 لمسار جديد، حين انتفض الفقراء والمهمشون ردًا على السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومة زيد الرفاعي آنذاك لمواجهة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تراجع أسعار النفط عالميًا.

في ذلك العام، أعلنت حكومة الرفاعي زيادة أسعار مجموعة من المواد الغذائية والسلع الأساسية، ومن ضمنها المحروقات، لمعالجة العجز في الموازنة من خلال زيادة واردات الخزينة وضبط النفقات. انطلقت شرارة الهبة الرافضة لهذه الإجراءات من معان، في مثل هذه الأيام من عام 1989، حين امتنع سائقو سيارات الخط الخارجي من التحرك نحو عمان احتجاجًا على ثبات الأجرة، ونظموا لاحقًا مظاهرة حاشدة انضم إليها الأهالي وطلاب المدارس، بحسب مجلة الأردن الجديد.

لم تكن انتفاضة نيسان «مجرد صرخة مفقرين محتجين على سياسيات اقتصادية مجحفة» على حد تعبير ناهض حتر بل «انتفاضة مجتمع يريد بلورة شخصيته وكيانه وتنظيم دولة ديمقراطية». إثر الهبة، أُجبرت السلطة على تقديم مجموعة ضخمة من التنازلات ساهمت بشكل مباشر بإعادة الحياة السياسية للبلاد بعد أن توقفت لأكثر من ثلاث عقود. إذ تم تعديل قانون الانتخاب، وجرت انتخابات مجلس النواب بشكل وصفته قوى المعارضة بالنزيه، وأنتجت هذه الانتخابات مجلس نواب قوي يتكون من ثلاث كتل رئيسية فاعلة؛ كتلة الإخوان المسلمين، كتلة القوميين واليساريين، وكتلة المستقلين.

مع عودة البرلمان، افتتح عهد سياسي جديد، وبدأت الأحزاب تنشط بين الناس وتشكل برامجها السياسية، وبدأت تظهر شواهد لعلاقة مركبة وندّية بين الحكومة ومجلس النواب. ونستطيع لمس ذلك من الطريقة التي كانت تشكل فيها الحكومات، والقرارات التي كانت تناقش، والقوانين التي سنّها البرلمان في حينه. فقد أجرى الرئيس المكلف، مضر بدران، اتصالاتٍ مع الكتل البرلمانية لاختيار مرشحيها للوزارة، ووضع مجموعة من القواعد لتأليف حكومته، أهمها ألا يدخل الوزارة مرشح لم ينجح في الانتخابات. وتضمن بيان حكومته النقاط الرئيسية التالية: تجميد العمل بالأحكام العرفية إلى حين إلغائها بالشكل الدستوري في أقرب وقت، واتخاذ الإجراءات اللازمة لصياغة ميثاق وطني أردني، وإلغاء النصوص القانونية التي تحصّن القرارات الإدارية من الطعن فيها لدى القضاء، وإعادة النظر في قانون المطبوعات والنشر، وإنشاء جهاز للرقابة والتفتيش الإداري، وتقديم تشريع لمكافحة الجريمة الاقتصادية، وتقديم تشريع آخر يُلزم كل من يتولى المسؤولية السياسية والإدارية العليا بإقرار شامل وموثق لكل ما يملكه هو وزوجته وأبناؤه من أموال منقولة وغير منقولة.

وأصدرت حكومة بدران مجموعة من القرارات الفارقة، كإعادة جوازات السفر المحجوزة لأصحابها، والعمل على الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى أعمالهم، واعتبار القرارات الصادرة بمنع أي مواطن أردني من السفر لاغية، وإلغاء قرار الحاكم العسكري بحل رابطة الكتاب الأردنيين، وإلغاء قانون مقاومة الشيوعية، والتوقف عن العمل ببلاغ رئاسة الوزراء رقم 66 عام 1965 الذي كان يقضي بوجوب الاستئناس برأي دائرة المخابرات العامة عند تعيين الموظفين والمستخدمين لدى الأجهزة الحكومية المختلفة.

التزمت حكومة طاهر المصري، التي شُكلت في حزيران 1990، بمسار التحول الديمقراطي الذي سارت عليه حكومة مضر بدران التي سبقتها، لكن هذا المسار رافق مسارًا آخر، هو مسار السلام مع «إسرائيل». وعلى مدى السنوات اللاحقة، ستثبت التجربة الأردنية أن هذين المسارين لا يمكن أن يلتقيا، بل سيقطع أحدهما الطريق على الأخر.

رسّخ البرلمان سلطته في عهد حكومة المصري، وصاغت الكتل البرلمانية برامجها بشكل أوضح، واتُخذت مجموعة من القرارات التي إن دلّت على شيء فهو مدى قوة البرلمان والتزام جميع الأطراف بالمسار الديمقراطي. وكان من أهم تلك القرارات إلغاء تعليمات الإدارة العرفية الصادرة بمقتضى الفقرة 2 من المادة 125 من الدستور وما طرأ عليها من تعديلات، وتعديل قانون محكمة أمن الدولة بحيث لا تكون أحكامها قطعية، وأن تخضع للاستئناف والتمييز، وأن تصبح محكمة موضوع (أي تبحث في الوقائع والأدلة)، وأن تضم قضاة مدنيين بالإضافة إلى القضاة العسكريين. آنذاك، رفض الملك حسين المصادقة على هذا القانون وردّه لمجلس النواب الذي رفض بدوره أي تنازل فيما يتعلق بالتعديلات المقترحة، ليصدر القانون أخيرًا كما أراده مجلس النواب.

بالتالي، عاد النقاش السياسي إلى مكانه الطبيعي في الحيز العام بعد أن كان لفترة طويلة حبيس الغرف المغلقة، وترافق هذا مع انفراج كبير على مستوى حرية الصحافة. يقول المؤرخ الأردني علي محافظة أن أفق التعبير عن الرأي فُتح في فترة حكومة المصري بشكل غير مسبوق، وأخذت الصحف تعبر عن وجهات نظر لم ترضِ الديوان الملكي ودائرة المخابرات العامة. وعلى إثر ذلك، تلقى رئيس الحكومة ضغوطًا من هذه الجهات لكبت الحرية الصحفية، غير أنه تمكن، بحسب علي محافظة في كتابه «الديمقراطية المقيدة»، من الدفاع عن حق الصحفيين في التعبير عن آرائهم بحرية، ولم يتم توقيف صدور أي صحيفة أو اعتقال أي صحفي في تلك الفترة.

في الوقت ذاته، بدأت الحياة الحزبية تأخذ شكلًا أوضح، وساهمت ممارسة الأحزاب للعمل السياسي داخل البرلمان من جهة، وفي الشارع من جهة أخرى، في تشكيل خارطة حزبية تقوم على فكرة لكل حزب قاعدته الاجتماعية التي يمثلها سياسيًا داخل البرلمان، أو من خلال البرامج التي يطرحها الحزب بناء على واقع هذه الفئات الاجتماعية.

كيف قطعت وادي عربة الطريق على هذا المسار؟

في تلك الأثناء، أعلن الملك حسين رغبة الأردن المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، مكرّسًا مسار السلام مع «إسرائيل». وانعكس ذلك بشكل مباشر على مسار التحول الديمقراطي الناشئ، وبدأت البلاد تشهد تصادمًا بين مسارين كانا يسيران سويًا، أدركت السلطة السياسية أنهما لا يمكن لهما أن يلتقيا، وبدأنا نلاحظ كيف أنه عندما يتعارض مسار التحول الديمقراطي مع مسار التطبيع مع «إسرائيل»، فإن السلطة السياسية ستختار الثاني على حساب الأول دومًا.

عارض بعض الوزراء مشاركة الأردن في هذا المؤتمر، مما اضطر المصري إلى إجراء تعديل وزاري على حكومته. اشتدت الأزمة بين الحكومة ومجلس النواب إثر رغبة النظام في المشاركة في المؤتمر، وخلال إجازة المجلس النيابي وقّع خمسون نائبًا عريضة لسحب الثقة من حكومة المصري، حيث وقع عليها رئيس المجلس عبد اللطيف عربيات، وكل من نواب كتلة الحركة الإسلامية والكتلة الدستورية وكتلة التجمع القومي. ولم يرغب الملك في حينه بحل مجلس النواب، فكان الحل الأمثل هو تقديم الحكومة استقالتها وتكليف الشريف زيد بن شاكر بتأليف حكومة جديدة في تشرين الثاني عام 1991.

عندما يتعارض مسار التحول الديمقراطي مع مسار التطبيع مع «إسرائيل»، فإن السلطة السياسية ستختار الثاني على حساب الأول دومًا.

تشكيل الحكومة الجديدة لم ينهِ الأزمة بين البرلمان والحكومة، وبدأنا نلحظ أكثر فأكثر تأثير مسار السلام على مسار التحول الديمقراطي. نستطيع أن نلمس هذا التأثير في السنوات اللاحقة من خلال تتبع المحاولات الحكومية التي سعت إلى الالتفاف على مكتسبات المسار الديمقراطي من خلال فرض بعض القوانين أو تعديلها. فمن الأمثلة على ذلك تعديل قانون المطبوعات والنشر عام 1993 الذي فرض مجموعة من القيود، كردة فعل على مهاجمة العديد من الصحفيين لمسار التسوية، حيث ربط القانون ممارسة مهنة الصحافة بالتسجيل بنقابة الصحفيين، ووسّع من صلاحيات مدير المطبوعات والنشر، مما شكّل تقييدًا لحرية الصحافة.

يشير المؤرخ علي محافظة إلى أن الملك حسين شعر بأنه من الصعب تمرير معاهدة السلام المرتقبة مع «إسرائيل» عن طريق هذا البرلمان، وأن الحل الأمثل لتمرير المعاهدة دون أي متاعب هو تشكيل حكومة جديدة ومجلس نواب طيّع، أي، باختصار، العمل على قطع الطريق على المسار الديمقراطي والذهاب في البلاد إلى سلام شامل مع «إسرائيل». ولهذه المهمة، وقع اختياره على عبد السلام المجالي في أيار 1993، رئيس الوفد الأردني للمفاوضات الثنائية الأردنية-الإسرائيلية، لتشكيل حكومة جديدة (وبالمناسبة الكثير من رجالات عملية السلام مع «إسرائيل» شغلوا لاحقا مناصب عليا في الدولة). ولضمان انتخاب مجلس طيع تمّ وضع قانون انتخاب جديد، كقانون مؤقت صدر عن حكومة المجالي وصادق عليه الملك أثناء غياب البرلمان.

لاقى قانون الانتخاب الجديد، الذي أطلق عليه اسم «قانون الصوت الواحد»، معارضة شديدة. وطلبت المعارضة السياسية من الملك حسين عقد دورة استثنائية لمجلس الأمة للنظر في قانون الانتخاب الجديد، فما كان من الملك إلا أن حل البرلمان للحيلولة دون عقد دورة استثنائية له، وحدد موعدًا للانتخابات البرلمانية المقبلة على أساس القانون المثير للاعتراض. وذكّر في خطابه الذي ألقاه يوم صدور القانون بأحداث 1957، وحظر النشاط الحزبي، وتوقف العمل السياسي، والدخول في مرحلة الأحكام العرفية، كرسالة موجهة للمعارضة.

عقدت انتخابات عام 1993 على أساس قانون الصوت الواحد. وإذا كان الهدف من تشكيل المجلس التشريعي الأول عام 1929 هو المصادقة على المعاهدة الأردنية-البريطانية، فإن الهدف من تشكيل البرلمان الثاني عشر عام 1993 هو المصادقة على معاهدة وادي عربة.

انعكس هذا الانقلاب انعكاسًا مباشرًا على طبيعة النسق السياسي في البلاد حتى يومنا هذا، حيث كان لمعاهدة السلام مع «إسرائيل» أثر كبير على مجمل الحياة السياسية وطبيعة النظام الحاكم، حيث شهدت تلك الفترة تحول النظام السياسي شيئًا فشيئًا إلى ما يمكن تسميته بنظام سلطوقراطي، أي نظام سلطوي يجيد استخدام الخطاب والمؤسسات «الديمقراطية» كأدوات ضبط تستخدم من أجل أن يبدو ظاهر الأشياء وكأنه جوهرها من جانب، ومن أجل خدمة السلطة وأهدافها من جانب آخر، أو كما يقول المفكر الكويتي خلدون النقيب «سلطوي بوجه ديمقراطي».

سيطرت السلطة على المؤسسات الناشئة على أثر المسار الديمقراطي لهبّة نيسان وأعادت إنتاجها على مقاس وادي عربة، وبدأت شيئًا فشيئًا تستبدل خطاب «المؤامرة» الذي ساد لعقود بخطاب «الديمقراطية» -دون أن تتخلى عن الأول بالمطلق- من أجل تبرير وشرعنة معاهدة السلام. حيث كثيرًا ما أشار الملك حسين في خطبه إلى شرعية المعاهدة بكونها نتاج لعملية «ديمقراطية» و«إجماع شعبي» وأكد في إحدى خطبه على «إن على الأقلية المعارضة أن تحترم رأي الأكثرية المؤيدة للسلام (…) ومن يحترم الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي لا يحق له محاولة التقليل من شأن الأغلبية»، حسبما ينقل علي محافظة. لكن الأغلبية والأقلية في هذا البرلمان لم تتشكلا في إطار ديمقراطي نتفق فيه على مبادئ رئيسية تخاض الانتخابات تحتها، بل تمت صناعتهما من خلال قانون انتخاب أطاح بمسار ديمقراطي ناشئ قبل أن يقطع الطريق على وادي عربة. وكثيرًا ما تمت الإشارة إلى «الشعب» للهدف نفسه، أي شرعنة المعاهدة بكونها نتاج لعملية ديمقراطية، حيث قال الملك حسين في الخطبة نفسها «إن شعبنا مقتنع بالخط الذي سلكناه أكثر من المتقوقعين المستمرين بارتباطاتهم الخارجية»، لكن الأردنيين كانوا يسمون السلام مع «إسرائيل» «سلام الملك»، حسبما يروي علي محافظة يؤكد في كتابه «الديمقراطية المقيدة».

إن الآثار التي تركتها معاهدة وادي عربة على الحياة السياسية في الأردن لا يمكن تلخيصها وحصرها في مقال واحد، ابتداء من الأثر الذي تركته المعاهدة على عدد كبير من القوانين، كقانون المطبوعات والنشر، وقانون الاجتماعات العامة، مرورًا بالأثر الكبير الذي تركه قانون الصوت الواحد، أو «قانون وادي عربة»، على تركيبة المجتمع وشكل العلاقات الاجتماعية من جانب، ومؤسسة البرلمان بشكل عام والعمل البرلماني بشكل خاص من جانب آخر، وصولًا إلى الأثر الذي تركته المعاهدة على العمل الحزبي والنقابي، تحديدا أن هذه الأحزاب الناشئة حديثًا، اضطرت إلى التركيز على مواجهة التطبيع مع «إسرائيل» ومعارضة المعاهدة، بدلًا من العمل على بناء قواعدها الاجتماعية وإشراكها في العمل السياسي. وحدث الشيء نفسه في النقابات، فالعمل السري الذي فُرض بعد الانقلاب على حكومة النابلسي، غيّر الهدفَ الرئيسي من وجود النقابات، لتصبح المساحة الوحيدة المتاحة للعمل السياسي البحت، نتيجةً لمصادرة السلطة السياسية للمساحات السياسية الأخرى وأهمها العمل الحزبي والبرلمان، وهو ما حدث بصورة شبيهة بعد معاهدة وادي عربة.

حراك 2011 والمسار الديمقراطي الثالث

جاء حراك 2011 كحالة رفض شعبية لحالة ممتدة منذ اعتلاء الملك عبد الله العرش، تبنى الأردن فيها، وبحماسة شديدة، ما سمي بـ «سياسة الانفتاح والتحديث الاقتصادي» استجابةً لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين. ويشير ناهض حتر في كتابه «الليبرالية الجديدة في مواجهة الديمقراطية» إلى أن سياسة الانفتاح الاقتصادي هذه ترافق معها، منذ حكومة علي أبو الراغب عام 2000، انغلاق سياسي كشرط أساسي وضروري لتحقيق البرنامج الاقتصادي القائم على الخصخصة الشاملة لمؤسسات القطاع العام وتخلي الدولة شيئًا فشيئًا عن دورها الاجتماعي والاقتصادي وتحولها إلى «هيئة سكرتاريا للأقلية الرأسمالية»، على حد قول الكاتب.

إن المراقب للواقع السياسي في البلاد منذ اعتلاء الملك عبد الله العرش وحتى حراك 2011 يلاحظ أن النظام السياسي تجاهل تقديم أي تنازلات سياسية تأخذ شكل إصلاحات، على عكس توقعات البعض الذين استبشروا خيرًا بقدوم الملك عبد الله كشاب حداثي ليبرالي. ويعزو ناهض حتر هذا التجاهل إلى طبيعة السياسة النيوليبرالية التي تبناها النظام السياسي، مؤكدًا أنه كان من الصعب تمرير تدهور مستوى المعيشة والخدمات التعليمية والصحية وزيادة الفقر والبطالة وتفكك أركان المجتمع المصاحبة لهذه السياسة إلا باستمرار النهج القائم على الالتفاف على المؤسسات الديمقراطية. إذ أن أسطورة عدم «تدخل» الدولة في العملية الاقتصادية يرافقها تدخل كبير يصل إلى حد الهيمنة على مجمل العملية السياسية، وسيطرة مطلقة على كل المؤسسات التي قد تعيق عملية تراكم الأرباح الناتجة عن السياسة النيوليبرالية لمصلحة نخبة مكونة من رجال أعمال جدد مرتبطين عضويًا برجالات الدولة المتنفذين، الذين يشكلون سويًا ما أصبح يعرف بـ«رأسمالية المحاسيب».

لهذا، تمسكت السلطة السياسية في عهد الملك الشاب بقانون «الصوت الواحد» من جهة، وآلية تشكيل الحكومات من جهة أخرى، وتم تعطيل الحياة البرلمانية لمدة عامين في عهد حكومة علي أبو الراغب. بالإضافة إلى ذلك، أكد 87% من الأردنيين إن برلمان 2003 -أول برلمان في عهد الملك عبد الله- لم يحقق أي إنجاز جدير بالثناء. أمّا الانتخابات النيابية الثانية في عهد الملك عبد الله، عام 2007، فقد شهدت «عمليات تزوير واسعة» على حد تعبير الصحفي فهد الخيطان، وشكك الكثيرون بنزاهة انتخابات 2010، مما أدى إلى تراجع ثقة الناس بمؤسسة البرلمان بشكل غير مسبوق. ويعزو المحامي عمر العطعوط ذلك إلى «العبث الممنهج بالمؤسسة البرلمانية سواء من خلال قانون الصوت المجزوء والدوائر الوهمية أو تزوير الانتخابات والتدخل في عمل البرلمان».

التنازل الأكبر الذي قدمته السلطة السياسية هو التسليم بضرورة نقل الحديث عن صلاحيات الملك من كونه موضوعًا أمنيًا إلى التعاطي معه بصفته موضوعًا سياسيًا يناقش باعتباره حجر الزواية في إصلاح النظام السياسي.

من جانب آخر، جاء قانون الاجتماعات العامة لعام 2001، الذي يمنع الاجتماعات والتجمعات العامة من دون إذن من الحاكم الإداري، ليضع قيودًا واضحة على الحريات العامة. كما زادت القبضة الأمنية على الجامعات، ووضعت الحريات الصحفية والإعلامية تحت رحمة «الخطوط الحمراء» التي تتسع وتضيق حسب المرحلة السياسية، بالإضافة إلى تزايد كبير لنفوذ «مؤسسات الظل» تحديدًا مؤسسة الديوان الملكي.

وسط كل ذلك، فتح حراك 2011 مسارًا ديمقراطيًا ثالثًا، بعد أن بلورت الأحزاب والقوى السياسية مطالب الحراك الشعبي على صيغة مطالبات سياسية تهدف إلى تغيير الكيفية التي تدار بها الدولة الأردنية. إذ طالبت هذه القوى المختلفة بإجراء تعديلات دستورية وسياسية في بنية نظام الحكم تقود إلى تشكيل حكومات برلمانية، من خلال تعديل قانون الانتخاب وإعادة السلطة لمؤسسة البرلمان، بالإضافة إلى رفع يد الأجهزة الأمنية عن الحياة السياسية، وإطلاق الحريات المدنية والسياسية، ومحاربة الفساد وتقديم الفاسدين للمحاكمة.  

اضطرت السلطة، مجبرةً، لتقديم مجموعة من التنازلات والاعتراف بضرورة الإصلاح السياسي التي لطالما تجاهلتها طويلًا. فتم تشكيل لجنة الحوار الوطني في آذار 2011 على إثر الحراك في الشارع، وحققت مجموعة من القطاعات العمالية انتصارات جزئية متعلقة بحراكها المطلبي، وانتزع المعلمون الحق في تأسيس نقابتهم، بعد أن ناضلوا من أجله لعشرات السنوات. وفيما يتعلق بشكل النظام السياسي، أقر البرلمان في أيلول 2011 تعديل أكثر من 40 مادة في الدستور، وكان ذلك أول تعديل يجري على الدستور منذ عام 1984 وأوسع تعديل دستوري في تاريخ المملكة.

طالت هذه التعديلات بنودًا سياسيةً مهمةً، منها جواز مقاضاة الوزراء وفقًا للقانون المدني، ومثولهم أمام النيابة العامة بدلًا من المجلس العالي لتفسير الدستور. وأقرت هذه التعديلات توسيع هامش الحريات الشخصية والسياسية، وأقرت إجراءات لمنع التجاوزات الأمنية سواء فيما يتعلق بالتوقيف دون محاكمة، أو الاعتقال دون توجيه تهمة، أو الحصول على الاعترافات تحت وطأة الإكراه والتعذيب. كما تم إنشاء الهيئة المستقلّة للانتخاب والمحكمة الدستورية.

باعتقادي، كان التنازل الأكبر الذي قدمته السلطة السياسية هو التسليم بضرورة نقل الحديث عن صلاحيات الملك من كونه موضوعًا أمنيًا إلى التعاطي معه بصفته موضوعًا سياسيًا يناقش باعتباره حجر الزواية في إصلاح النظام السياسي، والتأسيس لنظام ديمقراطي يقوم على فكرة الحكومات البرلمانية، وهذا ما كان ليحدث دون الحراك الشعبي الذي رفع سقف النقاش السياسي إلى هذا الحد، وربط محاربة الفساد بالتأسيس لمؤسسات ديمقراطية تمثيلية قادرة على محاسبة الفاسدين، وتوسيع رقعة التمثيل السياسي من خلال تقليص صلاحيات الملك، تحديدًا فيما يتعلق بتعيين رئيس الحكومة.

في النصف الثاني من عام 2012، اتخذ النظام عدة خطوات تقييدية، منها اعتقال عدد من الناشطين الذين وُجهت إليهم تهم إطالة اللسان وتقويض نظام الحكم، وتعديل قانون المطبوعات والنشر ليفرض قيود جديدة على الإعلام الإلكتروني. وبعد «هبّة تشرين» في العام ذاته، التي لم تستطع إجبار حكومة عبد الله النسور على التراجع عن قرار رفع أسعار المحروقات، ومع تطور الأحداث السياسية في المنطقة، تحديدًا في سوريا، استطاعت السلطة السياسية أن تحدّ من تأثير الحراك في الشارع. وشعرت السلطة حينذاك بارتياح جراء تراجع الضغط الشعبي المُطالِب بالإصلاح، لذا تمكنت من عقد انتخابات نيابية أفرزت مجلس النواب السابع عشر، رغم مقاطعة العديد من قوى المعارضة، من بينها الحركة الإسلامية، على أساس قانون انتخاب جديد لم يرتقِ إلى مطالب لجنة الحوار الوطني، وإن كان قد تضمن قائمة نسبية على مستوى المملكة.

شككت الأحزاب والقوى السياسية المعارضة مرارًا بجدية مسار الإصلاح، وتمسكت الأطراف القريبة من السلطة بسردية أن النظام ماضٍ قدمًا في الإصلاح الذي يقوده الملك شخصيًا. وتطرق الملك مرارًا في خطابات العرش والأوراق النقاشية (التي بدأ نشرها نهاية عام 2012) إلى فكرة الحكومة البرلمانية كهدف نهائي للإصلاح، يسعى للوصول إليه تدريجيًا باعتباره أحد أهم «جوانب التطور الديمقراطي»، على حد تعبيره. وأكد الملك في مقابلة أجراها مع صحيفتي الرأي والجوردن تايمز على آلية التشاور على شخص رئيس الوزراء مع مجلس النواب، باعتبارها الخطوة الأولى على طريق الحكومة البرلمانية. وشهد مجلس النواب السابع عشر مشاورات من أجل اختيار رئيس الحكومة اعتبرها البعض دليلًا على جدية النظام السياسي في التوجه نحو الحكومات البرلمانية.

التعديلات الدستورية والتحول إلى الملكية المطلقة

في الوقت الذي كان فيه الكلام عن الملكية البرلمانية يهدف للتأكيد على الولاية العامة للحكومة وإعادة الاعتبار إلى مؤسسة البرلمان، أتت التعديلات الدستورية، التي أُدخلت على دفعتين عامَي 2014 و2016 لتوسع من صلاحيات الملك على حساب مجلس الوزراء. حيث عُدل الدستور لكي يعطي الملك الحق في ممارسة صلاحياته منفردًا، دون الحاجة إلى توقيع رئيس الوزراء أو الوزراء المختصين، في تعيين ولي العهد ونائب الملك ورئيس وأعضاء مجلس الأعيان ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية ورئيس المجلس القضائي ومدير الدرك، بالإضافة إلى التعديل السابق الخاص بقائد الجيش ومدير المخابرات العامة.

شكلت هذه التعديلات نقضًا لفكرة الحكومات البرلمانية، وهيمنة مباشرة على مؤسسات تم انتزاع بعضها في سياق إصلاحي، كالمحكمة الدستورية.

يقول سفيان عبيدات، رئيس المنظمة العربية للقانون الدستوري، إنه «من أجل تعزيز صلاحيات الملك، كان لا بد من تقويض اعتبار منصب رئيس الوزراء وفكرة الحكومة البرلمانية التي يرأسها زعيم الأغلبية»، ومع تجريد رئيس الحكومة من صلاحياته التنفيذية واحتكار الملك السياسة الخارجية والأمن والقضايا السيادية، يصبح منصب رئيس الحكومة أقرب ما يكون إلى رئيس بلدية أو عمدة مدينة لا أكثر، بعد أن سُحبت من الحكومة كل صلاحياتها الدستورية فيما يتعلق بالتعيين.

شكلت هذه التعديلات نقضًا لفكرة الحكومات البرلمانية، وهيمنة مباشرة على مؤسسات تم انتزاع بعضها في سياق إصلاحي.

ويرى المحامي عمر العطعوط أن هذا يؤسس لنظام ملكي مطلق تتركز فيه الصلاحيات بيد الملك الذي يمنع الدستور مساءلته، وبهذا «يسقط تلقائيًا مبدأ أن الشعب مصدر السلطات ويتهاوى مبدأ النظام النيابي من أساسه».

المدافعون عن التعديلات الدستورية برروها باعتبارها ضرورة تهدف إلى عدم إخضاع هذه المؤسسات للتجاذبات السياسية التي قد تصدر عن الحكومة البرلمانية المقبلة. كان الملك قد تطرق في أربع خطابات عرش أمام مجلس النواب السابع عشر إلى فكرة الحكومة البرلمانية، وأكد في إحدى مقابلاته على ضرورة «أن نكون منفتحين ومتمسكين بالخيارات التي تضمن وصولنا إلى نهج الحكومات البرلمانية الممثلة، دون التراجع إلى الوراء لأنه لا يوجد ما يقلقنا من استمرار نهج الإصلاح وتعميقه»، بالإضافة إلى التمسك بآلية التشاور مع الكتل البرلمانية في اختيار رئيس الوزراء كطريق إلى الحكومة البرلمانية. لكن خطاب العرش الذي افتتح به مجلس الأمة الثامن عشر جاء ليتجاهل أي ذكر لفكرة الحكومة البرلمانية، ثم تم تشكيل حكومة الملقي الثانية دون أي مشاورات، ليتأكد أن النظام السياسي قد طوى صفحة الإصلاح مجددًا وقطع الطريق أمام مسار ديمقراطي ثالث، وأن التعديلات الدستورية الأخيرة لم يكن الهدف منها الفصل بين السلطات بقدر ما هو تكريس كل السلطات بيد الملك.

خاتمة

ثلاثة أجيال أردنية منذ استقلال البلاد وتأسيس المملكة، كان لكل منها حراكه الاجتماعي والسياسي الذي أجبر السلطة على تقديم تنازلات سياسية كثيرًا ما كان الهدف منها تنفيس احتقان اجتماعي ناجم عن أوضاع اقتصادية، وتطلق هذه التنازلات السياسية مسارًا ديمقراطيًا تقطعه السلطة وتنقلب عليه في أقرب فرصة مواتية. تكتسب السلطة قدرتها على هذه الانقلابات عن طريق عوامل عدة لا مجال هنا لشرحها، لكن لعل من أهمها طبيعة بنية المعارضة وعدم قدرتها على تشكيل الكتلة الاجتماعية القادرة على حماية هذه المكتسبات من خلال تحويل الهموم المطلبية للفئات الاجتماعية إلى مشروع سياسي، تُعنى هذه الفئات بالدفاع عنه.

كلما فتح الحراك الاجتماعي والسياسي طريقًا نحو التحول الديمقراطي أجهضته السلطة السياسية وانقلبت عليه، وما زال رجالات هذه السلطة وكتابها والناطقون باسمها يرددون المقولة الاستعمارية «لا ديمقراطية دون نضوج ديمقراطي» ويتحدثون عن «ثقافة» الناس أحيانًا، و«نضج» الأحزاب السياسية أحيانًا أخرى، كعوامل معطلة للتحول الديمقراطي، متجاهلين حقيقة أن المعطل الرئيسي لأي عملية نضوج ديمقراطي هي السلطة السياسية وطبيعة علاقاتها وارتباطاتها.

لن يخترع الأردن العجلة من جديد، فالتاريخ مليء بتجارب التحولات الديمقراطية نحو أشكال أخرى من الحكم. والقاسم المشترك الواضح بين معظم هذه التجارب -تحديدًا الملكية منها- هو أن الخطوة الأولى لدمقرطة المجتمع ونضوج الأحزاب السياسية هي تقليص نفوذ المؤسسة الملكية واقتسام السلطة بين هذه المؤسسة وبين الحكومة كمرحلة انتقالية يمارس فيها العمل السياسي من خلال تعزيز سلطة البرلمان.

نضوج الأحزاب السياسية ودمقرطة المجتمع مسائل تنمو وتتطور بالممارسة فقط ولا يمكن أن تتحقق من خلال احتكار القصر لإدارة الحياة السياسية. انتظار هذا النضوج يشبه تمامًا أن يقول أحد لغيره «عليك أن تتعلم السباحة دون النزول إلى الماء». لذا، فإن ما يسمى بمسألة «النضوج الديمقراطي» هي في حقيقة الأمر في يد النظام السياسي، لا القوى السياسية والاجتماعية.

ختامًا، في مقابلة أجراها الملك عبد الله على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2010، سأله الصحفي الأمريكي فريد زكريا سؤالًا مباشرًا عن مستقبل الحكم في الأردن وهل سيكون ابنه ملكًا دستوريًا أم لا. حينها أجاب الملك بأن «الأردن اليوم لن يكون هو نفسه أردن الغد». اليوم وبعد سبع سنوات من هذه المقابلة، نستطيع أن نقول إن أردن اليوم أبعد ما يكون عن الملكية الدستورية، وأقرب ما يكون إلى أردن الأمير عبد الله الأول.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية