لا يزال الضّمير الأوروبيّ، حتّى اليوم، مُعذّبًا بالجرائم التي ارتكبها الأوروبيّون في فترات تاريخيّة مختلفة ضدّ أبناء جلدتهم من ذوي الدّيانة اليهوديّة، ابتداءً من الاضطهاد الدينيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ الذي مورس بحقّهم في عصور محاكم التّفتيش (1478 – 1843)، وصولًا إلى «الحل النهائيّ» القاضي بتطهير أوروبّا بشكل كامل من اليهود عبر قتلهم الجماعيّ أو تسهيل موتهم، وهو ما حاوله أدولف هتلر، وحزبه النازيّ، قبل وأثناء الحرب العالميّة الثّانية، في النّصف الأوّل من القرن العشرين.
يأخذ هذا العذاب الضميريّ شكلًا أكثر معاصرةً مع بقاء الحركات اليمينيّة والقوميّة المتطرّفة الأوروبيّة فاعلة وفعّالة، وصعود بعضها إلى الحكم في بعض البلدان (مثل النّمسا وإيطاليا)، أو حصولها على نسب كبيرة من أصوات المقترعين (مثل الجبهة الوطنيّة في فرنسا التي خاضت زعيمتها انتخابات رئاسية أمام إمانويل ماكرون عام 2017، وحازت على 34% من أصوات المقترعين)، أو نفوذها وحركيّتها العالية في بلدان مثل السّويد، وألمانيا، والجزء الشرقيّ من القارّة العجوز؛ ففي مقابل الصّورة التي تجهد أوروبّا في نشرها وترويجها عن نفسها في كلّ المحافل والمناسبات، باعتبارها نموذجًا للحريّات وحقوق الإنسان والاندماج والتّسامح (ما يسمّى بـ«القيم الأوروبيّة»)، يمدّ هذا الماضي البعيد /القريب برأسه دومًا، مذكّرًا بنفسه وبوجوده المستمرّ (والمتمدّد أحيانًا) من خلال هذه الحركات.
اللّاساميّة موضوعًا أوروبيًّا، بين أوروبيّين
يبدو مصطلح «اللّاساميّة» مصطلحًا أساسيًّا وحاسمًا في هذا السّياق، تُختزل فيه كلّ الآثار التاريخيّة والنفسيّة للاضطهاد الأوروبيّ لليهود الأوروبيّين، ويحمل تلك الخصوصيّة الجغرافيّة المُحدِّدة لمكان نشوئه، والنّظرة «الغيريّة» المبنيّة على العِرق، في زمن الانتقال من اضطهادٍ كان يجد نفسه –في العصور الأبعد- في اختلاف الدّين، إلى اضطهاد أكثر معاصرةً، أسّس نفسه على قاعدة حداثيّة، هي «الإثنيّة» أو «القوميّة» (المُختلقة، أو المُتخيّلة، دومًا، بحسب بينيدكت أندرسون). وبإمكاننا القول أنّه وفي سياق اختراع «العرق الآريّ»، والقوميّات الأوروبيّة، لنفسها، كان لا بدّ من إعادة اختراع اليهود الأوروبيّين كعرق مختلف، «ساميّ»، لتبرز منها «اللّاساميّة» الأوروبيّة كآليّة لتأكيد الذّات القوميّة.
تطورّت إعادة الاختراع هذه لاحقًا على يد الحركة الصهيونيّة، لتُقدِّم اليهود، ومن هم من أصولٍ يهوديّة، باعتبارهم «شعبًا»، واليهوديّة باعتبارها «قوميّة»، واستَخدمت «اللّاساميّة» لتُحقّق المكاسب لنفسها، خصوصًا لجهة ضمّ المزيد من اليهود إلى صفوفها على اعتبار أنّها ملجأهم من الاضطهاد، وسعيها لانتزاع «وطن قوميّ» في المستعمرات، وانتزاع اليهود من مجتمعاتهم الأمّ، وتهجيرهم إلى هذا «الوطن».
فلنلاحظ هنا أن كلمة «ساميّ» تشير -بشكلّ عام- إلى عدد من الشّعوب المتحدّثة باللّغات الساميّة، والموجودة تاريخيًّا في منطقة بلاد الشّام، والرّافدين، وشبه الجزيرة العربيّة، منهم العرب، والسّريان، والمندائيّون، ومنهم طبعًا: يهود هذه المنطقة ممّن صاروا يُسمّون لاحقًا: اليهود العرب؛ لكن «اللّاساميّة» لا تشير إلى التّمييز أو الاضطهاد المتعلّق بأيّ من هؤلاء، بل تشير إلى ظاهرة أوروبيّة، أطرافها أوروبيّون من الجهتين.
لم يكن لـ«اللّاساميّة» (كره من هم يهود أو من أصول يهوديّة، واعتبارهم كتلة واحدة صمّاء غير متمايزة، وجزءًا من مؤامرة كبرى تستهدف السّيطرة على العالم) نظيرٌ أو شبيهٌ في العالمين الإسلاميّ والعربيّ حتى ظهور الحركة الصّهيونيّة. صحيح أن تاريخ معاملة اليهود في العالم الإسلاميّ ليس مثاليًّا (مثلما كان الأمر مع أيٍّ كان، من أيّ دين أو ملّة)، وكان ثمّة معاملة تمييزيّة (في اللّباس، والحقوق السياسيّة مثلًا) تصعد أو تهبط أو تنعدم بحسب المرحلة التاريخيّة والمكان الجغرافيّ، لكن النّمط العامّ كان مُتسامِحًا ومُستوعِبًا، فلم تشهد المنطقة في التّاريخ القريب «أحداثًا كبرى» ذات طابع عنفيّ موجّه ضد اليهود (مثل أحداث العنف ضد المسيحيّين في حلب عام 1850، ودمشق عام 1860، ولهذه أسبابها الموضوعيّة التي لا مجال للخوض فيها هنا).
أمّا في التّاريخ الأبعد، فقد هرب يهود شبه الجزيرة الأيبيريّة (الذين أصبحوا يُسمّون لاحقًا بالسفارديم) من الاضطهاد المسيحيّ الإسبانيّ ومحاكم التّفتيش، إلى الفضاء الإسلاميّ، حيث كانوا يُعتبرون «أصحاب كتاب»، ويُتركون –غالبًا- بحال سبيلهم شرط دفع الضّرائب التي تقرّها السّلطة عليهم (ما يُسمى «الجزية»)، وبقيت المجتمعات اليهوديّة العربيّة قائمة وحيويّة حتى نشوء «إسرائيل»، بل إنّها ازدهرت في بعض المراحل التاريخيّة، وبرز منها أعلام في الأدب والسّياسة والفلسفة والتّرجمة والتّجارة والحرف.
«اللّاساميّة» إذن مفهوم أوروبيّ، يعبّر عن مشكلة أوروبيّة داخليّة، تفاقمت في القرن التّاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين في أوروبّا، وما زالت موجودة وفاعلة هناك حتى اليوم من خلال تنظيمات اليمين المتطرّف والنازيّين الجُدد؛ وتمثّل وصمة حقوقيّة، وأزمة ضميريّة مستمرّة، لم يجد بعض مثقّفي أوروبّا لحلّها سوى دعم الصّهيونيّة؛ والوقوف خلف إعطاء جزء من أراضي الغير، خارج أوروبّا، من تلك التي استحوذت عليها القوى الاستعماريّة الأوروبيّة، للحركة الصهيونيّة (الأوروبيّة)؛ وتأييد إنشاء دولة استعماريّة استيطانيّة للصّهاينة على أنقاض سكّان أصليّين مُستَعمَرين تتمّ تصفية وجودهم (ماديًّا ومعنويًّا)؛ ودعم هذه الدّولة بشكل مطلق.
السّاميّ الأبيض، والسّاميّ الهمجيّ: العنصريّة الأوروبيّة المزدوجة في سياق الصهيونيّة
تبرز هنا عنصريّة أوروبيّة مزدوجة: إن كان «اليهوديّ» في أوروبّا ساميًّا غير آريّ (وبالتّالي غير أوروبيّ)، مُميَّزًا ضدّه، فهو بين السّاميّين الحقيقيّين في المُستعمرات: «أوروبيّ»، مُميَّزٌ معه. هناك، بين الهمج البدائيّين، يُصبح «أبيض»، مُتحضّرًا، جزءًا من معشر «المتحضّرين»، وجزءًا من «القيم الأوروبيّة» التي تصبح «مشتركة»، فيصحّ حينها (من ذاك البُعد) أن تُشارك «إسرائيل» في المحافل الأوروبيّة باعتبارها جزءًا من أوروبّا: ابتداءً من الاقتصاد والسّياسة، ووصولًا إلى مسابقة الأغنية الأوروبيّة، ودوري أبطال أوروبّا لكرة القدم، وبطولة أوروبّا لكرّة السلّة.
أمّا ما يرتكبه ذلك المستعمِر الصّهيونيّ «الأبيض» من فظائع، فسيندرج كجزء من التّاريخ الاستعماريّ الأوروبيّ، ويتمّ تفهّمه، واستيعابه، وتطبيعه، وتجاهل آثاره، بل والاحتفاء به، مثلما هو الأمر فيما يتعلّق بالتّاريخ الاستعماريّ لأوروبّا نفسها. النّموذج الأوضح على ذلك هو الاحتفال الرسميّ البريطانيّ بمئويّة وعد بلفور، التعهّد الذي جلب الوبال والقتل والتّشريد على الفلسطينيّين، وتصريح رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي خلال الاحتفال، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن بريطانيا «فخورة بدورها الرّائد في إنشاء دولة إسرائيل»، دون أن تشير من قريب أو بعيد إلى أن تصرّفها غير الشّرعيّ بحقوقٍ لا تملكها، أثّر بشكل هائل على مصائر عدد هائل من البشر الذين لا حول لهم ولا قوّة، ودمّر حياتهم. هؤلاء البشر، مثل نظرائهم الآخرين من السكّان الأصليّين في المستعمرات الأوروبيّة، غير موجودين، ولا قيمة لمآسيهم ولا اعتبار.
تُحقّق هذه الآليّة غرضًا مزدوجًا، ذا طابع عنصريّ مزدوج: أنسنة لليهوديّ ما دام خارج المجال الأوروبيّ، وهو أمرٌ يحفّزه على المغادرة ليتأنسن، من خلال تحوّله إلى مُستعمِر (في حالة الصّهيونية)، مرتفعًا –بالتّالي- إلى مصافّ مضطهِده السّابق، الأوروبيّ، المُستعمِر بدوره، أي: لا يُنظر إلى اليهوديّ كإنسان إلا في حال انسلاخه القاريّ الأوروبيّ من جهة، وتحوّله إلى مستعمِر «أبيض» من الجهة الثّانية في سياق المركزانيّة الأوروبيّة البيضاء (الأميركيّة الأوروبيّة)، التي لا ترى قيمة إلا بنفسها، ولا معيارًا إلا بالقياس إلى ذاتها.
وبشكل عكسيّ، تستدعي هذه الأنسنةُ «حيونةً» للمستعمَرين، فيصيرون همجًا، أو امتدادًا لأشياء الطبيعة التي يجب أن تُستخدم أو تُروَّض، ويُصبح العُنف المرتكب من قبلهم ضدّ المستعمِر الصهيونيّ، «الأبيض»، مهما خفّت شدّته، إرهابًا، ويُضخّم بشكل هائل، ويأخذ طابعًا شخصيًّا؛ أما العنف الذي يرتكبه المستعمِر الصهيونيّ، مهما بلغت شدتّه، فيتمّ التّغاضي عنه باعتباره «ضرورة» تمدينيّة: إدانة لفظيّة في أحسن الأحوال، وتشجيعٌ ودعم في أسوئه.
أمبرتو إيكو: متلازمة الضّمير الأوروبيّ المعذّب أُحاديّ الاتّجاه
قد يكون أمبرتو إيكو، الروائيّ والفيلسوف والسّيميائيّ الإيطاليّ، المعروف بشكل واسع في العالم العربيّ من خلال روايته «اسم الوردة»، نموذجًا مثاليًّا على هذا النّوع من المقاربات التطهّريّة، التي تستهدف إبراء الذمّة والضّمير الأوروبيّين، على حساب المُستعمَرين من الفلسطينيّين، ودون أي انتباه لوجودهم أصلًا.
منذ العام 2010، عبّر إيكو عن موقفٍ مُعادٍ للمقاطعة الثّقافيّة لـ«إسرائيل»، من خلال مقالةٍ له نشرها في مجلّة «لإسبرسّو» (L’Espresso) الأسبوعيّة الإيطاليّة، تلتها تصريحاتٌ له ضدّها في العام التّالي (2011) خلال مؤتمر صحفيّ عقد في القدس (باعتبارها عاصمة لـ«إسرائيل»، وضمن معرض القدس الدّولي للكتاب، الذي تُقدَّم ضمن فعّالياته «جائزة القدس»، الجائزة الإسرائيليّة الأبرز التي تُعطى لكتّاب عالميّين).
لكنّ كتابًا لإيكو(1) صدر بترجمته الإنجليزيّة عام 2017، بعد موته، وجُمعت فيه مقالاته التي كان ينشرها بشكل دوريّ في ذات المجلّة، ومقابلة موسّعة نشرت معه عام 2011 في مجلّة «تابلِت»، بمناسبة صدور روايته «مقبرة براغ»، التي تتناول بشكل محدّد موضوع اللّاساميّة في أوروبّا، تكشف الخلفيّة الأعمق لموقفه ذاك، وانطباق ما سأسميّه: متلازمة الضّمير الأوروبيّ المعذّب أُحاديّ الاتّجاه، عليه، مثلما تنطبق على مثقّفين أوروبيّين آخرين مثل ميلان كونديرا، وجان بول سارتر، وغيرهم.
يؤكّد إيكو أن اللّاساميّة ظاهرة أوروبيّة، ويحذو حذو حنّة أرندت (في كتابها: أصول التوتاليتاريّة) في تشخيصها لتحوّل اللّاساميّة في أوروبّا من لاساميّة دينيّة (religious anti-Semitism) إلى لاساميّة علمانيّة أو «علميّة» (scientific anti-Semitism)، نشأت عنها فكرة «المؤامرة اليهوديّة للهيمنة على العالم»، مع صعود الحداثة والدّولة القوميّة في أوروبّا. لكنّ إيكو يفشل في الغوص أعمق، فلا يلتفت إلى أنّ «اللاساميّة» مفهوم تقابليّ (يجعل اليهود موضوعًا للمُقابلة، «أغيار»، «آخرين»)، انتزاعيّ (يرمي إلى انتزاع اليهود من مجتمعاتهم الأصليّة)، تطهيريّ (بالمعنى المقصود في مصطلح: التطهير الإثنيّ)، يذهب أبعد من مجرّد «كراهية اليهود»، ليتجسّد على شكل عزل، وإقصاء، اليهود عن مجتمعاتهم الأوروبيّة الأمّ، وحشرهم في حيّز خاص مفصول (جيتو) جغرافيّ أو هوياتيّ أو نفسيّ، يُشيطنهم، ويطبّعهم باعتبارهم أغيارًا دونيّين، تقابلهم الذّات القوميّة (الأوروبيّة، الآريّة) المتفوّقة، ويرى خلاصهم في انتزاعهم عن مجتمعاتهم الأمّ، وتركيزهم في مجتمعاتهم الخاصّة المغلقة.
نعرف أنّ اختراع العنصريّة «التفوّقيّة» يحتاج إلى اختراع ملازمٍ لأعراق أخرى «أدنى» موجودة معها، أو في محيطها القريب، لتُقارن نفسها بها، وترفع من شأنها مقابل خفض شأنهم، لذا كان اليهود الأوروبيّون هدفًا مناسبًا لأنّهم جزء داخليّ من أوروبّا، موجودون فيها، قريبون، كما يلاحظ إيكو بنفسه: «نحن لا نكون عنصريّين أبدًا تجاه شخص بعيد جدًّا عنّا [بالمعنى الجغرافيّ/المكانيّ]. لا أعرف أيّ عنصريّة [أوروبيّة قاريّة] تجاه الإسكيمو. لتنشأ مشاعر عنصريّة، يجب أن يكون هناك آخر مختلف عنّا قليلًا، لكنّه يعيش بقربنا».(2)
قبل انتحاره في العام 1942، شرح الكاتب الألمانيّ اليهوديّ شتيفان زفايغ، في كتابه «عالم الأمس: مذكّرات أوروبيّ» (نشر 1943)، كيف اخترعت القوميّة الأوروبيّة العنصريّة ضدّها اليهوديّة:
«لكن، ولزمن طويل، لم يكن يهود القرن العشرين يُشكّلون مُجتمعًا. لم يكن لديهم دين مشترك. كانوا واعين ليهوديّتهم باعتبارها عبئًا لا شيئًا يفخرون به، ولم يكونوا واعين لأيّ مهمّة [جماعيّة عليهم تحقيقها]. كانوا قد نبذوا تعاليم الكتب التي كانت مقدّسة يومًا ما، كما انتهوا من اللّغة المشتركة القديمة. من أجل حماية أنفسهم من أيّ اضطهاد، والتوقّف عن الهرب بشكل لانهائيّ، جعلوا هدفهم -الذي لاحقوه بنفاد صبر- دمج أنفسهم [داخل مجتمعاتهم]، وأن يُصبحوا مرتبطين بالنّاس الذين يعيشون بينهم. لذا فهم لم يشكّلوا وحدةً واحدةً يفهم بعضها بعضًا، [بل] ذابوا في الشّعوب الأخرى باعتبارهم أكثر فرنسيّين، ألمانًا، إنكليز، روسًا، من كونهم يهودًا.
الآن فقط، بعدما كُنسوا من الشّوارع كالقاذورات، وجُمعوا بعضهم مع بعض: المصرفيّون من قصورهم البرلينيّة، موظّفو المعابد من كُنُسِهم ذات الرّعيّة الأورثوذوكسيّة، أساتذة الفلسفة من باريس، سائقو سيارات الأجرة الرومانيّون، مساعدو الحانوتيين والفائزون بجوائز نوبل، مغنّو الحفلات، الندّابون بالأُجرة، المُؤلّفون ومُقطِّرو المشروبات الكحوليّة، الأغنياءُ ومن لا يملكون شيئًا، العِظَام والتُفَّه، المُلتزمون واللّيبراليّون، المُرابون والحُكماء، الصّهاينة والمُندمجون، الأشكناز والسفارديم (…) الآن فقط، وللمرّة الأولى منذ مئات السّنين، أُجبر اليهود على التحوّل إلى مجتمع فقدوا حسّاسيّتهم تجاهه منذ زمن طويل: مجتمع الطّرد [والتّشريد] المتكرّر منذ [الطّرد من] مصر». (3)
يلتقط عالم الاجتماع الفرنسي إمانيويل تود، في تعليقه الموجز على هذه الفقرة، «الرّعب الذي شعر به اليهود عندما وُضعوا، جميعهم، من قبل النازيّين، داخل تصنيف (category) كان بالنّسبة إليهم –في ذلك الوقت- لا معنى له»(4)، وهو التّصنيف ذاته الذي تتبنّاه الصهيونيّة، والمثقّفون الأوروبيّون الذين يعانون من متلازمة الضّمير الأوروبيّ المعذّب أُحاديّ الاتّجاه، باعتبار اليهود «أغيارًا» في أوروبّا، مجموعة قوميّة خارجيّة، ليست إيطاليّة، ولا فرنسية، ولا روسيّة، ولا ينبغي لها أن تندمج وتذوب في مجتمعاتها، بل أن تنعزل ويُؤكَّد على تمايزها.
إن كان أدولف هتلر -في عماه العنصريّ الإجراميّ- قد وجد أن «الحلّ النهائيّ» هو في وضع اليهود في معسكرات اعتقال تكفل موتهم البطيء، أو حرقهم في أفران الغاز؛ فإن الحلّ النهائيّ الذي يقدّمه هؤلاء المثقّفون، وتقدّمه الحركة الصّهيونيّة، هو تركيز اليهود في جيتو أو معسكر اعتقال عالميّ اسمه «إسرائيل»، يتحقّق فيه نزع اليهود من مجتمعاتهم المحليّة الأوروبيّة (وغيرها)، ويُنقلون إليه، فيما تتحوّل «إسرائيل» والصّهيونيّة، باعتبارهما «الوطن القوميّ لليهود»، والتمثيل الماديّ للـ«قوميّة اليهوديّة» (كما تم تثبيته مؤخّرًا في قانون «الدولة القوميّة اليهوديّة»)، إلى ضمانة دائمة لغيريّة اليهود في العالم، حتى أولئك الذين بقوا في مجتمعاتهم، ورفضوا الهجرة إليها، أو تبنّي أيديولوجيّتها، إذ تقدّم «إسرائيل» والصهيونيّة نفسيهما كممثّل شرعيّ ووحيد لليهود، ويعترف العالم بهما كذلك، فيُلقيان بشباكهما حتّى حول أولئك اليهود المعارضين للصهيونيّة، فتُمارسُ عليهم (باعتبارهما «الممثّل الشرعيّ والوحيد») سُلطة النّبذ: نبذ اليهوديّ اللّاصهيونيّ باعتباره «كارهًا لنفسه» (self-hating Jew).
هذا هو المعنى الأعمق للاساميّة، كما عبّر عنه شتيفان زفايغ: حشر اليهود، أو ممّن هم من أصول يهوديّة، غصبًا عنهم، في يهوديّتهم، أي في غيريّتهم، ورفض اندماجهم، ونزعهم من مجتمعاتهم الطبيعيّة، باعتبارهم «شعبًا» منفصلًا، وقوميّة تتحدّد بالدّين مقابل تلك المتحدّدة بالعِرق. وهذا هو لبّ خطاب الصّهيونيّة (اللّاساميّ)، ولبّ الخطاب الذي يتحدّث به إيكو وغيره من مثقّفي أوروبّا من ذوي متلازمة الضّمير الأوروبيّ المعذّب أُحاديّ الاتّجاه، تمهيدًا لشرعنة الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ في فلسطين، والتّغاضي عن جرائمه، ودمج الصهيونيّة باليهوديّة تمامًا لإلغاء أي تمايز بينهما، لتصبح أي معارضة للصهيونيّة، هي كراهية لليهوديّة، وبالتالي لاساميّة، بينما في واقع الأمر، تمثّل الصّهيونيّة (و«إسرائيل»)، بتأطيرها لليهود (المُختلفين، المُتعدّدين) في هويّة قسريّة واحدة، وإسباغها غيريّة أبديّة عليهم، واشتغالها على نزع اليهود أو ذوي الأصول اليهوديّة من مجتمعاتهم باعتبارهم أغيارًا، وتركيزهم في جيتو عالميّ هو وطنهم الوحيد، أعلى مراحل اللّاساميّة.
الصهيونيّة: حلّ نهائيّ لاساميّ آخر للمسألة اليهوديّة الأوروبيّة
تطرح الصهيونيّة حلًّا نهائيًّا آخر لليهود: بدلًا من تطهير العالم (أوروبّا) منهم بقتلهم (بحسب الخيار النازيّ)، يتم تطهير العالم (أوروبّا) من اليهود بنقلهم إلى جيتو/دولة في المستعمرات. لنلاحظ هنا أن الخيارات الأخرى التي طُرحت أمام (أو طرحتها) الحركة الصّهيونيّة لإقامة «إسرائيل» كان شرق إفريقيا (في منطقة تقع الآن في كينيا) والأرجنتين، بالإضافة إلى فلسطين، وكلّها تقع في المستعمرات، دون أن يُطرح أيّ خيار أوروبيّ قاريّ.
يقول إيكو: «لأسباب تاريخيّة ودينيّة، لليهود كلّ الحقّ أن يتوجّهوا إلى فلسطين –لقد استوطنوا هناك بسلام على مدار قرن كامل- ولهم كلّ الحق أن يبقوا هناك». (5) لا يوضّح إيكو ما هي هذه الأسباب التاريخيّة والدينيّة التي تُعطي الحقّ لمواطن بولنديّ أو فرنسيّ أو إيطاليّ يهوديّ الديانة، أو من أصول يهوديّة، أن يستوطن بقعة جغرافيّة أخرى، ويقيم عليها دولته على أنقاض شعب آخر موجود فيها، لكنّ الواضح هنا، أن إيكو ما زال يستدخل موقفًا لاساميًّا، هو ذاته موقف الصهيونيّة، الذي يعتبر اليهود «أغيارًا» في أوروبّا، ليسوا أوروبيّين، وأن وطنهم يقع في مكان آخر، ولهم -بالتّالي- الحقّ في الرّحيل إليه واستيطانه، بل الأفضل لهم أن يرحلوا إليه ويستوطنوا فيه.
ولإغلاق الموضوع برمّته، والتهرّب من المسؤوليّة الأخلاقية تجاه اقتلاع اليهود من أوطانهم الأوروبيّة، واقتلاع السكّان الأصليّين في فلسطين ممن سيحلّ اليهود الأوروبيّون مكانهم، يضع إيكو المعادلة التالية:
«في اللّحظة التي تشكّلت فيها دولة يهوديّة، تغيّرت القصّة كلّها. هناك أشخاصٌ ليسوا بطبيعتهم مناهضين للسّاميّة، لكنّهم يساريّون. باصطفافهم مع العرب، وتحوّلهم إلى معاداة إسرائيل، يصبحون –أوتوماتيكيًّا- لاساميّين (…) الانتقال من معاداة إسرائيل إلى معاداة الساميّة هو أمر جدّ طبيعيّ». (6)
لا يبدو أن إيكو مهتم ّ بالكيفيّة التي تشكّلت بها دولة «إسرائيل»، ولا يذكر -ولو عرضًا- المآسي والمذابح والجرائم التي تعرّض لها الفلسطينيّون، زاوية نظره أوروبيّة محضة، وهي بهذا المعنى ليست لاساميّة فقط، بل استعماريّة كذلك، لا تُلقي بالًا لمآسي السكّان الأصليين الذين هم إمّا همج وامتداد لأشياء الطبيعة التي يمكن للمستوطن أن يستخدمها أو يُبيدها، أو هم غير موجودين من الأساس، غير مرئيّين.
خاتمة: المركزانيّة الأوروبيّة وفقدان الرّؤية التاريخيّة
أمبرتو إيكو ليس مثقّفًا عاديًّا، فالرّجل أحد دارسي علم دلالات الألفاظ والمعاني (semiotics) البارزين (7)، وباحث في الإشارات اللغويّة والرّموز، ولديه ميل إلى أسلوب التّحقيق البوليسيّ الذي يقرأ فيه كثيرًا ويستخدمه في كتبه، لكن حدسه العلائقيّ واشتغالاته الروابطيّة والبحثيّة تتوقّف عند الصهيونيّة وجرائمها في فلسطين، أو بشكل أدق: عند مركزانيّته الأوروبيّة التي ترى العالم من عقدة الاضطهاد الأوروبيّ لليهود، ومحاولة تنظيف سجلها منها بأيّ ثمن.
وأيّ ثمن هو ذاك الذي يدفعه الفلسطينيّون اليوم نتيجةً لذلك. يقول إيكو في مكان آخر(8): «من الصّعب التّمييز بين معارضة سياسات آرييل شارون، وبين المشاعر المعادية لإسرائيل، وبالتالي بينها وبين معاداة السّاميّة». النتيجة المنطقيّة لهذه المقولة، هي عدم معارضة سياسات آرييل شارون، كي لا يختلط علينا الأمر مع معاداة السّاميّة، أي، وبدون مواربة، يعني ذلك تأييد، أو السّكوت عن، أفعال إجراميّة ارتكبها شارون، أو هو مسؤول عنها، على رأسها -مثلًا- مذبحة صبرا وشاتيلا! هذا هو الثّمن الأخلاقيّ الفادح الذي ترتّبه مقولات إيكو وأمثاله ممّن يعانون أعراض متلازمة الضّمير الأوروبيّ المعذّب أُحاديّ الاتّجاه.
خلال مؤتمره الصّحفي في القدس عام 2011، سُئل إيكو من قبل أحد الصّحافيّين عن رأيه حول سياسات الحكومة الإسرائيليّة تجاه الفلسطينيّين، فأجاب: «لديّ الكثير مما يمكن الحديث عنه فيما يتعلّق بالحكومة الإيطاليّة، الأمر الذي لن يُتيح لي الوقت لأتحدّث فيه عن الحكومة الإسرائيليّة».
الإجابة هنا نموذجيّة لاعتبارات نقدها: فالضمير المُعذّب أعاد السّائل إلى أوروبّا ومشاكلها اللّاساميّة، خصوصًا في ظل حكومة يقودها اليمين (برلسكوني) في إيطاليا في ذلك الوقت. حوّل إيكو السّؤال ليتمّ التركيز (ضمنًا) على «التاريخ الأوروبّي الاضطهاديّ» لليهود (بالإحالة إلى حكومة بلاده اليمينيّة، العنصريّة)، كمقدّمة للتّعمية على ممارسات الصّهاينة الاضطهاديّة فيما يتعلّق بالفلسطينيّين، فلا وقت للحديث عن هذه الجرائم، بل هي (بالنسبة له) خارج الزّمن/الوقت، والزّمن هنا هو الزّمن المركزيّ الأوروبيّ، زمن الرّواية الأوروبيّة الاستعماريّة بشقيّها: المباشر الإجراميّ في المستعمرات، والحداثيّة الحقوقيّة الديمقراطيّة القِيَميّة في المركز، وكلتاهما موجّهتان ضدّ «الهمج»، غير المُتحضّرين، المُتموضعين خارج ذلك الزّمن، المتخلّفين عن ركب تقدّمه.
في واحد من مقالاته (9)، يتحدّث إيكو عن مسحٍ أُجري في بريطانيا، أفاد بأنّ رُبع البريطانيّين ممّن تَقِلّ أعمارهم عن العشرين عامًا، يعتقدون أن ونستون تشرتشل، رئيس وزراء بريطانيا إبّان الحرب العالميّة الثانية، هو شخصيّة مُتخيّلة؛ في المقابل: يعتقد كثير ممّن تم سؤالهم أن شارلوك هولمز وروبن هود هم شخصيّات حقيقيّة.
يخلص إيكو في نهاية المقال إلى النتيجة التالية: «قد تظنّ أن هناك فرقًا كبيرًا بين الأبله البريطانيّ الذي يظنّ أن تشرتشل شخصيّة مُتخيّلة، وبين [جورج دبليو] بوش الذي يذهب إلى العراق مقتنعًا أنّ بإمكانه إنهاء الحرب بخمسة عشر يومًا. لكن [في الحقيقة] لا يوجد فرق، فكلاهما مثالان على ظاهرة واحدة: فقدان الرّؤية فيما يتعلّق التاريخ».
فقدان الرؤية التاريخيّة هذا هو ما ينطبق تمامًا على أمبرتو إيكو نفسه، وعلى عدد كبير من المثقّفين الأوروبيّين، حين يتعلّق الأمر بالصهيونيّة و«إسرائيل»، وحين يتعلّق الأمر بالوقوف أمام تاريخهم الاستعماريّ الذاتيّ، والجرائم التي ارتكبتها «حضارتهم» المجيدة.
-
الهوامش والمراجع
الهوامش:
1- Umberto Eco, Chronicles of a Liquid Society, translated by Richard Dixon, Houghton Mifflin Harcourt, 2017
2- David Samuels, Protocols: A revealing conversation with Umberto Eco about anti-Semitism in fiction, his novel ‘The Prague Cemetery,’ and the difference between fiction and lies, Tablet, November 21, 2011
3- Stefan Zweig, The World of Yesterday: Memoirs of a European, translated by Anthea Bell, Pushkin Press, 2011 (1943), pp. 427-8
4- Emmanuel Todd, Who is Charlie? Xenophobia and the New Middle Class, Polity, 2016, p. 152
5- Eco, Chronicles…, p. 149
6- David Samuels, Protocols، مذكور سابقًا
7- أنظر/ي مثلًا: Umberto Eco, The Role of the Reader: Explorations in the Semiotics of Texts, Indiana University Press, 1984
8- Eco, Chronicles.., pp. 147-8
9- Eco, Chronicles.., pp. 38-41
-
قراءات إضافية
1- للمزيد عن اختلاق الهويّات القوميّة والإثنيّة، أنظر/ي: Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism (Revised Edition), Verso, 2006
2- للمزيد عن العوامل المختلفة، التي أدّت إلى «اختراع» القوميّة اليهوديّة، خصوصًا دور الحركة الصهيونيّة في ذلك، أنظر/ي: Shlomo Sand, The Invention of the Jewish People, translated by Yael Lotan, Verso, 2009
3- للمزيد عن تحوّلات اللّاساميّة في أوروبّا، أنظر/ي: Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism, Penguin, 2017 (1951)
4- لقراءة تاريخ محاكم التّفتيش في إسبانيا، من خلال شخصيّات رؤساء هذه المحاكم، أنظر/ي: John Edwards, The Inquisitors: The Story of the Grand Inquisitors of the Spanish Inquisition, Tempus, 2007
5- للتعرّف على أحوال اليهود والمسيحيّين في العالم العربيّ خلال الحكم العثمانيّ في الفترة التي سبقت تشكّل الكيانات القُطريّة و«إسرائيل»، أنظر/ي: Bruce Masters, Christians and Jews in the Ottoman Arab World: The Roots of Sectarianism, Cambridge University Press, 2001
مقال رائع. الصهيونية حقا أعلى مراحل اللاسامية. بقي أن من حسن النية أن نرجع موقف إيكو إلى ضمير معذب. لعله لايكون غير صورة أخرى من خيانة المثقف. لا أحد ينقد الغالب في حضرته. وليست غلبة اليهود في الاقتصاد والأكاديميا والإعلام كغلبة بقية من نقدهم إيكو، ومنهم بعض بني جلدته.
مقال ممتاز شكرا على جهود الكاتب! في الحقيقة لو تتم ترجمة هذا المقال إلى اللغة الانجليزية قد تتحقق من ذلك فائدة كبيرة لإمكانية مشاركته بين قراء غير عرب (من الأوروبيين و البيض تحديدا) خصوصا و أنهم هم الذين بأمس الحاجة لقراءة هكذا مقالات.