ترامب و«شركاؤه»: إلى أين أوصلنا «سلام الشجعان»؟

الخميس 07 كانون الأول 2017
BALKIS PRESS / ABACA PRESS / TNS. الرياض، ٢١ أيّار، ٢٠١٧

«الرئيس ترامب صديق وشريك حقيقي. بإمكانكم الاعتماد علينا للعمل سويًا من أجل السلام والاستقرار». هكذا غرّد الملك عبد الله الثاني في العشرين من أيلول الماضي، بعد لقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نيويورك. حينها، قال ترامب إن علاقة بلاده بالأردن، الشريك والحليف، «لم تكن يومًا أفضل مما هي عليه الآن».

اليوم، وبعد أسابيع من التوقعات بهذه الخطوة، يعلن ترامب، «الصديق والشريك»، رسميًا اعتراف الولايات المتحدة بالقدس «عاصمةً لإسرائيل»، وعزم إدارته نقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب، بعد أكثر من عقدين على تمرير الكونغرس لقرار يقضي بذلك، ظل الرؤساء الأمريكيون يؤجلون تنفيذه حتى الآن.

«بعد أكثر من عقدين من الاستنكاف [عن تطبيق القرار]، لم نصبح أقرب إلى اتفاق سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين»، يقول ترامب. «من الحماقة أن نفترض أن تكرار المعادلة نفسها سيقود إلى نتيجة مختلفة أو أفضل». وهذه «المعادلة» التي ترمى اليوم من النافذة ليست سوى ما ظلت الأنظمة العربية تبيعه لشعوبها منذ أكثر من خمسة عقود.

بئر التسوية الذي لا قاع له

حين أرسل الأردن، وغيره من الدول العربية، جنوده إلى ساحات المعركة في حرب حزيران 1967، لم يكن هؤلاء ذاهبين لتحرير القدس الشرقية، بل لتحرير فلسطين. أُبلغت أسر الشهداء ومن خلفها الشعوب العربية بأن دماءهم لن تذهب سدى، وأنه لن يتم التراجع عما دافعوا عنه. لكن الهزيمة انعكست في تحول الخطاب الرسمي العربي إلى المطالبة بـ«إزالة آثار العدوان» كأمر واقع جديد، أي العودة إلى وضع الرابع من حزيران 1967، وكأن قضية فلسطين بدأت منذ هذا التاريخ.

بذلك، ترسخت معادلة «الأرض مقابل السلام» الإسرائيلية، بحيث أصبح القبول بحدود الرابع من حزيران ثمنًا لاعتراف الأنظمة العربية بإسرائيل. وحتى بعد أن وقعت السلطة الفلسطينية والأردن ومصر معاهدات سلام مع إسرائيل، ظل هذا الاعتراف -خطابيًا على الأقل- مشروطًا بأن تلتزم إسرائيل بجانبها من الاتفاق، أي الانسحاب من الضفة الغربية بما فيها القدس «الشرقية»، وتفكيك المستوطنات، وإيجاد «حل ما» لقضية اللاجئين.

لكن أيًًا من ذلك لم يتحقق، ولم تجد الأنظمة العربية المعترفة في ذلك سببًا في سحب اعترافها أو مساءلته. بل وجدت نفسها أمام مطالبات أمريكية وإسرائيلية تزداد جرأة يومًا بعد يوم، بدأت بالاعتراف بيهودية الدولة العبرية، ووصلت اليوم إلى حسم مسألة القدس كعاصمة «أبدية موحدة» لإسرائيل. أي أن «عملية السلام» التي ظلت لعقود مجرد «عملية» لا تنتهي تكرس من أجلها موارد «المجتمع الدولي» دون أن تصل إلى أي حل في المحاور الأساسية الثلاثة فيها (القدس والحدود واللاجئين)؛ حتى هذه العملية أعلن ترامب نهايتها.

انتفى الأساس السياسي للمطالبة بالقدس، وما أصبح متاحًا اليوم لهذه الأنظمة العربية هو فقط التعامل مع القدس باعتبارها مكانًا دينيًا ثقافيًا. لذا من الطبيعي أن نسمع تكرارًا لخطاب الوصاية على المسجد الأقصى الذي يعبر عنه الملك عبد الله الثاني باستمرار، والذي أكد عليها الملك سلمان حين قال إن «من شأن هذه الخطوة الخطرة استفزاز مشاعر المسلمين كافة حول العالم نظراً لمكانة القدس العظيمة والمسجد الأقصى القبلة الأولى للمسلمين». مثل هذه الردود مناسبة لواشنطن التي ظلت «مرتاحة تمامًا للتنديد المنضبط الذي صدر عن الدول العربية المعتدلة»، حسبما نقل معلق سياسي إسرائيلي عن مسؤول «كبير جدًا» في الإدارة الأميركية. وبعدما أكد نتنياهو في خطابه على «نيته الحسنة» بالسماح للمصلين المسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى، فإن القبول اليوم برؤية ترامب للقدس، إذا تمّ، لن يبقي للخطاب الرسمي العربي تجاهها أي تمايز عن رؤية نتنياهو لها.

ثمن مسار التسوية

صاغ الأردن تعريفه الخاص لـ«عملية ديمقراطية» تتوافق مع مسار التسوية، فعدّل قوانين الانتخاب لتشكيل مجالس نيابية طيعة لتمرير اتفاقيات «السلام»، وأدخل قوانين تجرّم الخطاب المعادي لإسرائيل، وعدّل المناهج التعليمية من أجل «إزالة مظاهر العداء»، وتطبيع وجود إسرائيل في الوعي الجمعي. كل ذلك انعكس على العملية السياسية في مجملها بتضييق الحريات وتأجيل مسار الإصلاح السياسي إلى حين بلوغ الشعوب «النضوج الديمقراطي» اللازم لتقبل مسار التسوية.

سخّرت الأنظمة العربية التي دخلت في مسار «السلام» مع «إسرائيل» كل منظومتها الدعائية ومؤسساتها الإعلامية للتحريض على كل من يشكك بمآلات هذا المسار

كان لمعاهدة وادي عربة أثر كبير على شكل المؤسسات التمثيلية وطبيعة النظام السياسي في الأردن، فقد كرّس هذا المسار النظام السلطوي القائم على تفرّد الملك بالحكم، وأجهض أي احتمالية لتكريس دور المؤسسات التمثيلية والمضي قدمًا بـ«التحول الديمقراطي» الذي انطلق عام 1989.

مقابل هذا التكريس العنيف لمسار التسوية، سخّرت الأنظمة العربية التي دخلت في مسار «السلام» مع «إسرائيل» كل منظومتها الدعائية ومؤسساتها الإعلامية للتحريض على كل من يشكك بمآلات هذا المسار واتهمت من رفض الاستسلام للحل الدبلوماسي من حركات المقاومة والأحزاب السياسية التي مارست النضال الشعبي إما بالمراهقة السياسية أو بالمغامرات غير المسؤولة. ولم تكتفِ هذه الأنظمة بالتحريض فحسب، بل نسقت مع الاحتلال أمنيًا لتصفية هذا النموذج الرافض للهزيمة، وتساوقت مع خطاب إسرائيل في اعتبار كل من يهدد أمنها إرهابيًا مخربًا، وسوّقت لنموذجها الخاص لما تعنيه المقاومة المقبولة -على الأقل في حالة السلطة الفلسطينية- بما يتفق مع شروط مسار التسوية.

شركات أمنية من أجل «السلام»

هذه الأنظمة التي قدمت نفسها كشريكة «شجاعة» في السلام، مستعدة لتقديم التنازلات الصعبة واتخاذ القرارات غير الشعبية، يعاملها ترامب اليوم كشركات أمنية يُطلب منها أن تتعامل مع مشاكل «سفك الدماء والجهل والإرهاب» التي تعرقل مستقبل المنطقة «الباهر». فهذه الدول، حسبما قال ترامب في القمة العربية الإسلامية في الرياض قبل أشهر، «لا يمكنها انتظار تدمير القوة الأمريكية لهذا العدو [الإرهاب] بالنيابة عنهم».

في ضوء هذا التعهد بالمطلق بالبقاء «إلى جانب» الولايات المتحدة، يصبح من غير المستغرب أن يطلق ترامب خطته لما يسميه «الصفقة النهائية» للسلام في المنطقة

بوسع ترامب اليوم أن يمرر مثل هذه التوبيخات الضمنية للأنظمة العربية، كما بوسعه أن يقارنها في خطابه بـ«إسرائيل» كـ«واحدة من أنجح الديمقراطيات في العالم». كيف لا وقد ضمن ولاء قادة هذه الأنظمة اليوم وغدًا وعلى الدوام. «نحن جميعًا نقاتل معًا»، قال الملك عبدالله الثاني وهو جالس إلى جانب ترامب في نيويورك أيلول الماضي. «لدينا محنة الإرهاب حول العالم. لكنني أعتقد أن الأردن سيقف دائمًا إلى جانبك وإلى جانب بلادك. وسوف ننتصر». في ضوء هذا التعهد بالمطلق بالبقاء «إلى جانب» الولايات المتحدة، يصبح من غير المستغرب أن يطلق ترامب خطته لما يسميه «الصفقة النهائية» للسلام في المنطقة، في تعبير يذكر بـ«الحل النهائي» النازي للمسألة اليهودية.

اليوم تصل «عملية السلام» هذه إلى مداها، ويعلن ترامب أنه «لا يمكننا أن نحل مشاكلنا بالتمسك بنفس الافتراضات الخاطئة، وتكرار نفس استراتيجيات الماضي الفاشلة». وبذلك يوضع جانبًا «المشروع» الذي علقت عليه هذه النخب الحاكمة آمالها واسترشدت به ليس فقط فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل، بل فيما يخص الكثير من قضاياها الداخلية أيضًا. بفشل هذه العملية التي قُمعت من أجلها تحركات شعبية، وعُطلت بها الحياة السياسية، وزُج الناس في السجون أو قُتلوا لحمايتها، من المنطقي اليوم أن نسائل هؤلاء «الرجال الناضجين» عمّا أنتجه عقود من التسوية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية