جرحى الحرب السورية: ندوب تدوم إلى الأبد

كرسي متحرك يستخدمه جريح سوري يسكن في عمّان. تصوير عز الدين الناطور

جرحى الحرب السورية: ندوب تدوم إلى الأبد

الأربعاء 08 آذار 2017

أكثر من 470 ألف قتيل، 1.9 مليون جريح، خمسة ملايين لاجئ، 6.3 مليون نازح. كل من هؤلاء جزءٌ من قصة الحرب في سوريا، التي باتت ممتدة خارج حدودها.

إلى الأردن، وصل عدد من جرحى الحرب حاملين معهم أجزاءً من هذه القصة، كلٌ في قصته الشخصية، التي وإن بدت متشابهة لكن تفاصيل المعاناة فيها مختلفة، ومستمرة.

تشير أرقام وزارة الصحة الأردنية إلى أن المستشفيات الحكومية أجرت أكثر من 14 ألف عملية جراحية كبرى لسوريين، معظمها لجرحى الحرب، إضافة إلى إدخال أكثر من 65 ألف آخرين إلى المستشفيات منذ عام 2012 وحتى الآن. بينما أُدخل المئات إلى المستشفيات الخاصة عبر بعض المنظمات الدولية والمحلية، كالجمعية الأردنية للإسعاف.

يونس، 36 عامًا، واحد من الجرحى الذين ساعدتنا الجمعية الأردنية للإسعاف في الوصول إليهم، أُصيب مع عائلته بقذيفة من دبابة يقول إنها كانت تابعة للجيش السوري، تسببت في قتل ثمانية عشر شخصًا، وتركته بنصف جسد. قبل هذا كان يونس رئيسًا للجنة تقدير العقارات بوزارة المالية في محافظة درعا. «بأوّل شهر عشرة من عام 2013 انقصف بيتنا في درعا بقذيفتين من دبابة، ماتوا 18 من أصل 22 كانوا موجودين بالبيت، بينهم زوجتي وبناتي»، يقول يونس، الذي فضّل عدم نشر اسمه الحقيقي. «أخذوني إسعاف على الأردن أنا وبناتي الثنتين، بنت توفت بعد ساعتين، وبنت ظلت عايشة لحد الآن وهيها عايشة بالزعتري».

أصيب يونس في الجانب الأيسر من جسده؛ فقد بصره في عينه اليسرى وفي جزء كبير من اليمنى، بترت قدمه، وفقد مجموعة من أصابع يده، وتناثرت شظايا القذيفتين في معظم أنحاء جسده. خضع لأكثر من ثلاثين عملية في مستشفيات أردنية، على حد قوله، وما يزال عليه الخضوع للمزيد، لكن هذا ليس أكثر ما يؤلمه.

يونس يعرض إصابة يده.

«أنا بحاكيك وفي كل هاي الجروح والإصابات، بس الألم النفسي أكبر من كل هاد، الأمور الجسدية إن شاء الله بتروح وبتتعافى، بس الألم النفسي ما بيروح»، يقول يونس. «أنا بعتبر نفسي مسؤول عن اللي صار، بتقدر تحكيلي هاد قضاء وقدر بس هاد ما بهديني. أي حد بده يقلي إنتَ ما إلك ذنب ومش عارف صعب أرد عليه، أنا بعرف إنه ما إلي ذنب، بس أنا بدي ألوم نفسي أكثر وأعاقبها، وأظل أحكي لحالي ليه ما أخذتهم على منطقة آمنة، ليه ما هربت فيهم، كان في دلائل إنه في جيش حر، ومعروفة، لما يكون في جيش حر يعني في قصف، فأنا ليه هيك تراخيت؟ ليه؟!».

تحت ثقل الشعور بالذنب، انقطع يونس عن زيارة ابنته ذات الخمس سنوات التي تسكن مع عمتها في مخيم الزعتري. «إلي ست شهور ما بشوف بنتي، لأنها صارت تسأل كثير، كل ما بشوفها صارت تسألني وين ماما، وما بعرف أجاوبها».

الغرفة التي يعيش فيها يونس (فوق)، وابنتاه التي فقدها في القصف (يسار) والتي تعيش الآن في مخيم الزعتري.

يسكن يونس الآن مع مجموعة من السوريين في شقة متواضعة في صويلح شمال عمّان، يقضي معظم وقته متنقلاً بينها وبين المستشفيات، يتعالج على نفقة بعض المؤسسات الدولية، ويتلقى معونة بسيطة. «المشكلة إنه اللي بكون مقاتل بسوريا، بكون مدعوم ماديًا، وبصرفولهن رواتب لما ينجرحوا. أنا لما كنت أروح على بيت الجرحى كانوا يسألوني أنت مع مين بتقاتل، كنت أقلهم أنا مدني فما كانوا يستقبلوني».

حصل يونس على منحة لمواصلة دراساته العليا في المحاماة، لكنه غير متحمس لهذه الخطوة ولا يفكر بفعل أي شيء هذه الفترة من حياته غير استكمال العلاج «عندي طموح وبحب أكمل حياتي، بس مش هسا»، يصمت قليلًا ثم يتابع «بضل الجرح موجود، بقولوا الزمن بيداوي كل الجروح، بس ما أتوقع يكون هاد سهل، بدي أكثر من عشر سنين لحتى أتعافى نفسيًا من يلي صار».

برميل من السماء

دحام الحمد، كان طالب تمريض على مقاعد الدراسة في جامعة تشرين بمحافظة اللاذقية، ورغم الظروف الأمنية وصعوبة تنقله ما بين مكان سكن عائلته في «بصرى الشام» في الجنوب وجامعته في الشمال، كان يحاول قدر الإمكان أن يواصل دراسته، لكن برميلًا متفجرًا سقط «من العدم» قرر أن يضع حدًا لذلك.

أصيب دحام إصابة مباشرة وهو عائد في إجازة من الجامعة إلى بيته في شهر في حزيران عام 2015، قتل زميله، وتهتكت يده تمامًا وفقد جزءًا كبيرًا من عظامها وأنسجتها. أُسعف إلى مستشفىً قريبٍ ثم إلى الأردن، وأجريت له مجموعة من العمليات، وما تزال لديه مجموعة أخرى يقول دحام: «لما بلّشت الأحداث كنت بدرس تمريض بجامعة تشرين، وبيوم كنت رايح إجازة لخمسة أيام عند أهلي، وبالصدفة نزل علينا برميل لما صرت بدرعا، كانوا كثار اللي تصاوبوا، في شب صاحبي توفى، هذاك الوقت أنا ما عاد عرفت شي، دخلت مرحلة من الفراغ، مش عارف إشي، لحد ما أسعفوني للمستشفى، وبعدين أسعفوني للأردن (..) عملت أكثر من عملية بمستشفى الرمثا اللي دخلت فيها أوّل ما جيت».

يروي دحام أن والده كان يصر دائمًا على التعليم حتى وإن كانت البلاد في حالة حرب. «إحنا عيلة كلنّا دريسّة، إخوتي اثنين مهندسين، وأبي محامي، وأنا ممرض. قبل الحرب كنت طاش بين صحابي وبين الدراسة، بس أغلب الوقت كان أبي يشد عليا على الدراسة (..) أبي كان عنده العلم مقدس».

ما تزال عائلة دحام بخير، خرجت وعادت أكثر من مرة إلى المنطقة التي تسكن فيها، لكنها لم تغادر بيتها حتى الآن ولا تنوي ذلك، كما يقول دحام، الذي ما يزال يتواصل مع أفراد عائلته بشكل دوري. «المنطقة اللي إحنا عايشين فيها بالأوّل كانت تحت سيطرة النظام، وبعدين صار فيها معارك فطلعنا من بيتنا، بعدين صارت ضمن المناطق المحررة فارجعنا عليها، أهلي رجعوا عليها، أنا جيت هون».

يقضي دحام وقته بالرسم، متنقلًا بين المشافي ومخيم الزعتري وشقة متواضعة في العاصمة عمّان، وكان لوالده مساحة كبيرة من رسوماته.

دحام حاملًا صورة لوالده.

قضى دحام في الأردن حتى الآن عامين، ولا يعرف ماذا يخبئ له المستقبل، وحتى الآن هو غير قادر على التعبير بوضوح عن تجربته. «بتحسها أحيانًا حلم، (..) امبارح كان ما فيك شيء وهلأ أنت مصاب، امبارح كنت بجامعتك وهلأ بدون علم ولا مستقبل، في أكثر من شغلة بتخليك أحيانًا تبكي».

لا ينوي دحام العودة إلى سوريا الآن، أو على الأقل قبل أن ينتهي من دراسته، بعد أن تقدّم لمنحة دراسية ويتوقع أن يحصل عليها لدراسة الإعلام في جامعة الزرقاء الخاصة.

رحلة نزع الشظايا

شهيرة طفلة في السابعة من العمر، أصيبت قبل سنتين بشظايا قذيفة سقطت على عائلتها وأدت بشكل مباشر إلى مقتل خالة والدها أمامها، وجرح عدد ممن كان معها في بيت والدها في الغوطة في ريف دمشق. التقينا شهيرة برفقة والدها في مستشفى الحنان في عمّان قبل أن تدخل إلى غرفة العمليات. كانت تبتسم، كعادتها كما يقول والدها، رغم أنها باتت قليلة الكلام منذ تلك الحادثة قبل نحو ثلاث سنوات.  

يقول والدها سالم: «نحن من بلد على أطراف السيدة زينب، أطراف الشرقية أوّل الغربية، كانوا قاعدين ببيتي، هي وزوجتي وخالتي وبناتها، واشتغل القصف، بجبل بيطل علينا، اسمه جبل المانع. سبحان الله إجت قذيفة قريبة منهم، اللي تصاوبت كثير كانت خالتي الله يرحمها وماتت بأرضها وكانت زوجتي موجودة وابني الصغير نوار كمان كانوا موجودين».

شهيرة ووالدها سالم قبل دخولها غرفة العمليات في مستشفى في عمّان.

سالم كان عضوًا في المجلس البلدي، ويملك عددًا من المحال، لكنه بعد اللجوء إلى الأردن بات يعمل كـ«بنشرجي» في محل بمنطقة المستندة في عمّان، لكنه يقول أن قرار ترك الغوطة لم يكن سهلًا. «كان قصف النظام قوي، وشكل الحياة مو طبيعي، لأنه إحنا قبل ما نطلع قعدنا تقريبًا ثمان شهور بدون أكل ولا خبز (..) تركنا المنطقة بالـ2014، وقتها صار مصالحة بين النظام والمسلحين، ما كنت متخيل إنهم راح يسمحلونا نطلع، بس ما ضل شيء أعطيناهم كل شيء، كان في إسوارتين بإيد مرتي، شلحونا إياهم على آخر حاجز قبل ما ندخل الأردن، خلونا نيجي على الأردن مشي». يختصر الموضوع بالقول: «لما كنا بسوريا كنا قدام خيارين: يا إما بتسلم مالك أو روحك. لا خيي خذ مالي واتركني».

انتُزعت الشظايا التي كانت موجودة في جسد شهيرة، وعادت الآن إلى حياتها الطبيعة كطالبة في الصف الثالث الإبتدائي في إحدى المدارس الحكومية القريبة من بيت والدها المستأجر بالمستندة، لكن يبدو أن تجربتها سترافقها للأبد.

في حادث منفصل، أصبح عبد النبي، والد سالم وجد شهيرة، جريحًا كذلك كحفيدته. قبل الإصابة، لم يغادر عبد النبي المنطقة التي يسكن فيها حتى بعد مقتل ابنه الأكبر ولجوء ابنه الثاني إلى الأردن. بقي في مكان سكنه بالغوطة متمسكًا بأرضه وأملاكه «أنا بشتغل فلاح، كان عندي بقر ومواشي وأراضي، وولادي عندهم محلات، كل واحد بناية ومحل (..) وين بدي أتركهن وأروح»، ورغم ذلك، تسبب الحصار الذي امتد لأكثر من عام بقتل أغنامه وبقره ولم يكن يستطيع الزراعة.

عبد النبي في البيت الذي يسكنه مع ابنه سالم في عمّان.

شهد عبد النبي خلال الأعوام الماضية موت كثير ممن يحب ويعرف، وكان هو نفسه قريبًا من الموت أكثر من مرة. «كل يومين ثلاث كان في قصف، ضلينا شي سنة متحملين القصف، ولما كان الجيش يدخل المنطقة كنا نهرب، يفتشوا البيوت، ويحتلوها ويقعدوا أكمن يوم ويروحوا، نرد نرجع على بلدنا ويرجع القصف من الشرق والجنوب (..) بعدين بلشوا بالطيران، بعدين إجوا بالبراميل. نزل برميل على بيتنا لو انفجر لقتل أكثر من 150 حد».

حتى ذلك لم يكن سببًا مقنعًا بالنسبة له ليغادر البلدة، حتى جاء اليوم الذي غيّر مسار حياته: «أنا قاعد بمحل إلنا، محل بناشر، كان في حصار، كان في خلق وفي عالم وفي حركة (..) كنت قاعد بالمحل وماسك عجل بإيدي، أنا حاسب حساب الضرب، فكنا نقعد بين المحلات الضيقة، علشان إذا إجا القصف ما يصيبنا، ما شفت إلا بووم، يا لطيف، ما حسيت بشي إلا لما شفت رجلي؛ أعملها هيك تيجي لهون، أعملها هيك تيجي لهون، راحت رجلي».  

أُسعف عبد النبي إلى إحدى المستشفيات المحلية في المنطقة مع عامل في المحل بترت قدمه مباشرة عند القصف. أما عبد النبي، فأصيب بكسور متعددة وتهتك في معظم أنحاء قدمه، وفقد جزءً كبيرًا من أنسجتها وعظامها.

شح إمكانيات المستشفى في المنطقة التي كان يتواجد فيها عبد النبي أخرت علاجه لأكثر من ستين يومًا. «حطولي ثقالة برجلي، وزنها 12 كغم علشان تشد رجلي، ستين يوم بالوجع، ما نمت الليل، كنت بدي أطلع بأي طريقة لأي مشفى بالشام، المهم دبرت حالي ورحت على مشفى».

الثقالة التي كانت يضعها أبو بسام في قدمه كانت عبارة عن كيس رملي كبير، استطاع أن يذهب إلى مشفى في دمشق لإجراء عملية، لكنه أُخرج من المستشفى سريعًا، وكان يخشى أن يتم توقيفه أو اعتقاله أو قتله خلال تلك الفترة. «القتل كان على الهوية. أنا والله ما حملت سلاح، بس لأني جيت من منطقة محاصرة، بفكروك من الجيش الحر، كان لازم أطلع». نجح عبد النبي بمغادرة الشام نحو الحدود الأردنية، وصل إلى مستشفى الرمثا بعدها، وأُجريت له تسع عمليات، وما زال طريق علاجه طويلًا.

يسكن عبد النبي الآن مع ابنه سالم في بيت متواضع في عمّان، ويشعر بالمرارة كلّما تحدث عن قريته وأملاكه التي فقدها في سوريا. «75% من قريتنا صارت على الأرض، ما ضل شي، شو بدنا نعمل، لا حول ولا قوة إلا بالله».

بعد إغلاق الحدود

بعد تفجير نقطة عسكرية أردنية بالقرب من مخيم الركبان في حزيران الماضي، أُعلن عن إغلاق الحدود الأردنية السورية «ومنع دخول أي لاجئ إلى أراضي المملكة (..) باستثناء الحالات الإنسانية والمرضية التي تعود إلى مخيماتها بعد إجراء اللازم لها»، بحسب بيان للقوات المسلحة الأردنية.

إحدى تلك الحالات كانت سيدة من إحدى قرى درعا وصلت إلى الأردن نهاية شباط الماضي لإجراء عملية طارئة في قدمها التي أصيبت بشكل بالغ بعد أن سقطت عليها قذيفة طائرة.

ابتسام (اسم مستعار) تجاوزت الخمسين من العمر، فقدت أحد أبنائها في الحرب وأصيبت ابنتها. لا تخفي ابتسام انحيازها للثورة، وهو السبب الذي دفعها للبقاء سوريا حتى شباط الماضي، إلى جانب زوجها المسن، وابنها الذي «يركض مع الثوار»، كما تقول.

ابتسام في سريرها في أحد مستشفيات عمان.

تقول ابتسام التي تُقيم بحراسة أمنية في إحدى مستشفيات عمّان الخاصة: «انصبت بقذيفة طيارة، وجابوني هون إسعاف، لأنه ما عنا لا دوا ولا دكاترة، ولاد حلال. والله يا أمي لو تشوف، [الحرب] دمرتنا دمار، حرثتنا حراث، والله يا دورنا يحرم ما فيها بلوكة على بلوكة».

أصيبت ابتسام في قدمها إصابة مباشرة أدت إلى بتر جزء منها بعد إسعافها أوّليًا، قبل نقلها إلى الأردن وسط إجراءات أمنية مشددة. وتقول إن الوضع الطبي في درعا التي تشهد خلال هذه الفترة اشتباكات بين قوى النظام والمعارضة سيء جدًا، وأن هناك عشرات الحالات التي تشبه حالتها، لكنها لا تحصل على الرعاية الطبية المناسبة.

تصف الوضع في درعا بالقول: «يحرم علينا أيام ما بنلاقي خبز نوكلها، ما بنلاقي خضرا نوكلها، أواعينا سرقوها».

ما يزال 1.1 مليون إنسان محرومين من الوصول إلى العناية الطبية داخل سوريا، وخمسة ملايين يعيشون في مدن محاصرة يصعب الوصول إليها أو مغادرتها. وحتى تحط الحرب في سوريا أوزارها، تظل حياة هؤلاء رهينة ظروفها.

* شارك في التنسيق لهذه المادة يزن عابد، من الجمعية الأردنية للإسعاف.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية