كيف توقف الأردن عن زراعة القمح عبر 50 سنة


الأربعاء 12 كانون الأول 2018

تصميم مايا عامر وبرمجة رامي عرفات

 

هذا التقرير جزء من ملف مشترك بين مجموعة المواقع الإلكترونية العربية المستقلّة هي منشور، والجمهورية، وحبر، ومدى مصر، وكحل، والمفكرة القانونية، وصوت، وميغافون. للاطلاع على الملف كاملًا، اضغط/ي هنا.

 

«مكتوب اسمها على اليافطات «بيادر» وادي السير. ما دامها ما ضلت «بيادر» يغيروا اسمها على الأقل»، يقول محمود العوران، المدير العام للاتحاد العام للمزارعيين الأردنيين، وهو يصف حي البيادر داخل لواء وادي السير، غرب عمّان، الذي اشتهر بسهول القمح والشعير، قبل أن يتحول لمنطقة صناعية وسكنية كثيفة في العقود القليلة الأخيرة.

عام 1973، أنتج وادي السير خُمس ما أنتجه قضاء عمّان كاملًا والمقدّر بخمسة آلاف طن. كان ذلك رغم أنه هذا العام كان عامًا وصفته النشرة الزراعية الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة حينها بالسيء، نظرًا لقلة الأمطار، ما جعل إنتاج الأردن كلها في تلك السنة ينخفض بنسبة 79% عن العام السابق.

في عام 2016، أصبح إنتاج محافظة العاصمة كلها -والتي اختلف تقسيمها منذ السبعينيات حتى اليوم- أقل من إنتاج وادي السير وحدها قبل 43 عامًا.

ما حصل في البيادر أو عمّان ينسحب على باقي مناطق زراعة القمح في الأردن، والتي انخفضت مساحتها على مدار الخمسين عامًا الماضية من مليوني دونم في بداية السبعينيات إلى أقل من 300 ألف دونم زُرعت قمحًا عام 2016.

يبحث هذا التقرير عن سبب تراجع زراعة القمح في الأردن، وهل كان وراء ذلك أسباب سياسية كما يعتقد كثير ممن قابلناهم. للإجابة عن ذلك، يعرض التقرير عوامل عدة ارتبطت ببعضها وشكّلت عائقًا أمام قدرة المزارعين على الاستمرار في زراعة القمح. على رأس تلك العوامل، كان الزحف العمراني، وارتفاع أسعار الأراضي، وتفتت الملكية بين ورثة الأرض، والتوّجه نحو زراعة الأشجار المثمرة. وإلى جانب العوامل المؤثرة على توفر الأراضي للزراعة، هناك أيضًا تغيرات مناخية كالتذبذب في التوزيع المطري، إضافة إلى توجه عدد كبير ممن كانوا يساعدون عائلاتهم في الزراعة للعمل في الخليج، تزامن ذلك كله مع  استيراد قمح رخيص الثمن، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية.

ويتوقف التقرير عند المغزى من زراعة القمح، الذي تأرجحت النظرة له ما بين اعتباره سلعة استراتيجية تحقق الأمن الغذائي للأردنيين، وبين مقاربات واقعية تدعو لفهم أوسع للأمن الغذائي والسلع الاستراتيجية، في ظل عدم قدرة القمح الأردني على المنافسة.

قمح محلي لأسبوعين في السنة

صباح كل يوم، تحتاج الأردن لـ2000 طن من القمح لإنتاج الخبز لإطعام نحو 10 مليون شخص يعيشون في المملكة، بحسب زياد الشورات رئيس قسم المنتوجات الحقلية في وزارة الزراعة. وبحسبه فإن معدّل إنتاج الأردن من القمح يصل لـ20 ألف طن سنويًا، بينما تقول وزارة الصناعة والتجارة والتموين إن الإنتاج السنوي لا يتجاوز 13 ألف طن، وتقول أرقام الإحصاءات العامة إن الأردن أنتجت 31 ألف طن عام 2016.

لكن باختلاف هذه الأرقام، فإن إنتاج الأردن لا يكفي احتياجاته لأكثر من أسبوعين في السنة في أحسن أحواله.

في صيف عام 1940، كان حسن النابلسي، أول مدير للاتحاد العام للمزارعين الأردنيين، والمدير العام السابق للمنظمة التعاونية الأردنية، يبلغ من العمر 12 عامًا. كانت العطلة الدراسية تعني أنه سيبقى في سهول قمح عائلته الممتدة في منطقة حُسبان قرب مادبا، وأن ينام على بيدر القمح «بدون سقف» كما يقول، واصفًا تلك الفترة بأنها أهم سنين حياته التي ما يزال يتوق لها لغاية اليوم.

إلى جانب عائلة النابلسي في حسبان، كانت عائلات أخرى تعيش على زراعة القمح في مناطق اليادودة والبشارات وأم الكندم وياجوز وغيرها، إضافة إلى مناطق محافظة إربد في الشمال والبلقاء في الوسط والكرك جنوبًا.

ذلك الاهتمام انتعش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع قوانين وضعتها الدولة العثمانية وإنشاء سكة حديد الحجاز، كما يقول النابلسي، وأصبحت تأتي الأيدي العاملة من فلسطين لزراعة القمح في الأردن، ووصل الإنتاج حدًا منعت معه الحكومة استيراد أي كميات من الخارج عام 1964، و من ثم صدّرت القمح في العام التالي لمصر والسعودية.

[1]في بداية السبعينيات، مرّ الأردن بمواسم جفاف، أدت لتذبذب الإنتاج، حلّ عام 1973، والذي كان عامًا فارقًا، كما يقول النابلسي، ذلك أن حرب أكتوبر التي شهدها ذلك العام وما تبعها من إعلان دول الخليج العربي حظرًا نفطيًا على دول غربية للضغط على «إسرائيل» أدى لتزايد كبير في أسعار النفط تحديدًا عام 1974، ما أحدث طفرة اقتصادية في الخليج.

تلك الطفرة أنعشت الأسواق في الأردن، وارتفعت تحويلات المغتربين من 7.9 مليون دينار في بداية السبعينيات لتصل إلى 236 مليون دينار عام 1980[2]، ووجهت غالبيتها إلى القطاعات الخدماتية/المالية على حساب القطاعات الإنتاجية، وانعكس ذلك مباشرة بارتفاع أسعار الأراضي والعقارات في الأردن. وإلى جانب ارتفاع أسعار الأراضي، توجهت الحكومة الأردنية نحو تقديم تسهيلات تمويلية «لدفع عجلة العمران السكني في المملكة» التي كانت تعاني من «أزمة سكانية حادة» بحسب خطة التنمية الثلاثية لأعوام 1973-1975.

تعكس التقارير السنوية لبنك الإسكان، الذي تأسس عام 1974 تنفيذًا لتوجيهات الخطة الثلاثية للتسهيل على الناس في البناء، تضاعفَ عدد القروض السكنية التي منحها البنك بين عامي 1974-1975 في عمّان والزرقاء ثلاثة أضعاف. وتوضح سياسات الإقراض التي وضعها البنك حينها وجود أولوية للطلبات المقدمة للإقراض من أماكن «غير مكتظة بالسكان وأماكن القطاعات الزراعية والصناعية» من أجل توفير فرص عمل للمواطنين والحد من الهجرة الداخلية.

في موازاة ذلك، لم تسر التشريعات الأردنية الخاصة بتخطيط المدن والقرى بالسرعة نفسها التي انتعش بها سوق العقار كي تحمي الأراضي الزراعية من البناء عليها، بل شهد قانون تنظيم القرى والمدن المؤقت الصادر 1966 والساري حتى الآن تعديلين في تلك الفترة، أحدهما نصّ على توسيع صلاحيات رئاسة الوزراء حينها بإعلان أي منطقة في الأردن إقليمًا تنظيميًا وتشكيل مجلس أقاليم لها كل الصلاحيات في إعادة تعيين حدود المدن والقرى وإقامة المشاريع دون أن يكون لغير أصحاب «المصلحة» القدرة على الطعن أو الاعتراض. كل ذلك قوّض الأدوات المتاحة لحماية الأراضي الزراعية أمام توسع العمران.

عام 1975، انخفضت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح لحوالي النصف، بعد نزولها من مليوني دونم إلى مليون دونم تقريبًا، ولم ترتفع عن ذلك الرقم حتى يومنا هذا، بل تعرضت المساحات المزروعة قمحًا لانخفاض آخر في النصف الثاني من الثمانينات أوصلها إلى نحو نصف مليون دونم، وانخفاض ثالث في بداية الألفيات حتى استقرت حول الـ250 ألف دونم في يومنا هذا.

يقول النابلسي إن دونم الأرض المزروعة قمحًا في ذلك الوقت، أي بعد 1975، كان يعود على المزارع بعشرة دنانير، في وقت وصل فيه سعر الدونم لألف دينار، وهو ما جعل المزارعين أمام خيارات صعبة، بين التمسك في زراعة القمح وجدوى بيعها اقتصاديًا، تحديدًا بعد تزايد «مخاطر» الزراعات البعلية بحسب وزير الزراعة السابق عاكف الزعبي. فمزارعو القمح يتأثرون بكميات الأمطار وتوزيعها واختلاف درجات الحرارة نتيجة التغيرات المناخية، إضافة إلى الآفات الزراعية، ما يجعل تلك الزراعة «مش موفية»، بتعبير الوزير الزعبي.

بموازاة ذلك، فإن الطفرة النفطية في الخليج جذبت إليه عددًا كبيرًا من الأيدي العاملة التي كانت تساعد في الزراعة، من الذين وجدوا في الخليج فرصة مجدية أكثر للعمل، إضافة إلى تزايد الإقبال على الوظائف الحكومية والجيش. بذلك، تحولت زراعة القمح من نشاط تشارك فيه الأسرة بكاملها إلى عمل يحتاج فيه المزارع لاستقدام أيدٍ عاملة، بحسب مختار قرية مخربة في إربد، جاسر الغرّام.

وكما انخفضت المساحات المزروعة بالقمح عام 1975 دون أن ترتفع مجددًا إلى نفس المستوى، ارتفع استيراد القمح عام 1976 لنسبة لم تعد تنخفض بعدها. وفي عامين فقط، تضاعف الاستيراد ثلاث مرات.

نتيجة كل ذلك، جاء إنشاء وزارة التموين في عام 1975 لضبط السوق، ومعها أنشئت الصوامع والمطاحن لتخزين وطحن القمح المستورد، تحضيرًا لمرحلة جديدة يعتمد فيها الناس على الدولة للحصول على الخبز.

«إغراق» السوق بالقمح المستورد، وأمريكا تخفّض أسعار قمحها للعالم

خدمت الظروف البيئية والمناخية والاقتصادية في الأردن موّردي القمح في الخارج، خاصة في الغرب، برأيي العوران، الذي جاء في «الوقت المناسب» ليمدّ الأردن بقمحٍ بأسعارٍ منافسة.

يقول المحلل الاقتصادي مازن مرجي إن إرسال تلك الدول لقمحها بأسعار زهيدة أو كمساعدات أدى لإغراق السوق المحلي بالقمح الخارجي، ما خلق خسائر أكبر للقمح المحلي، وجعل عملية زراعته غير مجدية أكثر، تزامنًا مع ارتفاع أسعار الأراضي وقلة الأمطار والزحف العمراني.

منذ عام 1966، تصاعد استيراد الأردن من القمح من دول عديدة، وتظهر بيانات الاستيراد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت المصدر الأول للقمح للأردن من حيث الكمية والأقل سعرًا بين الدول المصدرة الأخرى حتى بداية الألفية الثانية.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولغاية عام 1976، اتبعت الولايات المتحدة سياسة دعم صادراتها من القمح للعالم، وفتح أسواق جديدة أمام القمح الأمريكي، بحسب ورقة بحثية منشورة عام 1996 بعنوان الاقتصاد السياسي للدعم الأمريكي لصادرات القمح. تقول الورقة إن الحكومة الأمريكية كانت مهتمة بدعم صادراتها من القمح عبر شرائه من المزارعين بأسعار مدعومة. وفي عام 1976، شهد الطلب على القمح ارتفاعًا عالميًا، فرفعت الولايات المتحدة سعر قمحها.

لا توضح بيانات الإحصاءات العامة نسبة المنح من الاستيراد في كميات القمح التي وصلت الأردن من الخارج، لكن وزير الزراعة السابق الزعبي يقول إن الدول الغربية الغنية دعمت مزارعيها دعمًا ماليًا مباشرًا لزراعة القمح، وهو ما عجزت عنه الدول النامية، ما أدى لتشكّل فائض قمح لدى تلك الدول، فأرسلته كمساعدات أو لقاء أسعار رخيصة، «واستخدمته سياسيًا».

تقول وزارة الصناعة والتجارة والتموين إن الأردن لم يحصل سوى على أربعة منح قمح كانت من الولايات المتحدة، وبحجم 250 ألف طن كانت موجهة ضمن برنامج دولي لوزارة الزراعة الأمريكية ومن أجل دعم مشاريع زراعية. وبحسب رئيس قسم العلاقات الأردنية الأمريكية في وزارة التخطيط الأردنية، ناصر عدنان الزعبي، فقد كانت المنح الأربع على التوالي أعوام 2011 و2012 و2015 و2017، وكانت تعمل بمبدأ صرف عوائدها في مشاريع تطلبها الأردن. ورغم أن معايير الوكالة الأمريكية للمنح لا تنطبق على الأردن لارتفاع دخله عن المعايير المحددة، إلا أنها منحت الأردن استثناءً لمساعدته في قضايا اللاجئين، واستُخدمت معظم عوائد تلك المنح في مشاريع تتعلق بالمياه.  

وتظهر بيانات التجارة الخارجية للأردن أنه كان يستورد القمح منذ نهاية الستينيات من دول عديدة بكميات قليلة، لكن العوران  ومرجي يريان في المساعدة الأمريكية تحديدًا في القمح هدفًا سياسيًا، لأنها كانت ذات أسعار تنافسية أدت لجعل القمح المحلي سلعة غير قادرة على المنافسة وغير مجدية ماديًا، في وقت انفتحت فيه الأسواق الخارجية على الأشجار المثمرة. «الاكتفاء الذاتي مش إني أزرع قمح، [الاكتفاء] إني أزرع اللي بتقدر عليه إمكانياتي، وبحقه أشتري قمح، المهم عندي»، يقول وزير الزراعة السابق عاكف الزعبي.

مساحات القمح أمام تفتت الملكية والأشجار المثمرة

في منتصف الستينيات، يذكر المزارع السبعيني ناصر الزعبي من قرية نحلة في جرش أن موفدَين أحدهما من وزارة الزراعة قدموا لينصحوا والده بزراعة أشجارٍ مثمرة، تحديدًا من الزيتون، بدلًا من القمح، لجدواها اقتصاديًا ومناسبتها لمنطقتهم، وأوضحا له أن هناك تسهيلات وحوافز لزارعي الأشجار المثمرة.

حسبما يعرف الزعبي من جيرانه الذين تحولوا فعلًا لزراعة الأشجار المثمرة بدلًا من القمح، فإن الحوافز اشتملت على بناء بئر ماء وسلاسل ومساعدات عينية. «إذا بتعمل حفرة، يعني حفرة زيتون، بتوخذ شلن مثلًا، بس بكون سمن أو زيت أو رز»، يقول الزعبي، الذي رفض والده تحويل زراعة أرضه.

كان ذلك جزءًا من مشروع دخله الأردن منتصف الستينيات، كان اسمه مشروع الأراضي المرتفعة، عمل على تشجيع أصحاب الأراضي التي تمتاز بميلان محدد على زراعة الأشجار المثمرة، خاصة الزيتون، وبناء سلاسل للحفاظ على التربة من الانجراف. يقوم المشروع على تقديم دعمٍ عيني أو مادي -في بعض الأحيان- للمزارعين، منها مساعدتهم في بناء سلاسل وآبار. ويستفيد المزارعون من عوائد أشجارهم ويقومون ببيعها بأسعار جيدة، بحسب ما يقول متحدثون لحبر.

من جهات عدة، تكرر الاتهام لمشروع الأراضي المرتفعة بأنه شكّل إغراءً لمزارعي القمح لتحويل أراضيهم لزراعة الأشجار المثمرة، خاصة الزيتون، بعدما أصبحت عوائد القمح غير مجدية ماليًا. «[غالبية] اللي صار بأراضي القمح كان بسبب مشروع الأراضي المرتفعة»، يقول العوران.

يقول نقيب المهندسين الزراعيين عبد الهادي الفلاحات، الذي أدار مشروع الأراضي المرتفعة لنحو 10 سنوات، إن هذا المشروع حددّ معاييرًا حاسمة تمنع دخول الأراضي التي كانت تُزرع قمحًا، مثل تحديد نسبة ميلان الأرض ومعدل هطول الأمطار بحيث لا تنطبق تلك المواصفات على أراضي زراعة القمح. ويشدد على أن لجانًا فنية خبيرة كانت تنظر في كل طلب للدخول في المشروع وترفض ما لا تنطبق عليه المواصفات. ويوضح بأن الهدف من المشروع حماية التربة من الانجراف في تلك الأراضي واستصلاحها بزراعات تعود بالفائدة على المزارعين.

بحسب الفلاحات، فإن عددًا من المزارعين تحولوا لزراعة الأشجار المثمرة وحدهم دون دور من المشروع، وذلك للعائد المالي من زراعة الزيتون والأشجار المثمرة الأخرى مقابل القمح. «الناس بتشوف أراضي صارت مزروعة أشجار مثمرة بحكولك من المشروع وهو ما بكون إله دخل».

قبل منتصف التسعينيات، كان من الممكن تقديم طلب دخول مشروع الأراضي المرتفعة في كل أراضي الأردن، لينظر فيه بحسب ميلانها وهطول الأمطار بها. لكن عام 1995، أصبح مشروع الأراضي المرتفعة مقتصرًا على مناطق الوسط، بعدما دخل مشروعان جديدان يهدفان أيضًا لاستصلاح الأراضي غير الصالحة للزراعات الحقلية في زراعة الأشجار المثمرة، بحسب الفلاحات، أحدهما يعمل في منطقة حوض اليرموك، والآخر في الجنوب، لتصبح الأراضي في تلك المناطق تتبع لهذين المشروعين لا لمشروع الأراضي المرتفعة. يقدّر الفلاحات المبلغ المصروف على مشروع الأراضي المرتفعة في السنوات العشر التي شغل فيها موقع مدير المشروع بنحو 40 مليون دينار، كان مصدرها حينها برنامج الأغذية العالمية والحكومة الأردنية.

المشروع، الذي أصبح اسمه مشروع استصلاح الأراضي، هو اليوم ممول بالكامل من خزينة الدولة. يوضح رئيس قسم المشاريع في وزارة الزراعة ماجد زكريا لحبر، أن المشروع يلتزم بالعمل وفق معايير محددة تتعلق بنسب ميلان الأراضي وهطول الأمطار، بحيث يشمل أراضٍ غير صالحة للزراعات الحقلية، ويستهدف فقط أراضٍ في مناطق المنحدرات لا تصلح إلا لزراعة الأشجار المثمرة.

لكن فؤاد محيسن، مساعد الأمين العام للمشاريع والتنمية الريفية في وزارة الزراعة سابقًا، يقول إن العديد من المزارعين الذين كانت أراضيهم صالحة لزراعة القمح تمكنوا من الحصول على امتيازات مشاريع الأراضي المرتفعة، لأن الوزارة كانت تحاول مساعدة أولئك المزارعين في ظل الظروف الصعبة التي يواجهونها، وحاجتهم لبناء آبار ماء وغيرها.

ولم تتمكن حبر من الحصول على بيانات حول تلك المشاريع وجهات تمويلها وأماكن عملها، لعدم توفر البيانات للاطلاع داخل وزارة الزراعة.

لكنّ توجه المزارعين لزراعة الأشجار المثمرة بدلًا من القمح سببّه أيضًا صغر الحيازات المملوكة لزراعة القمح، بحسب زياد الشورات، مدير المحاصيل في وزارة الزراعة، الذي يقول إن تفتت الملكية ساهم بشكل كبير في عدم توفر الأراضي الصالحة لزراعة القمح، حيث أصبحت قطعة الأرض الواحدة تقسّم بين الورثة، ما يقلل مساحة الحيازات. ولا أحد يزرع 10 دونمات بالقمح، يقول الشورات، لأن زراعة القمح تتطلب جهودًا من غير المجدي توفيرها لأجل دونمات قليلة، كما أن توجهات الورثة في الزراعة أو بيع الأراضي قد تختلف.

يقول حسن النابلسي إن أرض القمح تحتاج آليةً لحراثتها، ومن غير المنطقي أن يشتري مزارع آلية ويحضر أيدي عاملة من أجل دونمات قليلة من القمح، بينما باقي الزراعات الثمرية من الممكن زراعتها والعناية بها في مساحات صغيرة، ما ساهم في استبدال الأراضي من المحاصيل الحقلية للثمار.

لكنه يستنكر اصطدام الحكومات بعوائق ووقوفها عاجزة أمام حلها. «ما في مشكلة ما إلها حلّ»، يقول النابلسي الذي شغل منصب المدير العام للمنظمة التعاونية للزراعة سابقًا، معتبرًا أن الحكومة بإمكانها التعامل مع بعض المشاكل وفرض الحلول إن شاءت، والمنظمة التعاونية كانت مثالًا على ذلك برأيه.

بحسب قانونها، فإن المنظمة التعاونية كانت تنظم عمل الجمعيات التعاونية الزراعية المنتشرة في المملكة وتنسق جهودها. ويقول النابلسي إن المنظمة مثلًا كانت تملك حلولًا لقضايا تفتت الملكية عبر جمع كل الحيازات الصغيرة وتوفير ما تحتاجه من آليات لمساعدة المزارعين في الاستمرار بزراعة القمح.

لكن المنظمة التعاونية ألغيت عام 1985، لتحل محلها المؤسسة التعاونية، التي تحدد مهامها بالقيام بأمور فنية فقط، وهي المسؤولة عن توزيع البذار على المزارعين وتقديم النصح والإرشاد لهم بحسب وزارة الزراعة.

بالعودة إلى والد الحاج نصار الزعبي في قرية نحلة، فرغم أنه رفض تحويل أرضه للأشجار المثمرة وبقي متمسكًا بزراعة القمح، إلا أنه بعد تقدم عمره وانشغال كل أبنائه في وظائفهم في الجيش والوظائف الحكومية أصبحت قدرته على تحمل زراعة القمح صعبة. فوّزع الأراضي بين أولاده، وقال لهم إنهم أحرار فيما يفعلون بتلك الأرض، بعدما أصبحت كل الأراضي المحيطة بهم أشجار مثمرة. «حكالي خلص، إن جنّ ربعك عقلك ما ينفعك»، يقول الزعبي. لكن الأب أبقى حتى توفي على دونمات قليلة حول منزله يزرعها وحده قمحًا ويطحنه ويأكل منه، رافضًا «خبز السوق».

البناء مقابل الزراعة

في الستينيات، استملكت الحكومة 1200 دونم من أراضي عائلة النابلسي لبناء محطة المشقر الزراعية قرب مادبا. يقول حسن النابلسي إن تلك الأراضي كانت تُزرع بالقمح، لكن أهداف المحطة، التي شملت إكثار بذار القمح وتقديم خدمات للمزارعين، جعلته لا يشعر بأنه خسر تلك الأرض. عام 2004، خصصت الحكومة للجامعة الألمانية 112 دونمًا من أراضي المحطة الزراعية، إلى جانب 30 دونمًا من أراضٍ تابعة لوزارة الزراعة و50 أخرى من أملاك الدولة، من أجل إقامة الجامعة، بموجب كتب رسمية من وزراء المياه والزراعة ودائرة الأراضي والمساحة، وبموافقة رئيس الوزراء.

يقول النابلسي إنه بعد إقامة الجامعة بدأ يتلقى عروضًا لشراء أراضٍ له في محيطها، لكنه يستمر في رفض بيع أي من تلك الأراضي.

يقول حكم، ابن حسن النابلسي، إن إقامة الجامعة هناك لا يعني خروج أراضٍ من زراعة القمح فقط، بل إخراج أراض أخرى مجاورة لتكون لإقامة الأسواق التجارية وغيرها، وهي بالأصل أراضٍ مزروعة بالقمح بحسبه، ما يعني وضع المزارعين هناك مجددًا أمام خيارات رفع الأسعار لقاء تمسكهم بزراعة القمح، في وقت تُظهر صور جوية لمنطقة الجامعة، إقامة أسواق تجارية ومصفّات للسيارات بعد إنشاء الجامعة.

في ردها على مقالات صحفية سابقة انتقدت إقامتها فوق أراضٍ خصبة زراعيًا، تقول الجامعة إنها أُنشئت بموجب إرادة ملكية عام 2005 وسيكون لها دور «كبير» في تحقيق تنمية مستدامة في منطقة المشقر.

لكن حالة الجامعة الأردنية الألمانية ليست استثناءً بالنسبة للعوران، مدير اتحاد المزارعين الأردنيين، الذي يقول إن عددًا من المنشآت بُنيت بشكل يخالف نظام تنظيم استعمالات الأراضي غير المفعّل، بحسبه، وهو النظام الصادر عام 2007 لتصنيف أراضي المملكة الخارجة عن تنظيمات البلديات بحسب استعمالاتها.

يقسّم النظام المناطق الزراعية لأربع فئات ويحدد شكل الأنشطة المسموح إقامتها في كل منها، دون أن يسمح بتنظيم تجمعات سكنية يقل عدد الأبنية بها عن عشرة في أي من المناطق الزراعية، أما ما يزيد عن العشرة أبنية، فيسمح بتنظيمها بموافقة مجلس الوزراء بتنسيب من مجلس التنظيم الأعلى. كما أنه يمنع تغيير صفة الأراضي، إلا أنه يعود ويسمح إذا وافق مجلس الوزراء بتنسيب من مجلس التنظيم الأعلى.

وتحمل وزارة الزراعة صفة العضو المراقب في اجتماعات المجلس، أي أن موافقتها أو عدمها على مشاوراته وتنسيباته غير ملزمة، في وقت يحتاج المجلس لموافقة خمسة من أعضائه التسعة الأساسيين.

يقول الوزير الزعبي إن نظام استعمالات الأراضي أبرز مثال على عدم اهتمام الدولة بوضع استراتيجية واضحة تجاه القطاع الزراعي ككل، واصفًا وزارة الزراعة بالجهة المهمشة داخل هذه المنظومة.

مع تعذر لقاء رئيس مجلس التنظيم الأعلى، تقول مصادر داخل المجلس إنهم يرسلون أحيانًا «استئناسًا» لوزارة الزراعة حول إقامة مشاريع استثمارية على أراضٍ يعتقدون همّ بأنها زراعية، دون أن يوضحوا الآلية التي يستندون لها في تحديدهم للأراضي الزراعية.

حاولت وزارة الزراعة إصدار تعليمات لحماية الأراضي الزراعية، ففي 2014 أصدرت تعليماتها بعدم جواز تغيير صفة أي أرض زراعية إلا وفق تعليمات مجلس التنظيم الأعلى وموافقة مجلس الوزراء، ثم عادت وعدّلت التعليمات عام 2016 وحصرت صلاحية تغيير الصفة لوزير الزراعة. إلا أن تلك التعليمات تبقى غير فاعلة ولا ملزمة، بحسب العوران.

يستغرب العوران من عدم معاملة الأراضي الزراعية في نظام استعمالات الأراضي كما تعامل أراضي التعدين مثلًا، إذ يُمنع البناء فيها إلا بعد أخذ موافقة الهيئة المختصة والتأكد من أن تلك الأراضي لم تعد صالحة للتعدين.

هل نريد فعلًا زراعة القمح في الأردن؟

ليس بالضرورة، تجيب وثيقة السياسة الزراعية الصادرة عام 1995 عن وزارة الزراعة، بينما تجيب بنعم وثيقة لاحقة صادرة عن الوزارة نفسها بعنوان الاستراتيجية الوطنية للتنمية الزراعية للأعوام 2016-2025. إلا أن الممارسات على الأرض تميل لصالح تآكل المزيد من الأراضي الصالحة لزراعة القمح لصالح البناء والعمران.

وثيقة السياسة الزراعية في 1995 لم تتحدث عن أي رغبة للدولة في الحفاظ على زراعة القمح، أو أي آلية لذلك، لكنها ركّزت على نيتها في تشجيع زراعة الشعير بدل القمح في المناطق التي يكون معدل الهطول المطري سنويًا من 200-300 ملم. بينما وضحت الاستراتيجية الوطنية للزراعة عام 2016 رغبة الأردن في زيادة إنتاجه من القمح وزيادات المساحات الزراعية عن طريق دعم المزارعين ماديًا.

يقول عبد الوالي الطاهات، مدير مديرية الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة، إن الحكومة تشتري القمح من المزارعين بأسعار تزيد عن الأسعار العالمية ثلاث مرات، في محاولة للحفاظ على استمرار زراعة القمح.

على مدار سنوات طويلة، كان وزراء زراعة مختلفون يتحدثون عن صعوبة زراعة القمح نظرًا لقلة الأمطار والتغيرات المناخية التي طرأت، واتجهت آراؤهم نحو التحول لزراعات أخرى أكثر جدوى.

يسأل العوران، مدير اتحاد المزارعين، عن دور الدولة في التعامل مع التغير المناخي، وضرورة تفعيل الأقسام المعنية في الوزارات التي عليها أن تبحث عن بدائل علمية، من خلال تطوير أساليب الري أو العمل على إنتاج بذور محسّنة. وبرأي العوران، ففي الأردن إمكانيات لزراعة القمح في مناطق جديدة، كالمفرق، أصبحت ظروفها المناخية تسمح بذلك، إضافة لوجود آبار مياه فيها.

يرى مركز الإرشاد الزراعي التابع لوزارة الزراعة أن الأسباب المناخية هي الأقل تأثيرًا في التوقف عن زراعة القمح، بحسب مدير المحاصيل في المركز، يحيى الشخاترة، الذي يوّضح أن المركز طور جينات تلائم التغيرات المناخية، لكن ذلك لن يكون كافيًا إذا لم تحدد أماكن جديدة وإضافية للزراعة، متفقًا مع العوران في أن زراعة القمح في أماكن تتوفر فيها المياه ما زال ممكنًا. لكنه يقول إن المركز لا يملك سوى تقديم النصائح والإرشادات للجهات المعنية، وهي غير ملزمة. ويقول الطاهات إن الوزارة تنقل تلك الإرشادات والبذور المحسنة التي ينتجها المركز للمزارعين، لكنها كذلك لا تملك صلاحيات فرض أماكن الزراعة أو تحديد دورات زراعية بعينها على المزارعين، وتملك فقط توجيه النصح والإرشاد لهم، متفقًا بأن الاستثمار في زراعة القمح في أماكن مروية جديدة قد يأتي بنتائج جيدة.

هذه التجربة ليست أمرًا غير مسبوق. ففي عام 1986، أبرمت الحكومة تسع اتفاقيات مع شركات زراعية لمدة 25 عامًا، تتضمن استئجار تلك الشركات لـ100 ألف دونم مقابل أجرة سنوية بواقع 100 فلس للدونم الواحد في مناطق الديسي والمدورة وسهل صوان والمناشير، مستثمرةً مياه مشروع الديسي من أجل زراعة الحبوب والأعلاف بشكل رئيس.

في عام 2013، قالت الحكومة إن تلك الشركات لم تلتزم بزراعة ما نسبته 50% من الأراضي بالحبوب كما كان متفقًا، وأنها ارتكبت عدة مخالفات، وأعلنت بعد 27 عامًا عن إلغاء تلك الاتفاقيات واستغلال مياه الديسي «لشرب الأردنيين في ظل التحدي المائي الكبير الذي تواجهه البلاد».

يقول عاكف الزعبي، وزير الزراعة السابق، إن إدارة موارد الدولة لا تعني فقط الدفع باتجاه زراعة القمح تحديدًا، إنما الاستثمار في الزراعة «المناسبة» لسد احتياجاتنا. فبحسب الزعبي، لو زرعت كل أراضي الأردن اليوم بالقمح فلن تكفي حاجته. لذا، فالأجدى أن يتم التفكير بحسن استغلال الموارد بما هو أفضل والتوجه إلى زراعة أخرى أقل مخاطرة وأعلى عائدًا ماليًا. «أستغل مواردي بسلعة أفضل ويكون في إلها منافسة (..) وأستفيد منها في تصديرها، وثمنها وبساعدني أستورد القمح». ما هو أهم بالنسبة للزعبي، هو ألا تكون هناك مساحات فارغة. «ضروري السؤال: ما هي السلع التي تمت زراعتها بدلًا من القمح؟ كيف استغلينا مساحات القمح؟».

يستغرب سعود النابلسي، ابن حسن، النظرة للقمح خارج سياقه كسلعة تمثل الأمان الغذائي للأردن بحسبه، ويرى شقيقه حكم أن الدولة عليها التعامل بشكل «أبوي» مع قضية تشبه زراعة القمح، بأن تحدد هي السياسات وتراقب تنفيذها.

بحسب العوران، فإن خمس سنوات قادمة كافية لزيادة إنتاج القمح في الأردن بنسبة تتراوح بين 30% و40%، في حال حددت الحكومة سياسات جادة ونفذّتها. بالنسبة للمركز الوطني للبحوث الزراعية، فتقديرات العوران متفائلة قليلًا، إذ يرى المركز أن الأردن مهما زرع قمحًا سيكون من الصعب رفع النسب بشكل كبير نتيجة لعدم بقاء أراضٍ كافية. لكن المركز يرى بأن التحول من استيراد كلّ حاجة الأردن إلى استيراد جزءٍ منه هو أمر يستحق التجربة بحد ذاته، وسيشكّل نجاحًا في حال تحققه.

يقول حسن النابلسي في ورقة قدمّها خلال ورشة عمل عن الزراعة عام 2001، إنه ليس من الطبيعي أن تعامل زراعة البلد وموارده الموروثة والمهددة بالاندثار كأي مشروع يحسب مدى جدواه الاقتصادية. «بعض الاقتصاديين بنظروا إنه الزراعة كلها بتقدم إسهام في الناتج المحلي 3%، إذن ما بتسوى ندير بالنا عليها، وبنسوا كل الأمور المرتبطة بالزراعة، البعد الاجتماعي والبيئي والصحي»، يقول النابلسي.

تعددت العوامل التي أدت لوقف زراعة القمح، إذ ضرب الجفاف بعض المواسم في بداية السبعينيات، وانتشر العمران وتوسّع تنظيم المدن على حساب الأراضي الزراعية، وسهلت الولايات المتحدة الأمريكية استيراد القمح منها الأمر الذي أدى لمنافسة غير متساوية بين القمح  مع القمح الخارجي. إضافة إلى هذا تفتت الملكيات وتوجه عدد كبير من المزارعين لزراعة الأشجار المثمرة على حساب المحاصيل الحقلية.

كل ذلك حصل فيما تركت الدولة المزارع أمام خياراته الفردية: إما بيع أرضه أو تعميرها أو استبدالها بزراعات أخرى، دون أي قوانين وأنظمة تحمي زراعة المحاصيل أو القمح بشكل خاص. ومؤخرًا، استيقظ الأردن على ضرورة دعم من تبقى من مزارعي القمح عبر شراء محاصيلهم بأسعار أعلى من السعر العالمي. لكن ذلك جاء متأخرًا جدًا، بعد أن انتهت زراعة القمح في الأردن أساسًا.

 

المصادر

[1] بحسب نشرات إحصائية زراعية صادرة عن الإحصاءات العامة للأعوام 1970، 1972، 1973.

[2] أزمة الاقتصاد الأردني، هاني الحوراني، الأردن الجديد، نيقوسيا، 1989.