غادرنا يوم الثلاثاء الماضي سلامة كيلة، المفكر الماركسي الفلسطيني السوري، المولود في بيرزيت عام 1955، والحاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بغداد عام 1979. لطالما عرّف كيلة عن نفسه بأنه متعدد الجنسيات العربية، في محاولة لتبيان تشابك المصير العربي تبعًا للبنى الاجتماعية والاقتصادية المتشابهة إلى حد ما بين هذه الدول، إلى جانب التحديات السياسة والثقافية التي تواجهها محليًا ودوليًا.
حين منع كيلة من دخول فلسطين المحتلة على خلفية انتمائه السياسي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» التي كان يشكل مع مجموعة من الشبان الجناح اليساري فيها، أقام في سوريا منذ عام 1981، لينشط هناك فيما بعد مع حزب العمل الشيوعي السوري المعارض. وبسبب نشاطه هذا، جرى اعتقاله إلى جانب عدد من رفاقه في آذار 1992 ولمدة ثمان سنوات تعرض فيها لمختلف أشكال التعذيب، ليتم الإفراج عنه في آذار 2000.
حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، أعيد اعتقال كيلة لمدة ثلاثة اسابيع (عُذب خلالها أيضًا) في نيسان 2012 على خلفية دورية «اليساري» التي أشرف عليها بمساعدة مجموعة من الشخصيات، صدر منها أقل من خمسة أعداد، ساندت الحراك الشعبي السلمي، ووضعت قائمة من المطالب على رأسها إسقاط النظام. وفي أعقاب ذلك أبعد إلى الأردن.
في الأردن، تفرغ كيلة للإنتاج المعرفي، فنشرت له العديد من الكتب والمقالات حول سوريا، إلى جانب دراسات في القضايا الاقتصادية العربية والعالمية. كما تنقل كيلة بين العواصم العربية محاضرًا الجمهور السياسي العربي عبر المنصات الثقافية، ومتفاعلًا مع القوى السياسية والتجمعات الشبابية عبر الحلقات النقاشية والمقابلات الشخصية الإعلامية وغيرها.
كان كيلة غزير الإنتاج، فهو يمتلك عشرات الكتب ومئات الأبحاث والمقالات التي تناولت مباحث مختلفة في الفلسفة والصراع العربي – الإسرائيلي، والوضع العربي الراهن. لكن واحدًا من إسهاماته الفريدة في المنطقة العربية كان الكرّاسات الماركسية التي سعى فيها إلى تقديم النظرية الماركسية لجمهور محلي واسع. فقد ظل مؤمنًا براهنية النظرية الماركسية لما تقدمه من حلول لتغيير الوضع القائم في البلدان العربية تحديدًا، من خلال أدواتها التحليلية الشمولية وما ينبثق عنها من آليات عملية على أرض الواقع.
الكراسات الماركسية كانت واحدة من إسهامات كيلة الفريدة في المنطقة العربية، والتي سعى من خلالها لتقديم النظرية الماركسية لجمهور محلي واسع
انطلاقًا من هذا الإيمان، كان كيلة من الشخصيات المثقفة القليلة التي أخذت على عاتقها إحياء فكرة الكرّاسات النظرية التي راجت في عقود سابقة. فقد لعبت فكرة الكرّاسات الصادرة في القرن الماضي دورًا كبيرًا في عملية نشر الفكر اليساري في العالم العربي، ومثلت بالنسبة للأحزاب الشيوعية العربية، إلى جانب المنشورات التعريفية والدوريات (صحف ومجلات)، الطريق المناسب لبناء الكادر والتواصل مع قاعدتها الجماهيرية حينها، في ظل الأحكام العرفية والملاحقات الأمنية. لكن مثل هذه المنشورات تراجعت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، سواء من حيث الإصدارات أو من حيث الجودة، ودخول الكثير من الأحزاب عمومًا واليسارية خصوصًا أزمة تثقيف حتى في النظرية التي تدعي الانتماء إليها.
في هذا السياق، تبرز أهمية إحياء كيلة لفكرة الكراسات، من خلال إشرافه على نشر ثلاثة عشر كرّاسا في الماركسية، صدرت الطبعة الأولى منها في الفترة الممتدة بين عامي 2007 – 2011.
شملت كراسات كيلة إعادة نشر لكراس «رأس المال والعمل المأجور» لكارل ماركس، وكراسين للينين هما: «كارل ماركس» الذي نشر تحت عنوان «الماركسية: عرض مختصر»، ورسالة لينين للاشتراكيين الديمقراطيين في سانت بطرسبرغ في مطلع القرن العشرين التي جاءت تحت عنوان «رسالة إلى رفيق: حول مهماتنا التنظيمية»، وكراس لماو تسي تونغ هو «في الممارسة العملية: في العلاقة بين المعرفة والممارسة العملية»، وكراسين للمفكر الماركسي الأردني هشام غصيب هما: «الديموقراطية من منظور ماركسي»، و«فلسفة ماركس». لتتبقى سبعة كراسات كتبها كيلة نفسه. وقد جرى ترتيب الكراسات في سلسلة تضمن للقارئ فهمًا متسقًا للأعمدة الأساسية للنظرية الماركسية، وتفاعلها مع الواقع، والواقع العربي تحديدًا.
تناولت كراسات مثل «الماركسية: عرض مختصر» و«رأس المال والعمل المأجور» و«الجدل والتصور المادي للتاريخ» ركائز أساسية في النظرية الماركسية، بدءًا من المادية الجدلية ومقولتها بأن وعي الإنسان نتاج واقعه الذي تشكل البنية الاقتصادية الاجتماعية المحدد الأساسي له، مرورًا بمفهوم الصراع الطبقي الذي تنبني على أساسه الاختلافات الأيديولوجية، وصولًا إلى الجانب الاقتصادي من النظرية الماركسية ونظرية القيمة التي تفسر ربح الرأسمالي بوصفه فائض القيمة الذي ينتجه العمال.
«إن جوهر الماركسية هو الجدل، وإنها –بما أنها جدل- تفرض إعادة إنتاج ذاتها بشكل مستمر، وهي هنا إعادة إنتاج مستمرة للصيرورة الواقعية». هذا الاقتباس الوارد في كراس «الجدل والتصور المادي للتاريخ»، ذكر في معرض حديث كيلة عن دور ماركس وإنجلز في نقد جدل هيغل، ونقله من صورته المثالية المنطلقة من الوعي إلى الواقع المادي والصيرورة الواقعية. فالماركسية من حيث أنها منهج تحليلي جدلي، تمتلك سياقها التطوري (الثوري) من خلال الواقع المادي المتغير باستمرار، وهذا ما يجعل الماركسية متجاوزة لنفسها كنظرية في خضم السيل المعرفي الإنساني الهائل، باعتبارها متسقة مع الواقع العلمي المادي بحسب تعبير كيلة.
التناول النقدي للنظرية الماركسية (وهذا ما تتطلبه هذه النظرية بالأساس)، يظهر في جميع كراسات كيلة، إلا أنه يتركز في كرّاس «بصدد الماركسية»، الذي وجه فيه نقد حادًا إلى أشكال الجمود التي أصابت الماركسية، أو بحسب تعبيره «أسقطت وألصقت بالمنهج والنظرية الماركسيتين».
والملفت أن الكراس يعتبر أن المحاولات التي دفعت باتجاه تخليص الماركسية من جوهرها الثوري هي المرحلة الأولى من سلسلة الجمود هذه، كمحاولة الديمقراطي الاجتماعي الألماني إدوارد برنشتاين (1850 – 1932) لتأسيس ما سمي بـ«الاشتراكية التدريجية»، وهو ما نادى به كاوتسكي وآخرون من منظري الأممية الثانية. فالماركسية ليست إصلاحية لتهادن الأنظمة البروجوازية من أجل دفع هذه الأخيرة لتقديم بعض التنازلات للطبقة العاملة والطبقات المعدمة. بل إنها تسعى إلى تغيير النظام السياسي برمته عبر انقلاب ثوري لتأمين حياة كريمة للجميع ولضمان التطور في مختلف أصعدة الحياة العامة.
كما يأتي كيلة على ذكر الفترة التي اعتلى فيها ستالين الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي وما سادها من تكرار اصطلاحي للمفاهيم النظرية دون تناولها تناولًا نقديًا بما يتناسب مع الظروف الاجتماعية الاقتصادية والتاريخية المعنية بكل مجتمع، وهذا ما يسميه كيلة «التبسيط المخّل الذي انتشر باسم الماركسية».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كيلة تعثر برأيي في وصفه غالبية الإنتاج المعرفي السوفييتي بالجمود النظري. فالعدد الهائل من المؤلفات السوفييتية التي بحثت في الكثير من الظواهر الاجتماعية-الاقتصادية، ناهيك عن الطبيعية، لا يمكن وضعها في سلة واحدة، ويتطلب تقييمها دراسة حثيثة. إضافة لذلك، فإن ظرف الحرب الباردة ووجود جانب دعائي في عدد غير قليل من هذه المؤلفات، لكن احتواء المؤلَّف على جانب دعائي لا يُسحب منه بالضرورة التحليل الماركسي الرصين.
بعد مناقشة موضوعة الجمود، ينتقل كيلة إلى توصيف حال المنطقة العربية، مشددًا على ضرورة تكييف الفكر الماركسي مع المتطلبات الواقعية للمجتمعات العربية ذات التركيب الاقتصادي الهجين، الصناعي-الزراعي، وهو ما يؤثر على شكل البناء الطبقي. يرد كيلة ذلك أولًا للاستعمار الذي سطا على العملية الإنتاجية برمتها في آواخر وجود الدولة العثمانية وبعد اندثارها، بعدما كانت مستعبدة ماليًا للغرب أصلًا. فقد جرى تشويه الريف من خلال التركيز على إنتاج سلع معينة دون سلع أخرى، وتهجير كوادره إلى المدن واستيعابها في المؤسسات الأمنية وغيرها من المؤسسات البيروقراطية غير الإنتاجية التي تشرف عليها أنظمة سياسية محلية تابعة للاستعمار. هذا إلى جانب طفرة النفط في دول الخليج وأثرها السلبي على شكل القوى العاملة ووزنها في البلدان العربية.
يستمر كرّاس «طريق الانتفاضة: لماذا تثور الطبقات الشعبية؟» في شرح الوضع الاجتماعي-الاقتصادي العربي، من حيث أن الأنظمة السياسية التي خلّفها الاستعمار سعت وتسعى إلى تكييف السوق الداخلية بما يتناسب مع متطلبات السوق الرأسمالية العالمية وما يسودها من تبادل غير متكافئ لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة. يعود ذلك على المجتمعات العربية وغيرها الكثير من بلدان العالم الثالث بالحرمان من انتهاج مسار تطور اقتصادي-إنتاجي خاص بها، ناهيك عن قمع الأصوات المطالبة بالانعتاق من التبعية السياسية والاقتصادية، وتوفير وضع معيشي ملائم للطبقة العاملة والفلاحين وصغار الكسبة من الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود.
أما الأنظمة السياسية العربية التي اختارت مسارًا اقتصاديًا مخالفًا للتطور الاقتصادي الرأسمالي بعد انسحاب الاستعمار من المنطقة، وانتهجت التخطيط المركزي للاقتصاد المطعّم بكثير من الأفكار والرؤى الاشتراكية، فقد أدى بها الأمر إلى تطبيق سياسات تقدمية بالفعل على أرض الواقع، مثل ازدهار الصناعات التحويلية واتساع القدرة للوصول للسلعة في شكلها النهائي وتقديمها للمستهلك، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، وتوفير بيئة تبادلية تضمن حماية السوق المحلية من توغل المنتج الأجنبي. ينطبق هذا على دول مثل مصر، وسوريا، والعراق، والجزائر، إلا أن فئات طفيلية سيطرت على القطاع العام في هذه الدول، ونهبته وطوعته لمصالحها الطبقية الضيقة. هذه المرحلة التي بدأت مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي هي، بحسب كيلة، مرحلة «السيطرة المافيوية» على القطاع العام.
درس كيلة أوضاع البلدان التي شهدت مجتمعاتها انتفاض الطبقات المعدمة في الثمانينيات، ليتبين له ازدياد الوضع المعيشي سوءًا في تلك الفترات، وانحدار جميع المؤشرات الاقتصادي
يشير كيلة إلى أن هذه النظم أخذت طابع «التمنّع» في علاقتها مع الغرب، ليس لأنها تعبر عن حالة مبدئية من الانحياز للطبقة العاملة أو للاشتراكية، بل لتحصيل شروط تسوية «أفضل» تضمن مصالحها وتوسيع نفوذها الاقتصادي، وذلك بانتهاج اقتصاد الصدمة عبر خصخصة مؤسسات الدولة والانفتاح الاقتصادي تحت حجج التحديث والتنافسية، وهذا ما حصل في مصر بعد تسلم السادات منصب رئاسة الجمهورية، وهو نفسه ما حدث في سوريا مع نهاية القرن.
إن وجهة نظر كيلة هذه هي أساس موقفه المعارض للنظام السوري قبل وبعد 2011، وهي أيضًا التي يستند عليها في مجابهة «اليساريين» وغيرهم من المساندين للنظام وقيادته.
فكيلة يجيب على السؤال «لماذا تثور الطبقات الشعبية؟» بأن الثورة هي النتيجة الطبيعية للفقر والتجويع ونقص الخدمات والقمع السياسي، وتوفير الحد الأدنى من كل شيء (أجور، صحة وتعليم، بنى تحتية، رفاهية… إلخ) أي توفير الحد الأدنى من الحياة من أجل الإبقاء على عملية إعادة انتاج رأس المال المتحرك (قوة العمل). كل هذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الانتفاضة والثورة على أساس طبقي. هذه هي حركة التاريخ، وهذه هي الصيرورة الواقعية.
درس كيلة أوضاع البلدان التي شهدت مجتمعاتها انتفاض الطبقات المعدمة في الثمانينيات (تونس – كانون الأول 1984، المغرب – كانون الأول 1984، السودان – نيسان 1985، مصر – 1986، الأردن – نيسان 1989)، ليتبين له ازدياد الوضع المعيشي سوءًا في تلك الفترات، وانحدار جميع المؤشرات الاقتصادية (عجز الموازين التجارية، عجز الميزانيات العامة، انخفاض سعر صرف العملات المحلية، وارتفاع نسب التضخم…).
تُظهر هذه التحليلات إيمان كيلة بتكرار الانتفاضات الشعبية، ليس بهدف تحقيق مطالبها من قبل سلطة سياسية تسيطر عليها طبقيًا برجوازياتٌ مرتهنةٌ للأجنبي، بل بهدف إقامة سلطة تعبّر عن مصالح الطبقات الشعبية. يظهر هذا جليًا في آخر فقرة من مقدمة كرّاسه «طريق الانتفاضة»، التي يقول فيها: «لا شك من أنني أهدف من إصدار هذا الكراس إلى التأكيد بأن الانتفاضة باتت أداة أساسية لتحقيق التغيير. إنها طريق التغيير في كل النظم الكومبرادورية، وهي ممكنة، بل يمكن أن أقول حتمية».
اقرأ/ي أيضا:
وفي الكراسين، «في الممارسة» و«المهمات الديمقراطية والمهمات الاشتراكية»، يجري الحديث عن دور القوى التقدمية والثورية في المجتمعات لقيادة التغيير، وضرورة التحام هذه القوى مع الطبقة العاملة والفئات المنخرطة معها، ونشر الوعي في صفوفها من خلال دراسة ماركسية لهذه المجتمعات بالطبع.
ويرسم كيلة شكل العلاقة بين هذه القوى والسلطة على أساس أن تكون الأولى هي الند والنقيض للثانية، لا أن تحاول القوى والأحزاب الشيوعية أن تقنع السلطة بالتنازل للطبقة العاملة بل في أن تنظم صفوفها بطريقة تتمكن من خلالها من مجابهة هذه السلطة التي لن تتردد في استخدام العنف في حال جرى تهديد مصالحها.
حذر كيلة من النزوع إلى الخيار الإصلاحي، الذي نرى نتائجه عيانيًا من ضعف هذه الأحزاب وعدم فاعليتها وتبعثر قاعدتها الجماهيرية التي كان مصيرها التخلف والرجعية الدينية والجريمة. فالتنظيم بحسبه هو جانب مفصلي لقيادة التغيير وحمل مطامح الفئات الشعبية والتعبير عنها وتحقيقها، ودون التنظيم المتمسك بالنظرية الماركسية أداةً للتحليل، ستتعلم الجماهير من أخطائها عبر جولات وصولات من الحراك الاجتماعي؛ دون التنظيم لا أحد يعرف المدة التي سيستغرقها هذا المخاض.
ختامًا، تبرز كراسات سلامة كيلة كمرشد للكادر الحزبي وللدارس أو لمن يود الاطلاع على الفكر الماركسي وعلى تطبيقات هذا الفكر عربيًا، وتتضمن إشارة واضحة وجلية لراهنية هذا الفكر باعتباره الأداة المثلى للرد على الحجم الهائل من التعبئة الأيدولوجية المستمرة من النظم السياسية الرأسمالية لتبرير مسلكياتها الاجتماعية المجحفة والمجرمة في كثير من الأحيان في وجه الجماهير الشعبية. لكن هذه الراهنية تفقد معناها التطبيقي دون صياغة أدوات عمل تحصن الجماهير في نضالها في سبيل تأمين مصالحها.