العدوان على غزة: ماذا تُريد «إسرائيل»، ولماذا الجهاد؟

السبت 06 آب 2022
فلسطين، غزة، إسرائيل
من القصف الإسرائيلي على قطاع غزة في آب 2022، تصوير أشرف عمره، أ ف ب

بعد عدّة أيّام على فرض الإغلاق في مستوطنات غلاف غزّة، بسبب ما ادّعت أجهزة الأمن الإسرائيليّة أنه معلومات استخباراتيّة تُشير إلى نيّة الجهاد الإسلامي تنفيذ عمليّة على الحدود، أعلنت قوّات الاحتلال الإسرائيليّ بدء حملة عسكريّة في القطاع تستهدف الجهاد الإسلاميّ حصرًا دون غيرها من الفصائل في قطاع غزّة. والسؤال: ماذا حصل، ولماذا الجهاد الإسلامي الآن؟ 

الإجابة على هذا السؤال تتطلّب العودة إلى مخيّم جنين، مرورًا بنابلس وصولًا إلى ما يحصل في الخارطة السياسيّة الفلسطينيّة عمومًا، وعلاقتها بغزّة التي تُشكّل اليوم، القاعدة الأقوى للفصائل الفلسطينيّة المُقاومة، ومركز ثقلها الأساسي. لذلك، لا يُمكن باعتقادي، التعامل مع هذا العدوان، إلّا باعتباره عدوانًا شاملًا، يمتد على حملتين: الأولى تحت عنوان «كاسر الأمواج» وتدور ساحتها في جنين ونابلس والضفّة الغربية عمومًا؛ أمّا الثانية فهي التي تم الإعلان عنها عصر الجمعة، تحت عنوان «بزوغ الفجر» وتدور في غزّة. ومن هُنا أيضًا، يجب التعامل مع هذا العدوان على أنّه عدوان ضد معادلة جديدة قيد التشكّل، كما يُشير تامير هايمن، مدير معهد أبحاث الأمن القومي ورئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة سابقًا، والاسم الذي أطلقته سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، على العمليّة وهو «وحدة الساحات». 

من «كاسر الأمواج» وصولًا لـ«بزوغ الفجر» 

الحملة الأولى التي أطلقتها «إسرائيل» كانت تحت عنوان «كاسر الأمواج»، وجاءت بعد سلسلة عمليات نفذّها فلسطينيّون في مدن الداخل المُحتل عام 1948، كانت منها عمليّة ديزنغوف وبني براك وغيرها من العمليّات التي ورغم أنّها كانت عمليّات فردية، إلّا أنها أشارت إلى شيء جديد يحصل في الضفّة الغربية وتحديدًا في مخيّم جنين. وفي إطار هذه الحملة، أرادت قوّات الاحتلال عمليًا تحقيق أمرين غايةً في الأهمية: الأول هو منع تشكّل منطقة حاضنة في الضفة الغربية للـ«مطلوبين»، حيث بدأ مخيّم جنين يتحوّل إلى منطقة لها نوع من السيادة، لا تستطيع السُلطة السيطرة عليها، وتتحوّل كُل عمليّة اقتحام لها من قبل قوات الاحتلال إلى معركة؛ أمّا الثاني، فهو تفكيك بنية المُقاومة التي باتت تنسّق وتنشط داخل المُخيم بغض النظر عن الانقسام والتفتّت السياسيّ الذي يسيطر على الحالة الفلسطينيّة. وهذا، ما أكّدته مقولة أن أسرى «نفق الحريّة» يسعون إلى الوصول إلى المُخيم الذي بدا على أنّه وصول إلى بر الأمان؛ وأكدته قدرة المُخيم على حماية والد الشهيد رعد حازم، الذي فشل الاحتلال باعتقاله وبات مطلوبًا محميًا في أرض المُخيم، رغم أنّه كان جزءًا من الأجهزة الأمنية وبغض النظر عن الانتماء السياسيّ الفصائلي. أمّا ما أخاف «إسرائيل» أكثر بكثير، فهو هذا التمدّد لمخيم جنين إلى نابلس، وبدء بزوغ جبهة ما بين نابلس وجنين. 

عبر هذا العدوان تسعى «إسرائيل» لترميم منظومة الفصل الإسرائيليّة ما بين الجبهات الفلسطينيّة المُختلفة: الإبقاء على حريّة الاعتقال في الضفة الغربية، والإبقاء على غزة معزولة عمّا يحصل في الضفة الغربية.

جاء اعتقال الشيخ بسام السعدي، القيادي في الجهاد الإسلامي من مخيّم جنين في إطار هذه الحملة، التي انطلقت وأعلن عنها رسميًا في نهاية آذار. وهذا، ما يؤكده ما كُتب بعد الاعتقال، إذ يشير المراسل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي إلى أن السعدي هو من قاد التفاهمات بين الفصائل المُختلفة داخل المخيّم وهو ما أفضى إلى تأسيس الغرفة المشتركة في مخيّم جنين؛ ويتّهم السعدي بتمويل العمليات التي تخرج من المخيّم، إلى جانب قدراته على تمويل نشاط المُقاومة داخل المخيّم بادّعاء العلاقة مع إيران وغزّة.[1] أمّا ما حصل خلال الاعتقال، فلم يكُن محسوبًا، إذ ظهرت قوّات الاحتلال في فيديوهات قصيرة وهي تسحب السعدي على الأرض ودمّه يسيل خلفه، ويقوم كلب تابع لقوّات الاحتلال بعضه، وهو ما دفع للتساؤل عن حياته وإن كان حيًا أصلًا. لاحقًا، قام الاحتلال بنشر صورته من غرفة التحقيق في تطمين واضح أنه بخير ولا زال حيًا. إلّا أن ما حصل خلال هذا الوقت القصير، تهديد الجهاد الإسلامي بالرد على اعتقال السعدي من غزّة، بحد ذاته، كان بالنسبة إلى الاحتلال «مُعادلة جديدة».[2] 

في هذا السياق، وبسبب ما أعلنت «إسرائيل» أنه «معلومات استخباراتية»، تم فرض الإغلاق على مستوطنات «غلاف غزّة» تخوفًا من ضربة يخطّط لها الجهاد الإسلامي بـ«صواريخ مضادة للدروع». وعمليًا، موضعت «إسرائيل» ذاتها أمام مُعادلة فيها خياران، مع التشديد على التموضع الذاتي، لأنها أدخلت ذاتها بشكل واعٍ في المصيدة ذاتها: إمّا القبول بإغلاق مستوطنات غلاف غزّة كرد على اعتقال في الضفّة الغربية، ومنح الجهاد هذا الإنجاز حتّى دون تنفيذ أي ضربة عسكرية؛ وإمّا المُبادرة لضرب الجهاد وعدم قبول مُعادلة الربط كليًا، حتّى ولو كانت على مستوى التصريحات ولم تتطوّر إلى الفعل بعد. أمّا الخيار الذي تم اتّخاذه، فكان استغلال الإغلاق، الذي بدا للوهلة الأولى على أنّه عمليّة دفاعية، بهدف نقل القوّات وتحضير الجبهة الداخليّة، ومن ثم الهجوم على الجهاد الإسلامي في قطاع غزّة، لتحويل الربط الذي كان تحاول حركة الجهاد القيام به، إلى ربط الهجوم الإسرائيليّ على التنظيم بالضفة، بعدوان عليه في غزّة أيضًا. 

لماذا «الجهاد الإسلامي» تحديدًا؟ 

للإجابة على هذا السؤال، يجب قراءة المكانة التي يتموضع فيها «الجهاد الإسلامي» في الخارطة السياسيّة الفلسطينيّة إلى جانب الفصائل الأخرى، وخاصة الكبرى «حماس» و«فتح». وفي هذا السياق، تجب قراءة الحالة الجديدة التي تنشأ في الضفة الغربية ويشكّل «الجهاد الإسلامي» أحد أهم ركائزها، في ظل تراجع مكانة «فتح» إلى مرحلة بات فيها يُقال إن «السعدي استطاع جمع الفصائل الأصغر كفتح». في هذا السياق، يمكن قراءة مكانة الجهاد في مخيّم جنين حيث تشير التحليلات الإسرائيليّة إلى أن هذا التنظيم النخبوي والصغير نسبيًا، بات هو القائد الفعلي لما يحصل في المُخيّم على صعيدين: الأول هو ارتفاع مكانته وتحوّله إلى الحامي الأساسيّ والمنظّم للمقاومين الذين كانوا ينتمون إلى «فتح»، مستغلًا الفراغ السياسي الذي تركته حركة فتح بعد أن تحوّلت إلى حزب حاكم، وتراجعت كتنظيم سياسيّ وطني لصالح السُلطة المرتبطة بـ«إسرائيل» وما يفرضه عليها كُل هذا التحوّل؛ وثانيًا، ابتعاد «حماس» عن الضفة الغربية بسبب فرض «إسرائيل» لمُعادلة دفع الثمن من غزّة بسبب النشاط في الضفة، وهو ما تم صياغته مع خطف المستوطنين الثلاثة في العام 2014، والتضييق من قبل السُلطة بسبب الانقسام السياسيّ، وما يتخلّله من تحريض على «حماس» في الضفة الغربية.[3] 

يهدف العدوان لمنع تشكّل شيء جديد، وهو هذه المرّة ليس تغييرًا استراتيجيًا إسرائيليًا على الوضع القائم، إنّما منع تغيير استراتيجيّ فلسطيني.

أمّا العامل الإضافي، الذي يميّز «الجهاد الإسلامي» عن غيره من الفصائل الفلسطينيّة، فهو وجوده خارج لعبة السياسة كليًا وعلى صعيدين: أولًا، تحرّر التنظيم من حسابات «الأحزاب الحاكمة»، التي تتحمّل المسؤولية المعيشية للسكّان الفلسطينيين في أماكن حكمها، كالوضع الاقتصادي والتشغيلي والحواجز والكهرباء والماء، التي تستغلها «إسرائيل» للسيطرة على الفصائل ذاتها وتتعامل معها كأداة سيطرة بكُل ما تعنيه الكلمة من معنى. فيغدو دخول العمّال من غزّة للعمل داخل الخط الأخضر، جزءًا من الحرب، كما يتحوّل دخول المواد الأساسية والوقود أيضًا أداة كالطائرة التي ترمي القنابل فوق غزّة. وهو ما يبدو واضحًا اليوم جدًا وأكثر من أي وقت مضى، في مراهنة «إسرائيل» على عدم دخول «حماس»، بشكل رسمي، إلى المعركة بسبب الوضع الاقتصادي والتشغيلي الذي تتحكّم فيه إسرائيل. وثانيًا، علاقات «الجهاد الإسلامي» الإقليميّة خاصة مع إيران، حيث يشير المحللون العسكريون في الإعلام الإسرائيليّ الذين ينطقون باسم الجيش عادة، وكذلك الخبراء في مراكز الأبحاث الأمنية الذين عادة ما يكونوا جنرالات، إلى هذه العلاقة وإلى كون الجهاد الإسلامي حليف إيران الأقوى والأكثر قربًا في الساحة الفلسطينيّة الداخلية. وهو أيضًا ما زاد من حدّة العدوان تحت ذريعة «لا يُمكن أن نسمح بحزب الله إضافي على الحدود الجنوبية»، وغذّاه وجود زياد النخّالة في طهران، خلال التصعيد، وتهديده «إسرائيل» من هُناك. 

ترميم الوضع القائم

خلال موجة البث المفتوحة على قناة الأخبار الإسرائيلية، قال مدير معهد أبحاث الاستراتيجيا والسياسات في هرتسليا، الجنرال عاموس غلعاد، إن «إسرائيل» جاهزة لوقف العدوان بعد تحقيق نتائجه الحالية، بانتظار إعلان الجهاد وقف القصف. فردّت إحدى المشاركات من مستوطنات غلاف غزة بالقول: وماذا بعد؟ عدنا إلى النقطة ذاتها. هُنا تحديدًا تسكُن مقولة هذا العدوان برمّته وأسبابه وظروفه في الوضع الاستراتيجي العام إسرائيليًا، بعيدًا عن المعركة الحالية. وهُنا، يوجد فرق أساسي في القراءة: إن قرأنا الجولة بشكل عينيّ، فإنها مُبادرة إسرائيليّة تبدو وكأنها بادرت إليها بشكل ذاتي، مبادرة محسوبة ودقيقة جدًا تم الترتيب لها على مدى عدّة أيّام وببنك أهداف محدّد؛ أمّا إن قرأنا هذه الجولة في إطار الوضع الاستراتيجيّ العام، فإنها جولة بهدف الحفاظ على الوضع القائم، أي أنها دفاعية من الطراز الأول وليست هجومية. ما بعد الجولة هو العودة إلى ما كان، أي البقاء في المُعادلة القائمة، وترميم منظومة الفصل الإسرائيليّة ما بين الجبهات الفلسطينيّة المُختلفة: الإبقاء على حريّة الحركة والاعتقال في الضفة الغربية، والإبقاء على غزة معزولة عمّا يحصل في الضفة الغربية. وهو نفسه سياق الجهود الإسرائيليّة التي كانت واضحة جدًا، لإعادة الفصل ما بين القدس وغزّة حيث حصل الربط في حرب «سيف القدس». وبكلمات أخرى: الهدف من العدوان، منع تشكّل شيء جديد وليس تغييرًا استراتيجيًا إسرائيليًا على الوضع القائم، إنّما منع تغيير استراتيجيّ فلسطيني. 

هذا أيضًا ما تؤكده رغبة «إسرائيل» بعدم دخول «حماس» إلى المعركة، رغم الادّعاء بأن الجيش الإسرائيلي قد تجهّز، وهو ما يؤشّر إلى أن «إسرائيل» لا توجد لديها أهداف استراتيجيّة لتغيير الوضع القائم في غزّة، إنما تسعى لجعل المعركة محدودة مقابل الجهاد، في المعادلة الجديدة التي تحصل تحديدًا داخل الضفة الغربية، ومحاولة عدم ربطها بغزّة. وبالتالي، من المهم جدًا، الاطّلاع على الفرق بين معركة تبدأ بمُبادرة إسرائيليّة، ولكنها حالة دفاعية في حرب استراتيجيّة للحفاظ على واقع الفصل بين الضفة الغربية وغزّة، المستمر بفضل الانقسام ومنظومات السيطرة الإسرائيليّة التي تحاول تأبيد هذا الانقسام، جغرافيًا وسياسيًا ونضاليًا أيضًا، وواقع فلسطيني يتجه نحو توحيد الجبهات كما حصل في أيّار سيف القدس، حيث توحدت اللد وعكا والقدس وصولًا إلى مخيّم جنين وجباليا. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية