هكذا تكلّم غالب: في نقد قيادة الثورة الفلسطينية

هكذا تكلّم غالب: في نقد قيادة الثورة الفلسطينية

الثلاثاء 19 كانون الأول 2017

 «نحن نطمح إلى تغيير العالم، أي نطمح أن نكون ذوات فاعلة في علاقتنا بالواقع، لا نتلقى هموم الواقع بسكونية، بل نحاور ونناقش ونعترض بهدف التغيير (..) نحن جزء من الثورة الفلسطينية وسوف نناضل لأن نجعل الثقافة تحتل مركز الصدارة في الفعل الثوري. لا نفعل ذلك لصالح الثقافة فقط، بل بشكل أساسي لصالح الثورة»1.
– غالب هلسا.

بدأ غالب هلسا طريقه في العمل السياسي مع الحزب الشيوعي الأردني قبل أن يغادر إلى لبنان للدراسة الجامعية عام 1950. وهناك التحق بالحزب الشيوعي اللبناني، وعرفت حياته رحلة طويلة قبل أن يعود إلى لبنان مجددًا مقاتلًا في صفوف الثورة الفلسطينية، ويغادر معها إلى عدن ومنها إلى دمشق حيث قضى سنواته الأخيرة.

بعد خروجه من بيروت عام 1982 كمقاتل حمل السلاح في صفوف الثورة الفلسطينية ومثقف ومحرض سياسي لأجلها، اشتبك غالب هلسا فكريًا ونظريًا مع قيادة الثورة الفلسطينية موجهًا نقدًا شديدًا لها من على قاعدة العداء للمشروع الصهيوني والإمبريالي، ومن على أرضية الثورة التي آمن بها أداةً ستغير شكل العالم إلى عالم تسوده العدالة، عالم يخلو من القهر والاضطهاد2.

خرج غالب هلسا في كتاباته عن ما اعتبره البعض «مقدّسات»، وهاجم القيادة اليمينية -ذات التوجهات الوطنية الضيقة- لمنظمة التحرير التي اعتقد -حتى قبل معاهدة أوسلو التي توفي غالب قبل توقيعها بأربع سنوات- بأنها تسير باتجاه تسوية شاملة للقضية الفلسطينية. وانتقد في مقالاته قيادة الثورة الفلسطينية على مسائل جوهرية عدة مثل التمويل، وفلسطنة القضية، والتحالفات مع الأنظمة العربية، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته في نشوء وتكريس التحولات الطبقية داخل بنية منظمة التحرير، وتحويلها من جسم ثوري يسعى إلى التحرير إلى مشروع دولة يرأسها نظام يميني محافظ.

سأتطرّق في هذه المقالة إلى بعض الأفكار الرئيسية التي شكّلت جوهر النقد الذي وجهه غالب هلسا من موقع المثقف المنحاز للثورة الفلسطينية التي كان ينظر لها بصفتها «القلب المسلّح للثورة العربية».

فلسطنة القضية: من الهوية إلى المسار الثوري

لم ينظر غالب هلسا إلى الهوية الفلسطينية ببراءة «الوطنية الضيقة» باعتبارها هوية واحدة متجانسة، بل عمل على تفكيكها من منطلق أن الهويات تُصنع، ومن موقفه الطبقي والسياسي من القوى والطبقات التي ترسم وتشكّل هذه الهوية بما يتناسب مع طبيعة مصالحها وقناعاتها السياسية. وحمل رؤية نقدية تجاه رمسنة (من رومانسية) الهوية الفلسطينية وتجسيدها بالشخصية الفلسطينية. واعتبر أن الوجه الرومانسي للفلسطيني عاشق بساتين البرتقال كان تعبيرًا عن «رؤية وأفكار كبار الملاك الفلسطينيين»3.

أما التعبير الآخر عن الهوية الفلسطينية والذي انسحب على الخطاب السياسي الذي صاغه لاحقًا اليمين الفلسطيني، وكان بمثابة خطاب ذكوري مجنسن عن فلسطين باعتبارها، كما يشير هلسا، تلك الفتاة الفاتنة، الحبيبة والأم التي جاء الصهاينة لينتهكوا عرضها، وعندما «صرخت هذه الفاتنة: «وامعتصماه» لم يهبّ الفارس العربي لنجدتها بل تواطأ مع الوحش الذي انتهك عرض الفتاة». ورغم التغيرات التي طرأت على تلك الصورة بعد فترة من انطلاق الثورة الفلسطينية، إلّا أن هلسا رأى أن خلفية الصورة بقيت واحدة: صورة الفلسطيني البطل مقابل العربي الخائن4. فكّك هلسا شقي هذه المقولة في العديد من كتاباته والطريقة التي تم تظهيرها بها سواء في الأدب أو في السياسة.

في نقده لرواية جبرا ابراهيم جبرا «البحث عن وليد مسعود» كتب غالب مقالا بعنوان «الدلالات للبناء النرجسي في وليد مسعود» منتقدا نموذج البطولة الفلسطينية التي تحاول الرواية أن تجسدها. فوليد مسعود يعمل موظفًا في البنك ويتقن العمليات المالية وأساليب الكسب السريع، وهو ذو فحولة جنسية خارقة، وقوة عضلية هائلة، وثقافة عجيبة، يصبح ثريا؛ «وليد أصبح ثريا لأنه عصامي وليس لأنه برجوازي»5 كما يقول غالب. ثم يصبح مناضلًا يهوى ذبح عشرات الصهاينة. ينتقد غالب نموذج البطولة التي تحاول الرواية تظهيره بشكل رومانسي غير واقعي وكأن أي فلسطيني يستطيع أن يكون بطلًا فقط لكونه فلسطينيًا بالدم. يسخر غالب من «البطولات السهلة» التي ترسمها الرواية تمجيدًا للبطولة الفلسطينية، حيث يقول معلقًا عليها: «لم يخطر ببال وليد مسعود أن الثورة عمل كامل، وليس مجرد هامش ضئيل من حياة ثري»6، وأن هذه الثورة «لن تؤدي إلى قيام مجتمع ليبرالي، تقف على قمته طبقة من المقاولين وأولاد العائلات الأرستقراطية»، ممن ينظرون للثورة والكفاح المسلح، كما تعكس رواية جبرا، على أنهما «مجرد تسلية عابرة»7.

عودة إلى صورة «الفلسطيني البطل والعربي الخائن» التي ظهرت بعد انطلاق الثورة الفلسطينية. يؤكد غالب أن العربي هنا هو الأنظمة والطبقات الحاكمة، لكن هذه الصورة وظفها «الكومبرادور» والوطنية الفلسطينية، كما يقول هلسا، لصناعة هوية للفلسطيني تقوم على «السلب» والتمايز الضدي عن «العرب» دون أن تكترث إلى أن تأكيد الهوية بالسلب، أي بالدم ونقاء العرق والانتماء إلى ماض سحيق، يجعله يكرر منطلقات شبيهة بمنطلقات الصهيونية نفسها8. أما على المستوى السياسي، فقد صاغ اليمين الفلسطيني -كما يعتقد غالب- مقولات أيديولوجية بالاعتماد على هذه الصورة التي تظّهر الهوية الفلسطينية باعتبارها هوية معادية للعرب، مقولات على شاكلة «العرب جميعا خانوا فلسطين»، «العرب ضيعوا القضية الفلسطينية»9.

مشروع ثورة أم مشروع دولة

بعد هزيمة العام 1967 وفشل الأنظمة العربية في تحرير فلسطين، بدت الثورة الفلسطينية في عيون غالب هلسا «القلب المسلح للثورة العربية». واعتقد غالب من خلال قراءته للواقع السياسي والاجتماعي في البلدان العربية أنه كان على الثورة أن تصيغ علاقة عضوية بينها وبين الشعوب العربية من على قاعدة «وحدة الشعوب العربية في مواجهة الصهيونية والأنظمة العربية»، باعتبار أن المشروع الصهيوني أولًا يستهدف مجمل شعوب منطقتنا وثانيًا أن هذا المشروع «لا يمكن الانتصار عليه إلّا من خلال تحالف القوى الجذرية العربية»10 على حد قوله. ورأى أن للثورة الفلسطينية مهمّة رئيسة تكمن في دعم الطبقات الشعبية والقوى الاجتماعية العربية التي لها مصلحة أساسية بمحاربة هذا المشروع لكي تتخطى العقبات التي تقف في طريق قيام حرب شعبية ضد هذا الكيان، وذلك من خلال تغيير العلاقات الطبقية والسياسية القائمة للسماح لقوى اجتماعية جديدة أن تلعب دورًا أساسيًا في الحياة الاجتماعية والسياسية. وحين تكون الثورة الفلسطينية هي القلب المسلح للثورة العربية، كما فهمها غالب فعليها أن تسعى لجعل القوى الجذرية العربية هي البديل الثوري لأنظمتها القائمة.

لكن غالب هلسا ينتقد القيادة اليمينية للثورة الفلسطينية لعدم تمييزها بين استقلال القرار الفلسطيني عن الأنظمة العربية وبين تغييبها لعنصر دعم الشعوب العربية في نضالاتها المحلية. ويذهب هلسا في نقده للقيادة الفلسطينية أبعد من ذلك، حيث يؤكد أن القيادة اليمينية ليست فقط مسؤولة عما وصل إليه حال الثورة الفلسطينية، بل هي مسؤولة، بدرجة من الدرجات، عن الضعف الذاتي لقوى الثورة العربية، لعدم إدراكها بحكم تركيبتها للعلاقة الجدلية بين «العنف الثوري والبديل الثوري»11. وما يقصده غالب بهذه المقولة هو أن الثورة الفلسطينية بوصفها تجسيدًا للعنف الثوري عليها أن ترتبط بعلاقة مع القوى الوطنية والاجتماعية في البلدان العربية لتشكيل البديل الثوري عن السلطة القائمة في تلك البلاد.

على الجانب الآخر، فكّك غالب هلسا خطابات الأنظمة العربية وعلاقتها بقضية فلسطين من جانب، وردّ الفعل السياسي لقيادة الثورة على هذه الخطابات من جانب آخر. كان هلسا يقول أن ما تعنيه الأنظمة العربية عندما تقول للفلسطينيين إن قضيتهم هي قضية العرب كلهم، إن على الفلسطينيين أن يتخلوا عن قضيتهم، أو يجعلوها جزءًا من قضايا الطبقات العربية الحاكمة. وهذا يعني بالتحديد «استعمال القضية الفلسطينية والخطر الإسرائيلي كوسيلة لتبرير القمع الداخلي، ومصادرة الحريات العامة، والنهب الذي تقوم به الطبقات العليا». أما الخطاب الرسمي الذي اعتبر فلسطين قضية الفلسطينيين فإنه كان يسعى للتخلص من «عبء» القضية والهروب من مسؤولياته تجاهها. وللهرب من هذه المسؤولية، فإن نظام السادات -من وجهة نظر غالب هلسا- أسس خطابًا عنصريًا انهزاميًا قبل الذهاب لكامب ديفيد يقوم على تحميل الفلسطينيين مسؤولية ضياع فلسطين التي «أنهكت» مصر وكانت عائقًا في طريق «تطورها». وتُرجم هذا الخطاب على المستوى السياسي بأن لا «نتدخل في الشؤون الداخلية للفلسطينيين، وألا يتدخلوا هم في شؤوننا الداخلية»12.

ينتقد غالب هلسا القيادة اليمينية للثورة الفلسطينية لعدم تمييزها بين استقلال القرار الفلسطيني عن الأنظمة العربية وبين تغييبها لعنصر دعم الشعوب العربية في نضالاتها المحلية.

ورأى هلسا أن تبني القيادة اليمينية للثورة الفلسطينية خطاب «عدم التدخل بالشؤون الداخلية» للبلدان العربية كان المؤشر الأول لنيّة هذه القيادة تحويل الثورة إلى شكل من أشكال الدولة، وهذا يدلّل على الفهم القاصر لهذه القيادة التي كانت ترى المقاومة الفلسطينية منفصلة عن قضايا الشعوب العربية. وهنا يتساءل غالب هل تستطيع الثورة أن تملك استقلالية عن بلاد وشعوب ارتبطت بها وخاضت حروبا إلى جانبها؟ وكيف لا تتدخل في شؤون بلدان، هي -أي الثورة- جزء من شؤونها الداخلية؟13.

حارب غالب نظريًا وسياسيًا سياسة «عدم التدخل» هذه، حيث ناضل منذ بداية السبعينيات في مصر من أجل «إقامة الجسور بين الحركة الوطنية المصرية وبين الفلسطينيين في القاهرة». وكان يرى أنه بعد هزيمة 1967 نشأ في مصر حراك سياسي يرفع شعارات «حرب الشعب» و«سقوط دولة المخابرات» و«تغيير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للدولة» وكانت لجان الدفاع عن الثورة الفلسطينية في قلب هذا الحراك الذي سعى للالتحام بالثورة.

بعد وفاة عبد الناصر وحتى كامب ديفيد، كما يعتقد هلسا، صاغت قيادة الثورة الفلسطينية علاقتها مع مصر من خلال نظام السادات فقط، وكانت تتعامل بانتهازية لتحقيق مصالح آنية منها وصول المساعدات الغذائية والأسلحة إلى قوات المقاومة الفلسطينية بواسطة البواخر المصرية، أو مساهمة النظام المصري في الحملة الهادفة إلى الاعتراف بمنظمة التحرير. لقد كان المعطى الرئيسي في صياغة هكذا علاقات من قبل قيادة الثورة، هو كما يقول غالب، «اللحظة الراهنة دون توفّر برنامج بعيد المدى، أي استراتيجية ثابتة لمرحلة كاملة، تحدّد الخيار في اللحظة الراهنة، وتُخضع هذا الخيار لاستراتيجية بعيدة المدى»14. كان التطبيق العملي لهذه العقلية ضرب التحالف الثوري المصري – الفلسطيني. تحالفٌ كان قادرًا من وجهة نظر غالب أن يصنع البديل الثوري تحديدًا إثر انتفاضة الخبز عام 1977.

عجزت قيادة الثورة الفلسطينية عن إدراك واستيعاب حقيقتها العميقة، وهو كونها القلب المسلّح للثورة العربية، ويعتقد غالب أن السبب يعود لسيطرة الفكر الذرائعي (البراغماتي) على قيادة منظمة التحرير، وهو الفكر الذي «لم يكن باستطاعته إلّا أن يتحالف مع السادات ضد الحركة الثورية للجماهير المصرية، فبالنسبة للفكر الذرائعي يكون عطاء القوى الرجعية، مهما كان شحيحًا، أكثر إغراءً وقبولًا من عطاء ثورة لم تتحقق بعد»15.

هذا التحالف بين القيادة اليمينية لمنظمة التحرير وبين نظام السادات دفع ثمنه، شخصيًا، غالب هلسا. حيث اعتقل وتم ترحيله من مصر عام 1976 بعد أن ترأس ندوة لمدة أسبوع بعنوان «المخطط الأمريكي في المنطقة العربية» كان قد شارك فيها تسعة عشر تنظيمًا سياسيًا وطلابيًا16.

بحسب ما يروي هلسا في مقال «هوية الفلسطيني» اعتقلته السلطات المصرية في ختام الندوة، وقال وزير الداخلية لوفد من الكتاب المصريين توجه للاحتجاج على اعتقال هلسا: «إن مكتب فتح في القاهرة هو الذي طلب اعتقال غالب، لأنه يسيء للعلاقة بين مصر ومنظمة التحرير». ذهب الوفد وقابل مُعتمد فتح الذي قال أولًا إن «غالب من الضفة الشرقية وليس فلسطينيا. هل تريدون مني أن أدافع عن أبناء الضفة الشرقية؟» وثانيًا «إنه -أي غالب هلسا- يسيء إلى العلاقات المصرية-الفلسطينية، لأنه يتدخل في الشؤون المصرية الداخلية»، وهذا ما قاله هلسا حين أكد أن ضباط مباحث أمن الدولة المصرية قالوا له «افعل مع الفلسطينيين كل ما يخطر ببالك. هاجم السادات كما تريد. لكن عليك ألا تتصل بالمصريين بأية حال»17. ورحّلت السلطات المصرية هلسا على إثر ذلك.

كان هلسا يعتقد بأن تقاطع اليمين الفلسطيني مع نظام السادات كان سببه أن «الفلسطيني خطر على الاثنين»، والاثنان متفقان على إضفاء هوية على الفلسطيني تنزعه من سياق الثورة العربية18. «سياسة العزلة عن الجماهير» وعزلها عن بعض تكررت بشكل من الأشكال في الأردن ولبنان بحسب هلسا الذي يقول أن قيادة منظمة التحرير كانت تفرض المصالح الآنية كبديل للسياسة الاستراتيجية المتمثلة في تحويل الدول المحيطة إلى دول ثورية قادرة على التصدي لإسرائيل، بل هزيمتها، باعتبار مقاومة «إسرائيل» ليست شأنًا فلسطينيًا على الاطلاق. انتقد غالب الثورة لكونها «لم تلتفت إلى مصالح الجماهير [المادية] الأردنية والفلسطينية»، ولم تحاول توحيدها وتعبئتها، لذا بدت عبثية للكثيرين «فهي تحارب إسرائيل بدون أفق، وهي تحارب النظام الأردني ولا تريد -نظرا لعقليتها ومصالحها- ولا تستطيع أن تكون بديلة عنه».

لم تكتف قيادة الثورة الفلسطينية، من وجهة نظر غالب، بعدم محاولتها الالتحام بالحركات الوطنية والثورية داخل البلدان التي تواجدت فيها بكثافة، كالأردن وسوريا ولبنان، بل عملت على تأكيد الهوية الفلسطينية «عبر احساس عدائي، أو شبه عدائي، نحو شعوب هذه البلدان»19. وعزا هذا السلوك إلى الأصول الطبقية لقادة منظمة التحرير، ونوعية الفكر الذي كانوا يتبنونه. حيث يقول إن: «غالبية القادة كانوا من أوساط البرجوازية الصغيرة، وكانوا يحملون إيديولوجية أو إيديولوجيات هذه الطبقة. ولا تختلف هذه الإيديولوجية عن مثيلتها في الأنظمة العربية من حيث اعتمادها على الأفكار الكنسية الغربية، التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر»، والتي تقوم على تحديد الهوية القومية عبر تمايز عدواني مع القوميات الأخرى كما يشير في مقال «أزمة المشروع الفلسطيني».

كان غالب هلسا ماركسيًا يحمل فكرًا جدليًا في قراءة واقع وشكل الصراع مع «إسرائيل». وكان يعتبر صياغة علاقة بين الثورة الفلسطينية وما أسماه هو بـ«الثورة العربية» ضرورة موضوعية لتحرير فلسطين وتحرّر الشعوب العربية. فالثورة العربية من وجهة نظره كانت تملك عمقًا اجتماعيًا تفتقده الثورة الفلسطينية. وفي الوقت الذي كانت فيه «الثورة العربية تواجه مجموعة من الطبقات ذات الامتداد العالي، فإن الثورة الفلسطينية كانت في مواجهة مباشرة مع احتلال خارجي. وتحالف غالبية الفئات الحاكمة مع معسكر الإمبريالية، الذي يقيم الكيان الصهيوني علاقة عضوية معه، يرفع المشكلة الاجتماعية إلى مستوى المواجهة مع هذا الكيان، كما أن المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني تضع الثورة الفلسطينية في صراع مع المعسكر الإمبريالي وبالتالي مع الطبقات الحاكمة العربية»20. لذلك كان يرى أنه من الممكن اكتشاف العلاقة بين الثورتين لو كان هناك رؤية نظرية شاملة تقوم على فهم آخر لطبيعة المعركة مع إسرائيل.

أزمة التمويل

فكّك غالب البرجوازية الفلسطينية من حيث عناصر تكوينها وموقعها، سواء في الاقتصاديات العربية أو تلك التي نشأت داخل منظمة التحرير بالاستفادة من مصادر تمويل الثورة، معتقدًا أن هذه البرجوازية، بحكم بنيتها، يصعب أن تلعب دورًا ثوريًا، ولا يمكن أن تكون برجوازية محلية (وطنية)21.

فمثلًا، تتوزع النشاطات الاقتصادية للبرجوازية الفلسطينية في الأردن، بحسب غالب، بين أنشطة مرتبطة بشركات أجنبية وأنشطة مقاولات وخدمات مندمجة في بنية اقتصاد أردني غير منتج. هي ليست برجوازية صناعية تتناقض مصالحها مع مصالح رأس المال الغربي لتسعى بسبب هذا لتوحيد السوق المحلي، بل إن نشاطها الاقتصادي يعتمد على الانفتاح والتحالف مع رأس المال الأجنبي22.

كذلك البرجوازية الفلسطينية التي استفادت من مشاريع البترودولار. حيث يحلل غالب طبيعة المال الخليجي باعتباره «مال بدون جهد اجتماعي منتج»، يتحرك في بنية سياسية تعتمد على البترول كمصدر وحيد للثروة، ويخضع ضمان تدفق المال فيها لشروط سياسية معينة تحكم على هذه الحكومات بالتبعية للمعسكر الإمبريالي. في مصر ما بعد عبد الناصر، سعت الأموال النفطية، من خلال الاتفاقيات الاقتصادية التي جرت في فترة السادات، إلى «إلغاء إمكانية قيام بورجوازية وطنية حقيقية واستبدالها ببرجوازية طفيلية». وحدث الشيء ذاته، بحسب هلسا، داخل البرجوازية الفلسطينية، «حيث أن تركيبها العضوي الضعيف، وتهديد أرباحها بواسطة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، جعل بنيتها تتحول وترتبط بطوفان الأموال النفطية»23.

المال الخليجي لم يغير فقط بنية قيادة منظمة التحرير  بل أصبح من يملك المال هو من يملك القرار السياسي الحاسم بالإضافة للشرعية المكتسبة

اعتقد هلسا أن تيار المال السعودي والخليجي المتدفق لدعم الثورة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي خلق سياقًا جديدًا داخل الثورة الفلسطينية، حيث نشأت طبقة يسميها غالب بـ«البيروقراطية الطفيلية» تعتاش على الثورة، طبقة جديدة تشكلت من «أمراء المال وأصحاب المصالح الاقتصادية» وأصبحت ترتبط عضويًا بمصادر التمويل النفطية. ويؤكد أن هذه الطبقة لم يعد لها مصلحة في وضع السلاح بأيدي الفقراء الفلسطينيين وأبناء المخيمات. المخيم الذي كان ينظر له غالب باعتباره «قاعدة الثورة» لأنه «يعيش تحت مستوى الطبقات»، أي أنّه لا يملك أي أفق اقتصادي أو اجتماعي يستطيع من خلاله تغيير العلاقات الطبقية، أفقه الوحيد إزالة إسرائيل، وهذا ما يجعله بحسب هلسا: «مستعصيًا على الحلول الوسطية»24.

هناك العديد من الأسباب السياسية التي دفعت قيادة منظمة التحرير بالذهاب إلى مشروع التسوية كخيار وحيد لحل القضية الفلسطينية. لكن غالب يركز على دور المال والارتهان لمصادر التمويل كعامل رئيسي للتحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الثورة الفلسطينية. يتساءل هلسا، هل دفعت السعودية هذه الأموال للثورة حبًا بها؟ أم أن المال المدفوع لا بد أن يخدم مصالح الدولة التي تدفع؟25.

يعتقد غالب أن المال الخليجي لم يغير فقط بنية قيادة منظمة التحرير من خلال «خلق فئة بيروقراطية داخل الثورة التي انتقلت الى مستوى الكومبرادور الفلسطيني وتحالفت معه» بل أصبح من يملك المال هو من يملك القرار السياسي الحاسم بالإضافة للشرعية المكتسبة، وهذا أدى بحسب هلسا، إلى ضرب أية «إمكانية لسيطرة قوى جذرية على الثورة»، هذا من جانب. من جانب آخر ساهم المال بخلق ما يسميه غالب «السياق»، وما يقصده هلسا بالسياق هو «أن تخلق مصالح واحتياجات وثقافة داخل مجموعة معينة من الناس، سواء كانوا دولة أم طبقة، أو حتى ثورة» هذا سوف يؤدي إلى الالتقاء بالقوة التي وضعت هذا السياق26. وهذا ما فعله المال بالثورة، إذ أصبحت كما يقول غالب «مصدر رزق، ثم نشأت في أحضانها برجوازية بيروقراطية ترتبط بشكل عضوي بالسلطة السعودية والطبقة الكومبرادورية الفلسطينية». وانعكس هذا على شكل وطبيعة التحالفات السياسية للقيادة اليمينية لمنظمة التحرير. حيث أخضعت العلاقات مع قوى الثورة العربية لعنصر التمويل وارتباطاته السياسية.

ساهم التمويل أيضًا بحسب هلسا، بتراجع فكرة الثورة لمصلحة فكرة الدولة التي لها «مؤسساتها ومقدساتها وتابوهاتها»، وعبّرت منظمة التحرير عن الشكل السياسي للدولة، وأصبحت وحدة أبناء هذه الدولة «منظمة التحرير» هدفًا قائمًا بذاته يجب المحافظة عليه بأي ثمن كان. وكثيرًا ما وضع هذا الهدف كمقابل للعمل المسلح. يقول غالب هلسا: «تنسى هذه الأطروحة العلاقة الوثيقة بين منظمة التحرير وبين الثورة، وبين الثورة والكفاح المسلح. إن المسألة توضع واقفة على رأسها: منظمة التحرير مقدس لا يمس، أما الكفاح المسلح فخاضع للنقاش، وكأن منظمة التحرير وجدت قبل الشعب الذي يمارس الكفاح المسلح ويجب أن تبقى بعده، وبهذا تصبح منظمة التحرير هي العنصر الثابت والشعب هو العنصر المتغير الذي يمكن التضحية به»27.

بعد خروج الثورة من بيروت، أشار غالب في الكثير من كتاباته إلى نية قيادة منظمة التحرير أن تكون بديلًا للثورة المسلحة. تسعى من خلال العمل الدبلوماسي أن تنال الاعتراف العالمي وتتخلص من «إحراج الكفاح المسلح» الذي يقف في وجه هذا النشاط الدبلوماسي الذي يمكنها من الذهاب إلى تسوية مباشرة من أجل إقامة دولة على 17% من أرض فلسطين (الضفة وغزة) يديرها نظام عربي يميني محافظ كما كان غالب هلسا يصفه في ثمانينيات القرن الماضي.

خاتمة

تكمن أهمية العودة إلى غالب هلسا اليوم لسببين رئيسيين: أولًا، تسليط الضوء على نموذج خاص من المثقف كان يجسده غالب، ثانيًا، الوقوف على فكر وقراءة غالب هلسا للصراع العربي الاسرائيلي والبناء عليه.

كان غالب مفكرًا ومناضلًا سياسيًا له صلة مباشرة بالأفكار التي كان يحاول من خلالها فهم الواقع لتغييره. رفض غالب أن يتحول إلى خبير» أو مراقب، بل كان مثقفًا نقديًا ومحرّضًا سياسيًا من موقع المشاركة والتفاعل مع الواقع السياسي والحزبي. وبقي وفيًا لأفكاره وحافظ على هذا النموذج من المثقف الذي كان يصدره باعتباره النموذج الواقعي. من يقرأ ما كتبه غالب عن غسان كنفاني أو مهدي عامل يدرك تمامًا بأن غالب كان يريد أن يُكرّس هذا النموذج من المثقف المكتمل» -كما كان هلسا يصف مهدي عامل- كنقيض لنماذج أخرى حاربها غالب كـ«المثقف المتقاعد» أو «مثقف المال والسلطة». كثيرا ما سخر غالب من نموذج «المثقف المتقاعد» الذي «يحتج» على قمع السلطة بالتوقف عن الكتابة وممارسة دوره في النقد، وكان هلسا يصف هذا الفعل «الاحتجاجي» باعتباره ممارسة العتب على سلطة لم تنصفهم، كالأطفال الذين يمتنعون عن الطعام لأن الأب لم يلب طلباتهم. ورفض أن يتحول إلى هذا النوع من المثقف مع كل الممارسات القمعية التي مورست عليه من الأنظمة العربية من سجن وتنكيل وترحيل.

أمّا ما يميز فكر وقراءة غالب هلسا للصراع العربي الإسرائيلي فكان تقديمه لمحاججة نظرية متماسكة ومركبة ترفض التسطيح. قراءة جدلية تقوم على تفكيك العلاقة العضوية بين مجموعة من العناصر كوجود الاحتلال وواقع الأنظمة العربية وطبيعة الاقتصاد العربي وعلاقته بنشوء الطبقات الاجتماعية. ما قدّمه غالب من قراءة نقدية لقيادة الثورة الفلسطينية يستدعي إعادة النظر بطبيعة وشكل الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي الذي لم ينظر له غالب هلسا باعتباره «شأنا فلسطينيًا» سواء من ناحية القوى الاجتماعية الحاملة لمشروع التحرير أو ما يعنيه وجود هذا النوع من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين على بلدان وشعوب منطقتنا.

  • المراجع

    1- العقل السلبي والعقل الايجابي، اختيار النهاية الحزينة، يوميات الصراع الطبقي في الساحة الفلسطينية في عقد الثمانينيات، ناهض حتّر، الانتشار العربي، بيروت، 2008، ص 365.

    2- عالم غالب هلسا، نزيه أبو نضال، نصوص الندوات التي أقيمت في منتدى شومان ضمن أسبوع غالب هلسا، عمّان، 1996، ص7.

    3- هوية الفلسطيني، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص 147.

    4- هوية الفلسطيني، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق ص147.

    5- غالب هلسا دراسات نقدية، موفق محادين، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2002، ص32.

    6- غالب هلسا دراسات نقدية، مرجع سابق، ص 40.

    7- غالب هلسا دراسات نقدية، مرجع سابق، ص41.

    8- هوية الفلسطيني، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص150.

    9- التنظيم الثوري والكفاح المسلح، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، 171.

    10- أزمة المشروع الفلسطيني، حول مفهوم البرجوازية الوطنية، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص127.

    11- أزمة المشروع الفلسطيني، حول مفهوم البرجوازية الوطنية، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص128.

    12- هوية الفلسطيني، اختيار النهاية الحزينة، ص149.

    13- أزمة المشروع الفلسطيني، حول مفهوم البرجوازية الوطنية، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص 113.

    14- الثورة الفلسطينية: الواقع والآفاق، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص181.

    15- أزمة المشروع الفلسطيني، حول مفهوم البرجوازية الوطنية، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص126.

    16- «المغترب الأبدي» يتحدث، حوارات مع غالب هلسا، تقديم أحمد خريس، أزمنة للنشر والتوزيع، 2004، ص60.

    17- أزمة ثورة أم أزمة قيادة، غالب هلسا، منشورات الانتفاضة، ص 29-30.

    18- هوية الفلسطيني، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق ص149.

    19- التنظيم الثوري والكفاح المسلح، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص172-173.

    20- الثورة الفلسطينية: الواقع والآفاق، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق ص 180.

    21- «المغترب الأبدي» يتحدث، مرجع سابق، ص 140-141.

    22- أزمة المشروع الفلسطيني، حول مفهوم البرجوازية الوطنية، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص 88-89.

    23- أزمة ثورة أم أزمة قيادة، مرجع سابق، ص12.

    24- المخيم الفلسطيني، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص 55-56.

    25- أزمة المشروع الفلسطيني، حول مفهوم البرجوازية الوطنية، اختيار النهاية الحزينة، مرجع سابق، ص93.

    26- أزمة ثورة أم أزمة قيادة، مرجع سابق، ص21.

    27- أزمة ثورة أم أزمة قيادة، مرجع سابق، ص23.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية