أجساد ذائبة: شهداء فلسطينيّون يغتالهم الاحتلال مرّتين

الخميس 12 تشرين الثاني 2015

«كيف يريدون أن أصدّق نبأ استشهاده وأنا لم أرَ جثمانه بأم عينيّ ولم يتسنَّ لي تشييعه ودفنه وقراءة الفاتحة على قبره؟».

لم تتوقف رؤوفة خطّاب عن ترديد هذا التساؤل طوال ستة وثلاثين عامًا مرّت على استشهاد ابنها الفدائي عبد الرحمن خطاب أثناء اشتباك مسلّح مع جنود الاحتلال الإسرائيلي قرب مدينة بيسان المحتلة في 15 نيسان/أبريل 1979.

تنتظر السيدة السبعينية الإفراج عن جثمان ابنها المحتجز في «مقابر الأرقام» قبيل كل صفقة تبادل بين المقاومة والاحتلال وتتهيّأ لاستقباله كأنّه ما يزال على قيد الحياة. ذلك ليس لأنها لم تتقبّل استشهاده وهو لم يكمل العشرين من عمره بعد، فابنها كان مقاومًا في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية والإعلان عن استشهاده كان ليفاجئها أقل من عودته إلى البيت حيًّا منذ التحاقه بركب الفدائيين. ولكن لأن الموت هو النهاية (الدنيوية على الأقل)، فهي لا تطالب بأكثر من دليل ملموس على هذه النهاية ورفاتٍ تحتضنها وتواريها الثرى وخاتمةٍ تليق بمن قدّم حياته دفاعًا عن كرامة شعبه وتحرير أرضه.

يعلم أحد الآباء أن رفات ابنه المحتجزة في مقابر الأرقام ليست إلا أشلاء متناثرة لا يمكن التعرّف إليها سوى من خلال الحمض النووي إذ أن ابنه استشهد بعد تفخيخ نفسه، ويعلم والد آخر أنه لم يتبقَّ من جثمان ابنه الذي استشهد في عرض البحر إلا بعض العظام. لكن كليهما يصر على استعادة الأشلاء أو العظام ودفنها في مقبرة العائلة وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة التي حرمهم الاحتلال منها لعقود طويلة. «البكاء على شهيد لم تتمكن من استرداد جثمانه خيانة، والدموع مؤجّلة حتى الإفراج عن الرفات» يقول شقيق أحد الشهداء «المعتقلين» في مقابر الأرقام.

الشهداء يعودون

لم تبارح قضية 268 جثمانًا تحتجزها قوات الاحتلال في مقابر الأرقام تفكير ذويهم ولم تسقط بالتقادم أو مع وفاة جميع الأقرباء الذين عايشوا الشهيد. «حتى لو ظننت أنك انشغلت عن التفكير بابنتك تأتي كل التفاصيل الصغيرة لتلاحقك وتذكّرك بأنك حرمت من تقبيلها وتشييعها ودفنها. تتذكرها بعد كل صلاة عيد يزور فيها الآخرون قبور أبنائهم وأحبتهم أمّا أنت فما من قبر تزوره أو تراب تتلمّسه». يروي محمد الأخرس متذكّرًا اثنتي عشرة سنةً احتُجزت أثناءها أشلاء ابنته الفدائية آيات الأخرس في إحدى مقابر الأرقام السرية بعد تنفيذها عمليةً استشهاديةً في القدس المحتلة إبّان الانتفاضة الثانية.

لا تقل عودة الشهداء الرمزية إلى الحياة من خلال حديثنا عنهم وتذكرنا أسماءهم ونضالهم أهميّة عن عودة جثامينهم إلى ذويهم.

 منذ تأسيسها في 27 آب/أغسطس 2008، لم يقتصر نشاط الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين، والتي انبثقت عن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، على المطالبة باسترداد الجثامين من مقابر الأرقام عبر الوسائل القانونية وقنوات الضغط المتاحة. فقد سعت كذلك بالتعاون مع محمد الأخرس وغيره من ذوي الشهداء إلى تحويل موضوع الشهداء المحتجزة جثامينهم إلى قضية رأي عام، فالملف كما تشير منسقة الحملة والناطقة بلسان مركز القدس للمساعدة القانونية سلوى حمّاد «لا يخص العائلات وحدها بل يخص الشعب الفلسطيني بأسره. الاحتلال إذ يعتقل جثمان شهيد لا ينتقم من الشهيد وعائلته فحسب بل ينتقم من الشعب كله ومن القضيّة التي ضحّى الشهيد بحياته دفاعًا عنها».

لا تقل عودة الشهداء الرمزية إلى الحياة من خلال حديثنا عنهم وتذكرنا أسماءهم ونضالهم أهميّة عن عودة جثامينهم إلى ذويهم، وهذا ما حدا بالحملة الوطنية لنشر كتابين يوثّقان أسماء شهداء «مقابر الأرقام» ويرويان قصصهم وظروف استشهادهم ونضال عائلاتهم لاستعادتهم.

قد يظهر أن هنالك تناقض بين فعل استعادة ذكرى الشهيد وبين استعادة جثمانه، فبينما تهدف الاستعادة الرمزية إلى إحياء الشهيد في أدبياتنا وخطابنا السياسي وموروثنا الشعبي وتكثيف حضوره في نضالاتنا الجماهيرية، تنشغل استعادة الجثمان المادية في دفن جسد الشهيد وإسدال الستار على آخر فصول الحكاية وتوفير قسط من الراحة لعائلته.

لكن الفعلين في جوهرهما يكمل أحدهما الآخر إذا أدركنا أن للشهادة بعدين لا ينفصلان، أولهما خاص متعلّقٌ بالحلقة الضيقة من أفراد العائلة والأصدقاء التي ارتبط بها الشهيد، وثانيهما جمعي متجذّر في صلب قضية التحرّر الوطني التي انتمى إليها الفدائي.

فصل جديد من التغييب

تراجعت سلطات الاحتلال عن تطبيق سياسة احتجاز جثامين الفدائيين ودفن شهداء جدد في مقابر الأرقام مع أواخر العام 2004. ورغم عدم إعلان أسباب مباشرة لتجميد السياسة، يمكن إحالة هذا التراجع إلى إخفاق الاحتلال في تحقيق الأهداف المباشرة التي رمى إليها من خلال احتجاز الجثامين ودفنها في مقابر الأرقام. فإذا كان الهدف هو الانتقام من عائلات الشهداء وحاضنتهم الشعبية وزيادة الكلفة النفسية التي يضطرون لتحملها فقد اتضح أن احتجاز الجثامين عزز من صمود العائلات وتكافلها واحترامها لخيار أبنائها رغم كل ما يكتنفه التغييب من ألم وإحساس بأن الشهيد قد قُتل مرّتين. وإذا كان الهدف هو منع اندلاع تظاهرات حاشدة عقب الجنازات ولجم غضب الفلسطينيين فقد ثبت لجيش الاحتلال ومخابراته أن احتجاز الجثامين غير قادر على احتواء الغضب بل العكس تمامًا.

 لجأ الاحتلال إلى عملية احتجاز بعض جثامين الفدائيين الفلسطينيين منذ نهاية الانتفاضة الثانية إلا أنها بقيت محدودةً ومؤقتة وقد كانت إعادة جثامين الشهداء، والمقدسيين منهم على وجه الخصوص، مرهونة بشروط، كما حدث في هبّة الخريف الماضي في القدس المحتلة.

لكن الهبّة الجماهيرية الحالية التي بلغت ذروتها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي شهدت أعلى وتيرة لاحتجاز الجثامين منذ الانتفاضة الثانية. فمع نهاية 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي وثّقت الحملة الوطنية لاستعادة الجثامين احتجاز 32 شهيدًا، أما الآن فقد تجاوز عدد الجثامين التي لا تزال محتجزة 25 جثمانًا معظمها لشهداء من القدس والخليل.

احتجاز الجثامين كأداة ضبط استعمارية

من المهم التأكيد بأن سياسة احتجاز الجثامين ليست عبثيّةً أو نابعةً من تخبّط الاحتلال اليائس في محاولته وأد الهبّة الجماهيرية. ويمكننا أن نعزو عودة الاحتلال إلى تطبيق سياسة احتجاز الجثامين إلى أهداف عديدة يأمل تحقيقها، من قبيل كسر الروح المعنوية للعائلات وعقابها وردع الفلسطينيين ولجم غضبهم واستخدام الجثامين كأداة ضغط في صفقات تبادل مستقبلية. ولكن هذه العوامل، على أهميتها، عاجزة عن تفسير الوتيرة العالية لاحتجاز الجثامين وتهديد الحكومة الأمنية المصغّرة بعدم إعادة جثامين فدائيي القدس إلى ذويهم.

تكتب نادرة شلهوب كيفوركيان، الباحثة المقدسية والمحاضرة في علم الإجرام في  مقالها «عيش الموت واستعادة الحياة» أن العنف البنيوي المتواصل الذي يرتكز إليه الاستعمار الصهيوني «لا يصادر ويتحكم بكل ما هو حي فحسب بل يطال الأموات وأماكن دفنهم».

يبعث الاستعمار رسالة إلى مقاوميه مفادها أنه لن يكتفي بإعدامهم ميدانيًا إذا هم تجرّؤوا على مقاومته بل سيواصل تحكّمه بأجسادهم بعد موتهم.

أيام قليلة كانت كافية كي يدرك الاحتلال بأذرعته السياسية والعسكرية والأمنية و«المدنية» أن العنف الرمزي المغلّف بغطاء سميك من البيروقراطية الاستعمارية وأساليب القمع الناعم عاجز عن إخماد الحراك الثوري أو حتى احتوائه وتهدئته. اضطر الاحتلال للاعتماد على القوة العارية والعنف الفج لاستعادة سيادته الزائفة على المدينة المتمرّدة وفضائها العام والأجساد الفاعلة ضمن هذا الفضاء. لم يأت نصب الحواجز الطيّارة والثابتة وإغلاق الأحياء بالمكعبات الاسمنتية وزيادة الوجود العسكري والأمني لإجهاض عمليات الطعن والدهس فحسب، بل لخنق المقدسيين في بقعةٍ مخنوقةٍ أصلًا وللتحكم بكل تفصيلٍ من تفاصيل حياتهم المُعاشة وللتأكيد على سيادةٍ زعزعتها ثلّة من المراهقين المقدسيين.

إلا أن الحاجة لفرض السيادة لا تتوقف عند الفضاء المُعاش إذ أنها تشمل الشهداء وأجسادهم وأماكن دفنهم. يبعث الاستعمار رسالة إلى مقاوميه مفادها أنه لن يكتفي بإعدامهم ميدانيًا إذا هم تجرّؤوا على مقاومته بل سيواصل تحكّمه بأجسادهم بعد موتهم. وحتى ولو قرر الاحتلال إعادة جثامين الشهداء إلى ذويهم فهو من يقرر موعد التسليم وزمان الدفن ومكانه وعدد المشاركين في الجنازة. وفي منظومة «الطوارئ» الاستعمارية المركبة يؤدّي معهد الطب الشرعي «أبو كبير» أو مقابر الأرقام لاحقًا دورًا مكمّلًا لذلك الذي تؤدّيه الحواجز والمكعّبات الاسمنتية وكاميرات المراقبة والجدران ومراكز الاعتقال، فهذه الأخيرة توظَّف للتحكم بالفلسطينيين الأحياء والمساحة التي يتحركون فيها بينما تسعى الأولى(معهد الطب الشرعي في أبو كبير ومقابر الأرقام) إلى التحكّم بالفلسطينيين الموتى وبالمساحة التي يُسمح لهم التواجد فيها. تمثّل مقابر الأرقام فضلًا عن ذلك أداةً وحيّزًا لنزع إنسانية المتمرّدين على الاستعمار بالتعامل معهم بوصفهم أرقامًا على ألواحٍ حديدية ومحاولة تغييبهم من الذاكرة الجمعية الفلسطينية عبر «سجنهم» في مناطق عسكرية مغلقة ومجهولة.

الخوف من الموتى

تضيف شلهوب كيفوركيان في كتابها الصادر مؤخّرًا «لاهوت الأمن: المراقبة وسياسة الخوف» أن الاستعمار الصهيوني يرى في جثث الفلسطينيين خطرًا أمنيًا ينبغي درؤه.

ولعل تصرف الاحتلال بجثّة الشهيد فادي علّون يجسّد أبرز النماذج على ذلك فالأسبوع الذي فصل بين استشهاد علّون فجر 5 تشرين الأول/أكتوبر ودفنه يكثّف العنف المباشر الذي لم ينتهِ بإعدامه واحتفال المستوطنين بقتله وتنكيلهم بجثته. تجلّى امتهان جسد علّون والتحكم به ميتًا من خلال إجبار والده على دفع كفالة لكي يستلم جثمانه، وعبر تأجيل موعد تسليم الجثمان وإلزام العائلة بدفنه فجرًا في مقبرة العيساوية عوضًا عن مقبرة العائلة في باب الساهرة. اعتاد المقدسيّون استخدام الاحتلال جثامين أبنائهم من أجل ابتزازهم وإحكام السيطرة على أكثر التفاصيل حساسية وإيلامًا وهي قدرتهم على دفن ذويهم في هامش ما من الحرية.

رؤية الاستعمار أجساد الفلسطينيين بعد استشهادهم كخطر على أمنه تدفعه إلى بذل جهدٍ مضاعف لفرض هيمنته ومراقبته على مراسيم التشييع وظروفه. تعتبر جنازات الشهداء إحدى الفرص النادرة التي يتمكن فيها عدد كبير من المقدسيين من التجمهر والتحرك بحرية أكثر ضمن حيزهم المديني المقيَّد والخاضع للضبط والسيطرة فيحولون حزنهم إلى شرارة احتجاج. بتقييده عدد المشاركين في الجنازات وبإجبار العائلات على دفن الشهداء بعد منتصف الليل أو بإقامة التشييع في قرى مطوّقة كالعيساوية، يعبّر الاستعمار عن خشيته من السلطة التي يكتسبها الشهيد بعد استشهاده وقدرته على التعبئة الجماهيرية. لكن تقنيات الضبط والقمع التي ينتهجها الاستعمار لا تمرّ دون مقاومة.

تتجسد هذه المقاومة حين ترفض خمس عائلات من الخليل استلام جثامين أبنائها مقابل الانصياع لشروط الاحتلال. المقاومة هي حين تؤكد عائلات الشهداء وحدة قضيتها وتكاتفها ورفض محاولات الاحتلال ووكلائه المحليّين دق أسافين الفرقة بينها. المقاومة هي حين يؤكد والد شهيد من كفر عقب أنه لن يقبل استلام جثمان ابنه إلا حين تستلم عائلات جبل المكبر ومخيم شعفاط جثامين أبنائها.

تدلّل هذه الأشكال من المقاومة على آليات المجابهة التي يطوّرها الفلسطينيون في وجه سياسات الضبط والمراقبة وبدل أن تنجز السياسة هدفها في كسر الروح المعنوية للعائلات والإجهاز على الحاضنة الشعبية للفعل الثوري، توسّع رقعتها وتعزّز صمودها وثباتها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية