بقلم شادي لويس
صور الجنود المستسلمين على جسر البسفور في إسطنبول، أمام جماهير المواطنين الذين نزلوا للشوارع والميادين تلبية لدعوة أردوغان لهم للدفاع عن الديمقراطية، هي ربما ما أشد ما سيعلق في الذاكرة من دراما انقلاب ليلة الجمعة الفاشل. وفيما تبدو تلك الصور للكثيرين، وعن حق، تجسيدًا لانتصار الديمقراطية وإرادة الجماهير، ودلالة قاطعة على طي صفحة تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي التركي، ونهاية لعصر الانقلابات العسكرية، فأن صور أخرى من تلك الليلة وما تلاها قد تؤرق تلك الذاكرة أيضًا، وترسم مسارات المستقبل التركي لسنوات قادمة.
صور الجنود المجردين من ملابسهم، والجندي المقيد في أحد المساجد وعليه آثار التعذيب، والجنود الذين تبدو في أعينهم علامات الرعب بينما ينهال عليهم المدنيين بالركل وضربات الأحزمة، وأجساد الجنود المضرحة بالدماء، أثارت قلق قطاع غير قليل من الأتراك مما سيأتي، وألحقت مهانة وغضبًا مكتومين بين صفوف المؤسسة العسكرية التركية التي وقف معظم قياداتها مع مؤسسات الدولة المنتخبة. وفوق ذلك، كانت تأكيدًا على أن صدوعًا تاريخية في المجتمع التركي وفي مؤسسات الدولة قد تم تعميقها.
ومن جهة أخرى، تحيلنا صور الاحتفالات بسحق الانقلاب العسكري، يوم السبت الفائت، في ميدان «تقسيم»، لصور احتجاجات «منتزه جيزي» قبل ثلاث سنوات في الميدان نفسه. فالاحتجاجات التي استلهمت حينها ثورات الربيع العربي، والتي قمعتها الشرطة بعنف مبالغ فيه، كانت تعبيرًا عن غضب قطاعات حضرية معتبرة في المجتمع التركي من سياسات حزب العدالة والتنمية، ومن سعي أردوغان الحثيث للهيمنة على مؤسسات الدولة وتوسيع سلطاته، بالإضافة لجزع القطاعات العلمانية من عمليات أسلمة الدولة والمجتمع، وتأليب الحزب الحاكم لقواعده في الريف على الحضر، ومؤيديه من الطبقات الشعبية ذات المزاج المحافظ على فئات الطبقة الوسطى ذات الميول الثقافية العلمانية والغربية.
ومع أن السلطات التركية نجحت في إخماد الاحتجاجات في النهاية، ليؤكد حزب العدالة والتنمية لاحقًا على شعبيته مع تراجعها، عبر فوزه بالنسبة الأعلى من مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات العامة عام 2015، إلا أن الحزب الحاكم، وعلى رأسه أردوغان، لم يبدو معنيًا بمعالجة الأسباب التي دفعت لتلك الاحتجاجات. فاستفحال حملات قمع المعارضين ووسائل الإعلام، وتقييد حرية التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي، واستهداف أعضاء البرلمان من الأحزاب المعارضة قضائيًا، ومؤخرًا دعوة رئيس البرلمان لإقرار دستور إسلامي للدولة، بالإضافة لحملات «التطهير» المستمرة لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية من العناصر المناوئة للحزب الحاكم، وهستيريا مؤامرات «الدولة العميقة» و«الكيان الموازي» التي تبثها وسائل الإعلام المحسوبة على حزب العدالة والتنمية، كل ذلك كان كفيلًا بتعميق الصدوع في المجتمع التركي وبين تياراته السياسية.
لكن الأمر لا يتوقف عند الانقسامات التاريخية على خطوط العلماني/الإسلامي، والمدني/العكسري، والريف/الحضر. فسياسات الحكومة التركية الخارجية، وموقفها من الصراع الدائر في سوريا، وبشكل أقل في العراق، وتورطها في خصومات مع جيرانها وقوى إقليمية ودولية من ضمنها إسرائيل وروسيا وإيران وحتى مصر، وتوتر علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، بالإضافة لاستضافة ملايين اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، وتجدد الصراع العسكري مع الجماعات الكردية المسلحة في الجنوب، كانت مثارًا للانقسامات حتى بين مؤيدي الحكومة، وداخل الحزب الحاكم نفسه.
ففيما كان النمو الاقتصادي الاستثنائي، والقفزات المتوالية في مستوى المعيشة وبالأخص في صفوف الطبقة العاملة في الريف في العقد الماضي، من دعائم شعبية حزب العدالة والتنمية، إلا أن توتر العلاقات التركية الخارجية وتتابع الهجمات الإرهابية التي نفذتها المنظمات الكردية المسلحة وتنظيم الدولة الإسلامية على الأراضي التركية موخرًا، وتمدد الصراع السوري إلى داخل الحدود التركية، كان له آثار عميقة على معدلات التضخم، والاقتصاد التركي إجمالًا، خاصة في مجالات السياحة والاستثمارات الأجنبية والغاز.
أحداث الأيام القليلة الماضية كشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن هشاشة الوضع السياسي التركي والحاجة الملحة لمد جسور من التفاهم بين أطرافه.
كانت تلك العوامل معًا دافعًا لانقلاب ناعم، داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، قبل شهرين من محاولة انقلاب الجمعة العسكري الفاشلة. فاستقالة أحمد داوود أوغلو من رئاسة الحزب ومن منصب رئيس الوزراء، نهاية أيار الماضي، بعد فترة غير قصيرة من توتر العلاقات مع حليفة القديم، أردوغان، وبدء رئيس الوزراء الجديد، بن علي يلديريم، في رأب صدع العلاقات الخارجية، بالمسارعة لاستعادة العلاقات الودية مع كل من إسرائيل وروسيا، وتليينه للخطاب الحاد تجاه كل من النظام السوري والأكراد مؤخرًا، كانت علامات على تحسس الحزب الحاكم وقياداته لأزماته وتراجع شعبيته، وإدراكه لحتمية مراجعة سياساته الداخلية والخارجية على حد سواء، بل والتراجع عن كثير منها بشكل دراماتيكي.
يستقبل الكثير من الأتراك صور احتفالات ميدان «تقسيم» بدحر الانقلاب في اليومين الماضيين بترقب ممزوج بالجزع. فالقلق من تصاعد الخطاب الشعبوي والإسلامي داخل الحزب الحاكم، ومن إيقنة أردوغان على إثر محاولة الانقلاب الفاشلة هي، في نظرهم، تهديد للديمقراطية ومؤسسات الدولة والحريات العامة، قد لا يقل فداحة عن الانقلاب العسكري.
أمام ذلك القلق المبرر، يبقى لدى حزب العدالة والتنمية طريقان للاختيار بينهما، إما انتهاز فرصة تضامن كافة الأحزاب السياسية ومعظم قيادات المؤسسة العسكرية مع الديمقراطية وضد الانقلاب، وحماسة الجماهير المنتصرة لإرادتها، للسعي لمصالحة وطنية واسعة تضم كافة التيارات السياسية والطبقات الاجتماعية في المجتمع التركي، مع مراجعة سياسات الحزب المثيرة للخلاف في الماضي، للوصول إلى الحد الأدنى من التوافق العام، أو الاستسلام لزهوة النصر وشن حملة للانتقام من الخصوم وتصفية الحسابات العالقة مع المعارضين، ومن ثم الاستيلاء على مؤسسات الدولة بالكامل.
لا تبدو في المسارعة باتهام فتح الله غولن وجماعته بتدبير الانقلاب، دون أدلة أو مبررات مقنعة، وفي عزل ألوف من القضاة وتوقيف المئات منهم، والدعوة لإقرار عقوبة الإعدام مرة أخرى لمعاقبة مدبري الانقلاب، إضافة لتصريح أردوغان بأن الانقلاب «هبة من الله لتطهير القوات المسلحة» علامات مبشرة بشأن هذا الاختيار.
لكن في الوقت نفسه، فإن أحداث الأيام القليلة الماضية، وموقف الأحزاب السياسية وأغلبية الشعب التركي منها، كشفت بما لا يدع مجالًا للشك، للحزب الحاكم والقوى السياسية الفاعلة بكافة مشاربها، عن هشاشة الوضع السياسي التركي، والحاجة الملحة لمد جسور من التفاهم بين أطرافه، وضرورة رأب الصدوع في مؤسسات الدولة وبين فئات المجتمع. هذه طموحات تعززها قدرة حزب العدالة والتنمية في الماضي على مراجعة مواقفه وتعديلها، حين يلزم، وكذلك إظهار الأحزاب العلمانية والكردية لتمسكها بالمؤسسات الديمقراطية، وفوق كل ذلك، صور الأتراك المحتفلين في الميادين، الذين عمّقوا إدراكهم بأن مصير دولتهم وديمقراطتيهم في أيديهم ورهن إرادتهم، هم وحدهم.