آخر ساعات حرب الإبادة

السبت 18 كانون الثاني 2025
غزة، وقف إطلاق النار
مخيم البريج، غزة. تصوير معز صالحي. أ ف ب

نقف على بعد ساعات من إعلان وقف حرب الإبادة. هذيان يطوف رأسي كأن كل ما حدث لم يكن غير شرودٍ طويل: «معقول توقف؟». أقف وسط جمع من الناس في حي الشيخ رضوان المحاذي لمخيم جباليا شمال مدينة غزة، آخر محطات نزوحنا الطويل. أنظر إلى وجوه الناس المتعبة: لست وحدي! كلٌ يستجدي الطمأنينة من وجه الآخر، الناس تعرف ما يدهشك ويستهلك تفكيرك، وها هم مثلما كانوا منذ 15 شهرًا، يهوّنون عليك ثقل ما تبقى من ساعات، ويضمرون في قلوبهم خشية الخيبة بعد صبر طويل، وخوفهم على أنفسهم وأهلهم من توحش العدو في الساعات الأخيرة. 

طويلة وثقيلة كانت هذه الحرب وبطيء مُضيّ الزمن، غير أن هذه الساعات الفاصلة، هي الأطول والأثقل والأبطأ. يعرف الناس رغبة الإسرائيليين في أن تظلّ الحرب أبدًا، وأن تنتهي بتبديد الكيان الفلسطيني بدءًا من غزة. يتداول الأهالي كل تصريح وموقف، تجول أخبار الإعلام الإسرائيلي المرتبطة بالصفقة مجموعات الواتساب المناطقية والعائلية، لا أحد يحتمل تأخير ساعة النهاية ولو للحظة واحدة. الخوف يمسح وجوه عائلتي مع كل خبر أو موقف يجري تداوله عن إمكانية تأخر سريان وقف إطلاق النار يومًا آخر. 

ما زلت أخشى، أنا ومليونا إنسان في غزة، شرّ كلّ ثانية تفصلني عن الساعة الثانية عشر والربع من ظهر يوم التاسع عشر من كانون الثاني الجاري. من كان يظن أنه سيخرج من هذه المقتلة حيًا؟ رغم أنني الفلسطيني الغزاوي الذي رسَمَت تغطية أربع حروب دامية منذ العام 2008 وحتى 2021 خط حياته المهنية، ما كنت أظن أنني سأعيش زمن إبادة أشك فيه أنني سأعيش دقيقة إضافية! شعرنا بأننا حيال حربٍ لن يشهد نهايتها إلا مَن يموت. 

كان زمنًا شديد الفظاعة. 15 شهرًا مضت، ولم يكن فيها بين النوم والاستيقاظ مجالٌ للتفكير إلا بالموت، موتك، أو موت من تحبهم، أو التفكير بالشاكلة التي ستموت فيها، مقطعًا أم مخنوقًا تحت ركام ثلاث طبقات من الإسمنت، أم نازفًا حتى آخر قطرة من دمك. درجة رهيبة من التنكيل النفسي والجسدي، لم يكن نومنا نومًا، ولم تكن يقظتنا يقظة.

يتقاسم الجميع في شوارع غزة الخشية نفسها: «مسكين من يداهمه الموت بينما ينتظر الجميع ولادة جديدة!». 6% من سكان القطاع استشهدوا، غير أن الحياة سُلِبت من كل إنسان في غزة. لقد سلبَتهم الحرب نسق الحياة الهادئ، وخسروا ممتلكاتهم وحياتهم وكل ما يملكون. ها هم الآن، في آخر ساعات الإبادة، يبشرون بعضهم: من يخرج من حربٍ كهذه حيًا ومعافىً في بدنه، فقد كُتب له عمرٌ جديد. وإزاء ذلك، أغلقت البسطات والمحلات التجارية وحتى الشركات الوطنية الكبرى معارضها وأبوابها إلى حين دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فالفلسطينيون يحفظون سلوك عدوهم عن ظهر قلب، سيتضاعف القصف، سيقتل العشرات وهم ينتظرون الفرج، ضحايا اللحظات الأخيرة لا بواكي لهم. 

لكن السلامة الجسدية ليست كابوسنا الوحيد، هناك ما هو أسوأ من الموت بكثير، ذلك ما تحكيه تجاربنا، وتجارب من اعتقلوا لساعات أو أيام أو أسابيع في السجون، لقد حوّل الاحتلال أجساد المعتقلين إلى مساحة لتفريغ الأحقاد النفسية وعقد النقص. يحكي صديقي الممرض كيف استطاع الفكاك من حصار الاحتلال لمستشفى كمال عدوان في مغامرة رهيبة فرص مقتله فيها كانت أضعاف فرص نجاته، بالنظر إلى عدد الدبابات المهول التي أحاطت بالمستشفى من جهاته الأربعة، وعشرات الطائرات المسيرة التي سيطرت على كل المنافذ والشوارع المحيطة بالنار.

سألته بعد ساعتين من حديثه المتواصل عن فصول نجاته المثيرة التي تشبه كل شيءٍ إلا أن تكون حقيقة: «إنت ممرض فقط يا أحمد، كان سلمت نفسك وبلاه هالعذاب؟» ليرد: «بعد ما سمعت ما تعرّضله الشباب في سجن سديه تيمان، عاهدت حالي إني أموت قبل ما أسجن».

إن الهاجس الجماعي الأكبر، الذي يجعل من وقف الحرب حدثًا تتداخل فيه جملة من المشاعر المتناقضة، الفرح، الحزن السميك الطويل، الشعور بالخلاص، الخوف مِما هو قادم، هو الخشية من احتلال غزة وتقطيع أوصالها، فقد انصبّ الضخ الإعلامي الإسرائيلي منذ شهور، على فكرة أن الجيش الذي يقيم مواقع عسكرية وقواعد دائمة في نتساريم وفيلادلفيا وحتى في مخيم جباليا وبيت لاهيا، لن يخرج منها في وقت قريب، بل إن اليمين الإسرائيلي يضع ضمن أهدافه بعيدة المدى، تهجير كل سكان القطاع وسرقة أراضيهم. لقد أضحت هذه الهواجس كابوسًا لا يغادر العقل الجمعي في غزة، إذ فقد الأهالي قيمة البقاء والحياة، وقد وطّنوا أنفسهم في غمرة استمرار القتل، على أنه وحتى إن توقفت الحرب، فإن الحياة في أرض مسلوبة يحتاج التنقل فيها من شارع لآخر المرور من تحت فوهة بندقية العدو، يعني أن ما مضى ظلم وما هو قادم ظلمات. أما وقد تبدى أن ذلك لم يعد ممكنًا على التحقيق؛ فخليق بالناس أن يشعروا بالخلاص، رغم أنهم فقدوا نسق حياتهم الهانئة التي اعتادوها، لا كهرباء ولا مياه ولا منازل صالحة للسكن في غزة، لا تعليم ولا مؤسسات صحية، لأن حرب الإبادة ستتوقف. 

«ما زلت حيًا، ألف شكرٍ للمصادفة السعيدة!» لست أدري حتى اللحظة كيف نجوتُ إن كنت نجوت حقًا فما زال في عمر الحرب متسع، مَن يعلم ماذا خبأ القدر، لكن الفارق الآن، أني أستقبل القادم من الأيام بالبشر والتفاؤل لا بالخوف، صحيح أنني فقدت أبناء أختي الثلاثة خليل ومحمد وحمزة، وزوج أختي وخالتي وستة عشر شهيدًا من أفراد عائلتي، صحيح أنني فقدت منزلي الذي لم أسدد ديون بنائه بعد، لكني «لم أزل حيًا!»، ويفصلني عن لقائي الأول بزوجتي وأولادي الثلاثة سبعة أيام فقط بعد غياب قسري استمر 15 شهرًا، مذ نزحوا إلى جنوب القطاع لأتفرغ لعملي الصحفي في شمال غزة. يحاصرني شعورٌ عشته وأنا أغادر بيتي في اليوم السابع من الحرب: «منَ يفارق في زمن الإبادة، لن يلاقي بتلك السهولة» وقد دمر المنزل فعلًا، ولا زلت أنتظر لحظة اللقاء وجمع الشمل بالعائلة، وأخطط مليًا لتلك اللحظة، اتفقنا أن أنتظرهم على الشق الشمالي من حاجز نتساريم، غير أني أفشل في أن أبقي الحزن الذي يسكن قلبي مضمرًا، ها أنا أنتظر أحبائي، وأسأل الله أن يكمل هذا اللقاء، غير أن في صدري نحيبًا شديدًا على آلاف مشردين لن ينتظرهم أحد، فقد قتل العدو المجرم كل أهلهم وأحبائهم.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية