آلام الشقيقة: أن يقتحمك الألم كزائر ثقيل الظل

الأحد 13 تشرين الأول 2024
تصميم محمد شحادة.

قبل عشرين عامًا تقريبًا، وفي صباح يوم اعتيادي، تصل سهير (56 عامًا) العيادة التي تعمل فيها موظفة استقبال، لتشعر بعد قليل بطعم غريب كالصدأ في فمها، وبنبض خفيف بعينها اليمنى، لتعلم حينها أن هجمة ألم شرسة ستُداهمها قريبًا. تتصل بزوجها للقدوم فورًا لاصطحابها للبيت، ويتفهم الطبيب الذي تعمل عنده ضرورة مغادرتها، «ببطّل قادرة أتحمّل أحكي مع الناس، الأحسن للكل إني أروّح» تقول سهير. عند وصولها للبيت، تلغي كلّ خطط الأعمال المنزلية والزيارات العائلية، وتعزل نفسها في إحدى الغرف، وتغلق بإحكام أي مصدر للضوء. ومع الوقت يزداد الألم في عينها وتبدأ بسماع أصوات تحفر في أذنها.

بعد 72 ساعة من الأعراض يتمكن الألم منها، يرافقه لعيان واستفراغ، فيأخذها زوجها للطوارئ حيث تعزلها الممرضة في غرفة معتمة وتعطيها إبرة بيثيدين مسكنة.[1] لا تتذكر سهير ما يحدث بعدها، يخبرها أبناؤها وزوجها لاحقًا أنها كانت مُخدرة تمامًا وغير قادرة على الكلام، ونامت لساعات طويلة، قبل أن تستيقظ في اليوم التالي وقد انتهت نوبة الشقيقة (الصداع النصفي).

أصيبت سهير بأول نوبة شقيقة وعمرها 35 عامًا. حينها شخصها الطبيب من خلال عدة أسئلة عن طبيعة الألم ومدته وطلب منها صورة طبقية للدماغ لاستبعاد أي مسببات أخرى محتملة للألم. وقتها كانت نوبة الشقيقة تزورها ثلاث مرات شهريًا، وللتعامل معها جربت أنواعًا كثيرة من الأدوية بينها الدولوراز والفولتارين وأخرى لا تذكر اسمها، ومنعت نفسها عن أنواع محددة من الطعام كالشوكولاته والأجبان والألبان ومشتقاتها. وهي إجراءات حاولت عبرها تقليل الألم دون اللجوء للمسكنات القوية، خوفًا من أن تدمن عليها، كما حذرها الطبيب مرارًا. لكن هذه الإجراءات لم تكن تُحدِث تأثيرًا يُذكر إلّا في الحالات التي يكون فيها الألم خفيفًا، ولذا في معظم الحالات، كان الحال ينتهي بسهير في غرفة الطوارئ لتلقي إبرة ترامادول.

تُعرّف الشقيقة على أنها نوبات متكرّرة من الخفقان المعتدل إلى الشديد والألم النابض على جانب الرأس. وينجم الألم عن تنشيط الألياف العصبية داخل الأوعية الدموية في الدماغ. يصاحب النوبة، التي تستمر ما بين أربع ساعات إلى 72 ساعة، انزعاج شديد من الضوء والأصوات، وشعور بالغثيان وحاجة للتقيؤ أحيانًا، وتزداد الأعراض سوءًا مع الحركة.

بحسب منظمة الصحة العالمية فإن نوبات الألم هذه غالبًا ما تؤثر على الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم ما بين 35 إلى 45 عامًا، وتؤثر على النساء ثلاث مرات أكثر من الرجال، إذ يبدو أن هرمون الأستروجين يحرّض الشقيقة. وتلعب العوامل الوراثية دورًا رئيسًا في الإصابة بها، فيما يعزز من احتمالات الإصابة بها التوتّر والتغيرات الهرمونية، وبحسب دراسة من العام 2017 فإن الشقيقة تؤثّر على واحد من كل عشرة أشخاص بالعالم.

غالبًا ما تؤثر الشقيقة على الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم ما بين 35 إلى 45 عامًا، وتؤثر على النساء ثلاث مرات أكثر من الرجال، وتلعب العوامل الوراثية دورًا رئيسًا في الإصابة بها

كما تعتبر الشقيقة، إضافة للصداع التوتري، أحد الأسباب الرئيسة لتعطل الأفراد المصابين في جميع أنحاء العالم. ورغم تأثيرها الكبير على أنشطة الحياة اليومية من عمل وتعليم ومناسبات اجتماعية، إلا أن تشخيصها لا يزال دون المطلوب في العالم العربي، حيث تشير دراسة من العام 2020 إلى ضرورة تعزيز الجهود البحثية لدراسة التشخيص والوقوف على الأعداد بشكل أكثر دقة في المنطقة العربية والعالم عمومًا في ظل غياب الدراسات بسبب ضعف التمويل.

يشير الدكتور عبدي ريالات، أخصائي الدماغ والأعصاب، إلى أن تبعات الإصابة بالشقيقة كبيرة جدًا، تحديدًا بسبب أنها تصيب الأشخاص في أكثر سنوات حياتهم عطاءً. ويوضح الريالات أن على المؤسسات الصحية والمعنية أن تنظم حملات تعريفية بالمرض، خاصة وأن نسبة انتشاره في الأردن مماثلة للنسبة العالمية، في ظل عدم تعامل مؤسسات العمل مع ألم المرضى وحاجتهم للراحة بجدية كافية.

عند سماح* (33 عامًا) لا ترتبط نوبة الشقيقة إلا بالتوتر. هي تعلم جيدًا أن أسبوعًا ضاغطًا دون راحة يعني نوبة شقيقة قريبة. وتتمثل النوبة لديها بألم شديد في جانب واحد قد يمتد أحيانًا إلى صداع في كامل الرأس، يرافقه لعيان وغباش بالعين ودوخة تُشعرها وكأنها تطفو على موجة. ومن تحت العين يتحرك الألم مرورًا بما وراء أذنها بشكل دائري، لتشعر كأن شيئًا يمزق رأسها. وعند حصول الصداع فإنه لا يمكنها التنبؤ إن كان سيستمرّ ثلاث ساعات أو ثلاثة أيام.

مع قدوم الألم تبدأ محاولات سماح العديدة للتعامل معه؛ حبوب مُسكنة، واسترخاء، وتمارين تأمل تتخيل نفسها خلالها في مكان هادئ في الطبيعة، وتغلق على نفسها في غرفة تحاول قدر المستطاع منع تسرّب أي مصدر للضوء أو الصوت إليها. يحاول ابنها أحمد (9 أعوام) مساعدتها من خلال إلهاء شقيقته الصغرى. لكن هذه العزلة التي تحاول سماح الوصول إليها لا تستمر أكثر من ساعة، إذ لا تستطيع الغياب عن أطفالها طويلًا، خاصة في ظلّ عمل زوجها خارجًا، وللسبب ذاته تتجنب تناول الأدوية المنوّمة التي تحتاجها في بداية النوبة. تخرج سماح من الغرفة وتتابع أطفالها وأعمالها المنزلية رفقة الألم. كل هذا يحدث بعد أن تكون سماح قد قضت يومًا كاملا في عملها مُدرسة لطلبة في المرحلة الثانوية. يتفهم طلابها ما تعنيه نوبة الألم التي تزورها أحيانًا خلال الحصص، ويراعونها من خلال تقليل الأصوات للحد الأدنى في الصف. تُقدر سماح لطلابها هذا التفهم، لكن هذه المحاولات لا تُحدث فرقًا حقيقيًا في هجمة الألم. وبحكم طبيعة عملها، لا تتمكن من أخذ الكثير من الإجازات والمغادرات لما قد يسببه ذلك من تراكم في المنهج على طلابها وزيادة ضغط العمل عليها.

ما يزيد توتر سماح هو تقليل الناس من حولها من جدية ألم الشقيقة. وكثيرًا ما اقترح عليها الناس في محيطها علاجات من قبيل أدوية وتبخيرات وعلاجات طبيعية، وهي اقتراحات تصيبها بالإحباط وتشعرها بالتقصير وكأن الحل متاح وسهل وكلّ ما عليها فعله هو أن تلجأ إليه، فيما الحقيقة عكس ذلك: «لما تيجي النوبة إنت بس بدك تخلص من الوجع، أصلًا ما عندك طاقة تجرب وصفات». وهذا ما أكده لها طبيبها، فكل ما تحتاجه هو الراحة والابتعاد عن التوتر وهو أمر مستحيل كونها أمًا عاملة تتحمل وحيدة مسؤولية رعاية أطفالها.

قبل سنوات، أخبر الطبيب سماح بتوفر إبرة تأخذها مرّة في الشهر فتقي من الألم أو تخفف الأعراض بنسبة كبيرة، ولكن المشكلة كانت في تكلفتها، التي كانت تعادل راتبها تقريبًا، فيما لا يغطي تأمينها هذه التكلفة على اعتبارها علاجًا تكميليًا. ولذا كان الحلّ اللجوء للخيارات التقليدية مثل أن تعزل نفسها مع بداية الألم وأن تعتمد على المسكنات الخاصة بالشقيقة.

أمّا سهير، فكان حظها أفضل، حيث تخلصت اليوم من النوبات تمامًا، إذ بعد أربع سنوات من التشخيص اقترح عليها طبيبها علاجًا بإبرة البوتوكس، وفيه يحقنها مرّة كل ستة شهور برقبتها وأكتافها ومحيط رأسها، ليختفي الألم بشكل شبه تام. ظلت سهير تتلقى هذه الإبرة كلّ ستة أشهر حتى أصبح عمرها 45 عامًا، حينها انقطعت دورتها الشهرية، وانتهت معها حاجتها للإبرة، إذ انتهت نوبات الشقيقة. تشير الدراسات إلى ارتباط الشقيقة لدى النساء بالتغيرات الهرمونية، وتلاحظ معظمهنّ تحسنًا في وضعهنّ في عمر انقطاع الطمث.

علاجات الشقيقة

تنقسم التدخلات العلاجية للشقيقة إلى شكلين أساسيين، تدخّل لإيقاف هجمة الألم الطارئة، وآخر للوقاية منها أو تقليل أثرها عند حدوثها. يشير الريالات إلى أن أشهر أنواع الأدوية الوقائية التي تُعطى لمريض الشقيقة هي مثبطات البيتا، التي لم يُفهم بشكل دقيق بعد كيفية عملها، لكن تقول إحدى النظريات إنها تمنع مجموعة من التغيرات الهرمونية بالدماغ مما يقلل الهجمات المستقبلية. إضافة للأدوية التي تعمل على ضبط وتنظيم السيالات العصبية في الدماغ بطريقة تساعد على تخفيف نوبة الألم عند حدوثها، كأدوية الاكتئاب وعلاجات الشحنات الكهربائية.

ويختار الطبيب الأدوية اللازمة للتسكين من مجموعة واسعة من الخيارات، منها المسكنات الاعتيادية التي قد تنفع في حالات الألم الخفيف، ومنها المُسكنات المُخصصة للشقيقة. وقد يضاف لها جميعًا وفي حالات كثيرة أدوية يتم وصفها للتعامل مع بعض الأعراض المرافقة كاللعيان، أو بعض الأعراض الجانبية للمسكنات القوية. وتختلف فعالياتها من مريض إلى آخر حسب طبيعة الأعراض وشدتها.

علاجات أخرى يجب التعامل معها بمسؤولية عالية بحسب الريالات، كالعلاج بالبوتوكس الذي سُمِح باستخدامه في الأردن على أن يقتصر على حالات محدودة جدًا يكون الألم فيها مزمنًا وتتكرر فيه النوبة لأكثر من مرتين أو ثلاث مرات بالشهر، أو حالات يمتد فيها الألم لما مجموعه 15 يومًا بالشهر، حيث لا تؤثر التدخلات الدوائية والمُسكنات في تخفيف ألم هذا النوع من المرضى. يتعامل البوتوكس مع الألم من خلال إيقاف النواقل العصبية قبل أن تصل من الدماغ إلى النهايات العصبية في الرأس والرقبة. لكن ما يمنع اعتماده كعلاج نهائي هو ارتفاع ثمن الإبرة الواحدة الذي قد يصل 150 دينارًا، والأعراض الجانبية التي تتمثل بالتهدل الكامل للجفن وصعوبات التنفس أو البلع.

ورغم أن معظم المصابين بالشقيقة يعانون منها وعمرهم يتراوح بين 35 و45 عامًا، إلّا أنها في بعض الحالات تبدأ بالظهور في عمر مبكرٍ جدًا، وهو ما حصل مع خالد، الذي يبلغ من العمر اليوم 21 عامًا، إذ أصابته أول نوبة في عمر عشر سنوات تقريبًا. حينها كانت والدته تتلقى اتصالات دورية من مديرة المدرسة تشكو من نومه في الحصص وأن الطفل يبدو مرهقًا. زار خالد طبيب أعصاب فوصف له دواءً مخصصًا للصرع أخذه لشهر كامل زادت خلاله الأعراض سوءًا، لتوقِف والدته الدواء وتكتفي ببعض المسكنات والفيتامينات بتوصية من طبيب آخر. كانت نوبات الألم تزور خالد بشكل متقطع طوال فترة طفولته، ونتيجة لها كان تحصيله المدرسي دومًا أقل من توقعه مهما سعى لتحسينه. وقد شكّل هذا الصداع غير معروف السبب، قلقًا كبيرًا لوالديه، دفعهما لتغيير مستمرّ للأطباء ولمحاولات تجربة وصفات طبيعية وعلاجات بديلة. لكن مع الوقت، وتقدم خالد بالعمر، تعلّم كيفية التعامل مع ألمه. تقول والدته: «ما كنت بعرف شو يعني شقيقة ولا عمري سمعت عنها. مع الوقت فهمنا إنها نوبة وجع، بتيجي وبتروح، وصارت الأمور سهلة لما خالد كبر وصار يعرف يتصرف معها».

تتشابه أعراض الشقيقة وعلاجاتها بين الأطفال والبالغين، ويحصل أحيانًا أن يختلط تشخيص الشقيقة بالصرع لدى بعض الأطباء وذلك بسبب تشابه التغيرات الكيميائية التي تحدث في الدماغ في الحالتين، ومن بينها الدخول في نوم عميق، لكنه في الشقيقة، يقول الريالات، قد يحدث خلال النوبة أو في مرحلة الهالة[2] السابقة لها، وقد يكون عرضًا جانبيًا لبعض الأدوية والمُسكنات.

عند بدء نوبة الشقيقة لدى خالد يكون الألم شديدًا ويزداد مع أبسط مجهود بدني يبذله، كحركات الصلاة مثلًا. لكنه اليوم يتفهم ألمه بصورة تساعده على تكييف ظروفه معه، فبات يتوقع نوبات الألم في أيام الصيف الحارة، ويدرك أن توتر الامتحانات الجامعية وتدخين الأرجيلة عوامل أساسية تزيد احتمالية حدوث نوبة الألم.

ولأن الألم عادة ما يحصل في وقت مبكر من اليوم، فإن خالد يبرمج يومه للتعامل مع هذه النوبة، فيقصد الصيدلية للحصول على مسكن «إميجران» المخصص للشقيقة، ويلغي خططه ومشاريعه ويغيب عن محاضراته الجامعية يومها، ويُخبر أسرته أن صداعًا قد بدأ، قبل أن يدخل غرفته ويضبط التكييف على درجة حرارة منخفضة ويستسلم لساعات نوم طويلة قد تمتد إلى 12 ساعة، ينفصل خلالها عن الواقع تمامًا: «ما بصحى عإشي، حتى لو صار عندي عرس بالغرفة». وفي فترات الامتحانات يعطي نفسَه وقتًا أطول للدراسة، تحسّبًا لمباغتة النوبة وفقدانه يومًا بسببها.

بعد انتهاء النوبة يستيقظ خالد على جوع شديد، يُفضل لكسره أكلَ الموالح أو أنواع محددة من الشوربات التي تساعد معدته على تقبل الطعام من جديد. ويعتبر هذا من أعراض ما بعد هجمة الألم، والتي يعيشها 80% من المصابين بالشقيقة وتمتد ليوم واحد بعد الصداع، وتشمل صعوبة في التركيز وآلام العضلات، والشعور بالتعب والإرهاق لدى البعض، مقابل الشعور بالسعادة والانتعاش لدى البعض الآخر، إضافة لقلة الشهية أو رغبة شديدة بتناول الطعام.

يختلف حديث كل مريض عن طبيعة المرض وشدته. وتختلف باختلافها ممارسات المرضى للتحايل عليه. إلا أنه، وبعد تكرار نوبة الشقيقة لمرات قليلة معدودة، وطمأنة الطبيب باستبعاد أي مسببات خطيرة له، يكوّن المرضى فهمًا أفضل لها، ويتعاملون معها كزائر حتمي ثقيل الظل لا فرار من استقباله، يُعطل يومهم ويتلاعب بحواسهم، ويرحل دون إعلامهم بموعد محدد لزيارته القادمة.


هذا التقرير جزء من زمالة حبر للصحافة الصحية، الممتدة من أيلول 2023 حتى أيلول 2024، وفيها تنخرط سبع زميلات من خلفيات معرفية متنوعة في إنتاج تقارير صحفية بقوالب مختلفة حول قضايا صحية تتقاطع مع الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

  • الهوامش

    * اسم مستعار.

    [1] البيثيدين مخدر ومسكن للألم، ينتمي إلى مجموعة المسكنات الأفيونية، يمنع إرسال مسارات الألم الصاعدة للدماغ، مما يمنع الشعور بالآلام المعتدلة إلى الشديدة.

    [2] الهالة هي مجموعة من الأعراض التي تسبق نوبة الشقيقة وتظهر على شكل غباش بالعين أو سماع أصوات غير حقيقية

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية