التوقيت الصيفي

كيف يؤثر تثبيت التوقيت الصيفي على صحتنا؟ حوار مع العالم الأردني سامر حتّر

تصميم محمد شحادة.

كيف يؤثر تثبيت التوقيت الصيفي على صحتنا؟ حوار مع العالم الأردني سامر حتّر

الإثنين 31 تشرين الأول 2022

حين أعلنت الحكومة الأردنية مطلع هذا الشهر عن قرار تثبيت العمل بالتوقيت الصيفي طيلة العام، دار نقاش حول التداعيات المحتملة لهذا القرار، تعلق بالأساس بالمخاطر الأمنية التي قد يثيرها الخروج للعمل والمدارس في الظلام، فضلًا عن الاختلاف في مواعيد دوام الأهالي ودوام أطفالهم. لكن تبعات هذا القرار الذي أثار استياء كثيرين لا تتوقف هنا، بل تمتد عميقًا إلى الطريقة التي تعمل بها أجسامنا وتتأثر بها بالضوء، وانعكاس ذلك على النوم، وعلى الصحة البدنية والنفسية بما هو أبعد من ذلك.

نعلم مثلًا أنه في أيام الشتاء التي تتلبّد فيها السماء بالغيوم وتختفي الشمس، قد نشعر بتعكّر المزاج، أو انعدام الطاقة. ونسمع كثيرًا عن الدول التي ينتشر فيها اكتئاب الشتاء الموسمي بسبب الليالي الطويلة والحرمان من ضوء الشمس. ففي مدينة كوبنهاغن الدنماركية مثلًا، والتي تأتي في مراتب مرتفعة ضمن تصنيف الدول الأكثر قابلية للعيش من ناحية مقومات الرفاه الاجتماعي والرعاية الصحية، يعاني 90% من السكان من اضطرابات في النوم أو اضطرابات في الأكل والشهية في فصل الشتاء، ويعاني 5% منهم من أعراض الاكتئاب السريري، وتختفي هذه الأعراض عادةً مع بدء فصل الربيع.

قد يبدو هذا الموضوع بديهيًا، لكن علاقة الضوء، خاصة ضوء الشمس الطبيعي، بالمزاج والوظائف الإدراكية ووظائف الجسم عمومًا ما يزال مجال بحث مستمر لدى علماء الأحياء، خاصة أولئك المختصين بالساعة البيولوجية، وما زال هناك الكثير من الأسئلة حول الساعة البيولوجية التي لم يعثر العلماء على إجاباتها بعد.

من بين هؤلاء العلماء الأردني سامر حتّر، الذي كان ضمن مجموعة حققت اختراقًا علميًا مهمًا في هذا المجال في العام 2002. حتى بداية الألفينات، كان علماء الأحياء يعتقدون أن المستقبلات الضوئية الوحيدة الموجودة في العين هي ما يسمى بالعصي والمخاريط، وهي مسؤولة عن الإبصار. لكن حتّر وزملاءه كشفوا في ورقة بحثية نشرت في مجلة Science عام 2002 أن هناك مستقبلات ضوئية أخرى في العين لا علاقة لها بالإبصار، ترتبط مباشرة بنواة في الدماغ مسؤولة عن ضبط إيقاع الساعة البيولوجية للجسم. 

حاورت حبر حتّر في محاولة لفهم التأثيرات الصحية المحتملة لقرار الحكومة الأردنية بتثبيت التوقيت الصيفي، وتأثير الضوء على حياتنا بشكل عام وما يمكن أن نفعله حتى نجعل البيئة الضوئية المحيطة بنا مساهمًا إيجابيًا في صحتنا الجسدية والنفسية والعقلية.

يشغل حتّر حاليًا موقع رئيس قسم أبحاث الضوء وإيقاع الساعة البيولوجية في المعهد الوطني للصحة العقلية في الولايات المتحدة، وعمل سابقًا كأستاذ وباحث في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية. وكان قد حصل على درجة البكالوريوس في الأحياء والكيمياء من جامعة اليرموك في إربد، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هيوستن في الولايات المتحدة.

حبر: قررت الحكومة الأردنية مؤخرًا تثبيت العمل بالتوقيت الصيفي طيلة العام، مما أثار ردود فعل شعبية سلبية، إذ تساءل كثيرون كيف سيذهب الطلاب والموظفون إلى دوامهم في الظلام صباحًا.

سامر حتّر: تمامًا. تخيلي كيف سيستيقظون. المزيد من الضوء في المساء يعني أن إفراز هرمون الميلاتونين (الضروري للنوم) سيتأخر، مما يعني أن النوم سيتأخر. ومن ثم سيستيقظ الناس في الظلام الدامس، في الوقت الذي يستقبل فيه الجسم إشارات من البيئة المحيطة أنه ينبغي أن يكون نائمًا. إنه قرار في منتهى الغباء، وهذا ما فعلوه في الولايات المتحدة كذلك. جميع العلماء المختصين بالساعة البيولوجية هنا قالوا للحكومة إنها فكرة سيئة جدًا. في الأشهر القادمة، تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني، أتوقع عددًا كبيرًا من حوادث السير على الطرقات، لأن معظم الناس ينامون متأخرًا أصلًا، لأنهم يتعرضّون للكثير من الضوء في المساء، والآن أنت تعطيهم المزيد من الضوء في المساء وتحرمهم من الضوء اللازم في الصباح.

هناك منطقة في الصين أجريت فيها دراسة وجدت أن الأشخاص الذين يتعرّضون للظلام أكثر في الصباح لديهم نسب مرتفعة من السرطانات وغيرها من المشاكل الصحية. هذا سيؤثر بشكل كبير على وظائف الأعضاء في جسم الإنسان.

في الأردن، قد لا يكون التغيير ما بين الصيف والشتاء حرجًا مثلما هو في بالتيمور أو في مدينة نيويورك، لكنني ما زلت مقتنعًا أنه من الأفضل تثبيت التوقيت الطبيعي (الشتوي) وليس الصيفي. كان هذا سيكون أكثر حكمةً، لكن السياسيين للأسف لا يفهمون الموضوع. 

هل يمكن أن توضّح لنا أكثر؟ لأنه يمكن القول، أين المشكلة؟ إما أن يكون هناك ساعة إضافية من الظلام في الصباح أو في المساء، وفي كل الأحوال يمكن إشعال النور الكهربائي.

في أغلب المنازل، النور الصناعي لا يمكن أن يكون بنفس جودة وشدّة النور الطبيعي. نعم، من الجيد أن تشعل النور عند الاستيقاظ، لكن لا يمكن بأي حال أن تعوّض عن النور الطبيعي. في طريقهم إلى المدرسة، لن يتعرّض الأطفال إلى ضوء الشمس الذي يحتاجونه بشدة في ذلك الوقت. يجب أن نتذكر أن تأثير الضوء على إيقاع الساعة البيولوجية للجسم لا يحدث على المستوى الواعي، على مستوى الإبصار، وإنما على المستوى غير الواعي، حيث يقيس الجسم شدّة الضوء طيلة الوقت عبر دورة النهار والليل. 

الضوء الصناعي يمكن أن يعوّض عن الضوء الطبيعي إذا تم تصميمه بطريقة جيدة جدًا توزّع الضوء بشكل متوازن من جميع الاتجاهات، وكلفة الطاقة في هذه الحالة عالية جدًا. يمكن أن تنفق الكثير من الطاقة لتحصل على 1000 لكس [lux وحدة قياس شدة الضوء]، بينما في الخارج، حتى في يوم يبدو غائمًا جدًا وكئيبًا، ستحصل بسهولة كبيرة على 5000 لكس، وعندما تكون الشمس ساطعة، يمكن أن تحصل على 100 ألف لكس.

لنأخذ خطوة للخلف: هل يمكن أن توضح لجمهور غير متخصص هذه العلاقة بين الضوء وتنظيم الساعة البيولوجية؟ في بداية الألفينات، كنتَ من ضمن مجموعة صغيرة من العلماء الذين توصلوا إلى اكتشاف اعتبر اختراقًا علميًا في ذلك الوقت، وهو أن هناك مستقبلات ضوئية في العين لا علاقة لها بالإبصار لكنها مرتبطة بشكل مباشر بالمركز المسؤول عن تنظيم الساعة البيولوجية في الدماغ. حدّثنا أكثر عن هذا الموضوع وأهميته.

منذ عدّة سنوات كان الناس يعرفون أن الضوء يؤثر على الساعة البيولوجية اليومية. المشكلة هي أننا لم نعرف إذا كان الموضوع مرتبطًا بالإبصار أم لا، إذا كان هناك نظام مختلف. الاختراق تمثل في أننا وجدنا الخلايا، لم يكن أحد يعلم عن هذه الخلايا من قبل. لكننا وجدناها واستطعنا إثبات أنها تتصل بمركز الساعة البيولوجية في الدماغ، وهذا الاكتشاف مهم لأنه يخبرنا أن هذه الأنظمة في الدماغ منفصلة.

ربما ينبغي أن نتوقف هنا لنسأل، ما هي الساعة البيولوجية أصلًا؟

كل كائن حي درسناه بالتفصيل يمتلك داخله آلية لحساب الوقت. أرى أنك ترتدين ساعة، لذا لا تحتاجين أن يخبرك جسمك كم الساعة، لكن الحيوانات لا تمتلك ساعات خارجية، فكيف تعرف الوقت؟ لديها في أجسامها ساعة داخلية تخبرها ما هو الوقت من اليوم. تخيلي الطيور التي تريد أن تهاجر، ويجب أن تعرف إلى أين يجب أن تهاجر ومتى، الشمس هي التي تدلّها على الوقت. وهذه العملية تحدث على المستوى اللاواعي. لدى البشر كذلك، نحن لسنا واعين أبدًا لهذه العملية البيولوجية، لهذا عندما يخبرني أحدهم «لكنني أحب النور الساطع مساءً»، أقول له، أنت تعتقد أنك تحب النور الساطع مساءً لكن لديك مشكلة في النوم. أنت تستخدم الإدراك الواعي للرؤية من إجل إشعال المزيد من النور ليلًا، وفي تلك الأثناء تضرب ساعتك البيولوجية. الساعة البيولوجية قوية جدًا لدرجة أن بإمكاني أن أضعك في غرفة تحت الأرض بدون أي ضوء (هناك عالم ألماني قام بهذه التجربة أيام النازية)، ويمكن أن أعطيك الطعام في أوقات عشوائية، ومع هذا سيحتفظ جسمك بتوقيت داخلي يساوي في إيقاعه تقريبًا 24 ساعة. لهذا السبب عندما تسافرين إلى الولايات المتحدة مثلًا، جسمك لن يعرف ما الذي حصل له لكنّه سيكون ملخبطًا تمامًا. يحدث الـjetlag عندما تكون ساعتك البيولوجية غير متناغمة مع التوقيت الخارجي.

في البداية، عندما اكتشفتم هذه الخلايا، اكتشفتم فقط الارتباط المباشر مع المنطقة التي تتحكم بالساعة البيولوجية، لكنكم في أبحاثكم اللاحقة في العقدين التاليين، اكتشفتم هذه الوصلات الأخرى..

عندما اكتشفنا هذه الخلايا في البداية أسميناها مستقبلات الساعة البيولوجية اليومية (circadian photoreceptors)، اعتقدنا أن مسارها ضيق وأنها فقط تتحكم بالساعة البيولوجية، لكن لاحقًا، علمنا أن إيقاع الساعة البيولوجية هو جزء واحد فقط من العملية. اكتشفنا أن الضوء يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على مجموعة من الوظائف الحيوية، منها النوم والانتباه والمزاج والتعلم والذاكرة وغيرها. وأحرزنا تقدمًا كبيرًا ونشرنا مجموعة من الأوراق البحثية عالية التأثير حول هذا الموضوع.

هناك تفاعل ما بين الضوء، والساعة البيولوجية، وعملية ضبط التوازن الداخلي لوظائف الجسم، ومن هنا توصّلت إلى ما أسميته النموذج ثلاثي الجوانب (Tripartite Model) الذي أحب أن أتحدث عنه. النموذج ثلاثي الجوانب هو نموذج بسيط: عندما نفكر في أي ظاهرة بيولوجية، لديها ثلاثة مكونات على الأقل، بدايةً، هناك مدى معيّن تحصل هذه الظاهرة فيه، هذا ما نسمّيه التوازن الداخلي (homeostasis). مثلًا إذا تحدثنا عن الجوع، تحتاج أن تأكل كمية معيّنة من الطعام، إذا أكلت أقل منها تبقى جائعًا، وإذا أكلت أكثر منها تشعر بالشبع الزائد. ما هي هذه الكمية تمامًا؟ لا نعلم، لكنها ما يحددها هو ضبط التوازن الداخلي. هذا هو الجانب الأول. لو بقينا مع مثال الجوع، هناك كذلك الوقت من النهار، بالعادة لن تشعر بالجوع في منتصف الليل وأنت نائم، لكنك تشعر بالجوع في موعد الغداء، وإذا تأخرت على موعد الغداء ستشعر بالجوع الشديد، هذه ساعتك الداخلية تخبرك أن عليك أن تبحث عمّا تأكله.

الجانب الثالث هو البيئة المحيطة، والتي كثيرًا ما ننسى أهميتها. أحيانًا تأكل وتشعر بالشبع، لكنك ترى طعامًا شهيًا أمامك وتأكل مرّة أخرى، حتى لو كانت حالة التوازن الداخلي والساعة الداخلية تخبرك ألًا تأكل، فإن البيئة المحيطة تتجاوزهما. نفس الشيء يحصل مع النوم، عندما تبقى مستيقظًا لفترة أطول تزداد حاجتك للنوم، هذا هو جانب التوازن الداخلي. تنام في الليل، هذا هو جانب الساعة البيولوجية. من ثم هناك الضوء الذي يمكن أن يؤثر مباشرة على هذه العملية، البيئة التي تؤثر مباشرة (الضجيج جزء من البيئة لكن تركيزي هو على الضوء). إذا تعرّضت لضوء ساطع وأنت تحاول النوم، يحصل جسمك على إشارة منبهة، تتعارض مع حالة التوازن الداخلي وإيقاع الساعة البيولوجية، وتسبب مشاكل. لهذا أنا أعتقد أن الأشخاص الناجحين، إذا تحدثتِ معهم، ستجدين أن ما يشتركون به هو أن لديهم جدولًا منتظمًا، مهما كان هذا الجدول، يتبعون نظامًا حازمًا، يستيقظون في وقت محدد، يأكلون كمية محددة من الطعام. إذا ضبطنا إيقاع الساعة البيولوجية، مع حالة التوازن الداخلي والبيئة المحيطة، يمكن أن نحصل على أفضل حالة لوظائف جسم الإنسان. إذا جعلت هذه الجوانب الثلاثة متناغمة مع بعضها، ستشعرين بالفرق، سيكون لديك قدرات ذهنية أفضل، مزاج أفضل، رغبة أكبر في ممارسة الرياضة، رغبة أقل في تناول أطعمة سيئة. كل شيء سيكون في مكانه. 

ما فهمته من حديثك ومما قرأته من أبحاثك السابقة هو أن الموضوع لا يتعلّق فقط باتباع جدول صارم، بل أيضًا بإيجاد الإيقاع المناسب للشخص لأن كل شخص يمكن أن يكون لديه إيقاع مختلف عن الآخرين، أليس كذلك؟

تمامًا، يجب أن تعرف نفسك أيضًا، وهذا أصعب للقياس وهو من التحديات في مجالنا. لكن هناك حاليًا الكثير من العلماء المميزين الذين يطورون تقنيات تتيح لك إجراء فحص واحد يكشف أين هي ساعتك البيولوجية بالضبط، لأنه كما أخبرتك سابقًا، هذا الموضوع يحدث على المستوى اللاواعي، بالتالي لا يمكن لك أن تعرفي أين هي ساعتك البيولوجية لأنك لا تستطيعين قياسها. يمكنك فقط أن تعرفي أنك متعبة أو أن مزاجك سيء، لكنك لا تعلمين لماذا. لهذا السبب في فصل الشتاء كثيرًا ما نقول إننا نشعر بالكآبة لكننا لا نعلم لماذا. الآن نعرف السبب.

هل هذا هو السبب وراء التناقض ما بين الواعي واللاواعي، حيث يقول الكثيرون أنهم أشخاص ليليون، لكن ليسوا فعلًا كذلك؟

هذا واحد من أكبر الأسئلة التي أعمل عليها ويجب أن نختبر الموضوع. حاليًا تسعة من كل عشرة أشخاص يقولون إنهم ليليون، يفضّلون السهر، لكن هذا مؤشر على أن هناك أمرًا غير طبيعي بالموضوع، وهذا حدث بعد اختراع النور الكهربائي. نعم، ربما هناك أشخاص تدفعهم جيناتهم وساعتهم الداخلية للسهر أكثر، لكنني أعلم يقينًا أن هناك أشخاصًا يعتقدون أنهم يفضلون السهر فقط لأن ساعتهم البيولوجية ليست مضبوطة بشكل سليم ولا يتعرضون للبيئة الضوئية الصحيحة.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

هذا يأخذني إلى سؤال، ما هي هذه البيئة الضوئية الصحيحة؟ نقرأ كثيرًا في الأدبيات الصحية حول النوم وتحسين جودة النوم أنه من الأفضل أن نعرّض أنفسنا لضوء طبيعي بعد فترة وجيزة من الاستيقاظ صباحًا. عندما قرأت هذه الفكرة لأول مرّة، وجدتها مربكة: إذا شاهدت شروق الشمس في بداية يومك ستنام بشكل أفضل في الليل؟

بكل تأكيد، وما يحزنني هو أننا في الأردن لدينا ضوء شمس جميل جدًا معظم الوقت، لكن لا يبدو أننا نستغله كفاية. لكن يجب أن نتذكر أيضًا أنه من غير الكافي أن تتعرض للضوء الطبيعي في الصباح، يجب أيضًا ألّا تتعرض للضوء الساطع في المساء. هذا يربك الجسم. صحيح أنه يمكن القول إنك لو تعرّضت لضوء طبيعي ممتاز في الصباح بعد الاستيقاظ بقليل، هذا يقلل من تأثير الضوء عليك في المساء، لكن يبقى هناك تأثير. ما أفعله هو أنني لا أنظر إلى هاتفي في المساء، وإذا اضطررت لذلك، أنظر إليه بشكل جانبي بحيث لا يكون الضوء المنبعث منه مباشرًا في عيني، وكذلك أغير إعدادات الشاشة إلى أقل ضوء ممكن. 

إذا كنت تستخدم الهواتف الذكية والآيباد مساءً، تظهر الأبحاث أن هذا سيؤخر استغراقك بالنوم ثلث ساعة على الأقل. ثلث ساعة بمقاييس النوم ليست وقتًا قليلًا أبدًا، خصوصًا أننا محرومون من نيل القسط الكافي من النوم معظم الوقت، وتجبرنا البيئة الاجتماعية على الاستيقاظ في ساعة معينة. لهذا عندما نؤخر النوم، ونستيقظ قبل أن نكون قد حصلنا على قسط كافٍ من النوم، ما يحصل هو حرمان من النوم، وعندما يتحول هذا إلى حالة مزمنة، كل أنواع المشاكل ستظهر، مشاكل في القلب، وفي العمليات الأيضية، وفي الإدراك. نرى اليوم الأطفال في المدارس، يشكو مدرّسوهم من أنهم لا يستطيعون البقاء مستيقظين، بكل تأكيد لا يستطيعون البقاء مستيقظين لأنهم لا ينامون كفاية ليلًا، والتوازن الداخلي لديهم في حالة سيئة جدًا خلال النهار، لا يستطيعون الانتباه مطلقًا. وكيف سيتعلمون أي شيء إذا لم يتمكنوا من الانتباه؟

لكن ماذا عن الضوء في البيئة المحيطة؟ كثيرًا ما نرى أماكن تستخدم ضوءًا ساطعًا في المساء، أحيانًا حتى بشكل متناقض لما نتوقعه منها، كالمستشفيات على سبيل المثال.

المستشفيات تتصرّف بشكل غير منطقي. مرة ذهبت إلى الطوارئ لسبب بسيط، وفي الليل كنت أحاول النوم، لكن كان هناك ضوء أبيض بقوّة 400 لكس على الأقل مباشرة فوق عيني، وقلت لهم إنني لا أستطيع النوم، فردّوا «لكن الممرضة بحاجة لأن ترى». لكن إذا كنت عاجزًا عن النوم كيف تتوقعون منّي أن أتحسن؟ 

هناك دراسة مثيرة للاهتمام في مستشفى في إحدى الدول الاسكندنافية، حيث وجدوا أن المرضى الذين يقيمون في غرف مطلّة على الشرق، يخرجون من المستشفى في المتوسط قبل أسبوع من المرضى الذين تقابل نوافذ غرفهم الغرب، وذلك لأنهم يرون الشمس في الصباح الباكر. إنه أمر يكاد لا يصدّق لكن البيانات كانت مذهلة.

عودة إلى موضوع التوقيت الصيفي، أنت الآن تجبر الناس على التعرّض للمزيد من الضوء في المساء، ولضوء أقل في الصباح. هل يمكن أن يكون هناك ما هو أغبى من هذا؟ يعاني تسعة من كل عشرة أشخاص في المدن من الحرمان من النوم الكافي. أنت تقول لهم، لديك مشكلة في النوم المتأخر، سوف أعالجك بأن أدفعك للتأخير أكثر. في المناطق الريفية قد يكون الوضع أفضل لأنهم لا يتعرضون لنفس كمية الضوء.

كان هنالك دراسة جميلة جدًا لباحث في جامعة كولورادو اسمه كين رايت. كثيرًا ما يقول الشباب إنهم يفضلون النوم متأخرًا بطبيعتهم، لذا قام كين بتجربة بسيطة. أخذ مجموعة من الطلاب في رحلة تخييم، وقال لهم، سوف تبعدون هواتفكم في المساء، وسوف تعيشون في الطبيعة، وسنرى إذا كنتم ستنامون متأخرًا. أغلبهم ناموا قبل ساعتين من موعد نومهم الاعتيادي واستيقظوا أبكر بساعتين. إنه جنوني، لم يقم بالتجربة لفترة طويلة لكنهم انقلبوا فورًا، والحد الأدنى من النوم الذي يحصلون عليه تغير فورًا، كل شيء تغير. 

لهذا أنا بصدد إقناع مديري العلمي أن يدعني أبني غرفًا في المعهد الوطني للصحة العقلية، تكون ذات نوافذ مطلّة على الشرق، حيث سيتعرّض الأشخاص الذين يخضعون للتجربة لشروق شمس جميل كل يوم، وسيكون لديهم ضوء خافت في المساء، كافٍ للقراءة، لكن دون استخدام أي إلكترونيات. يمكن أن يقرأوا كتبًا، ويمكن أن يشاهدوا بعض التلفاز، التلفاز ليس بسوء شاشة الهاتف والتابلت. أريد أن أضعهم تحت ثلاثة أشهر من نظام صارم وأن أعرضهم لبيئة ضوئية جيدة، أنا أؤكد لك أن حياتهم ستتغير تمامًا. 

على سيرة الضوء الخافت في المساء، أذكر أنك قلت في مقابلة أخرى أن أغلب الناس يعتقدون أنهم يحتاجون ضوءًا أكثر مما يحتاجون فعليًا. حين أقرأ على ضوء جانبي خافت، كثيرًا ما أواجه تعليق «كيف يمكنك رؤية أي شيء مع هذا الضوء؟ سوف تدمرين عينيك».

طوال الوقت! بالطبع الموضوع يختلف من شخص لآخر لكنني أقول للناس دائمًا، قوموا بالتجربة. هذا ما قمت به مع عائلتي في الأردن، فهم يحبّون النور الساطع في الليل، ولديهم ثريا فيها 12 لمبة وتكون كلها مضاءة في الليل. لهذا قلت لهم، دعونا نجرب إطفاء اثنتين من الـ12 لمبة وننتظر خمس دقائق، هل تلاحظون أي اختلاف؟ كلا. فلنطفئ اثنتين أخرتين وننتظر، وهكذا. يمكن أن تطفئ 60% إلى 70% من مصادر النور وبعد بضعة دقائق لا تعود تلاحظ الفرق. وهذا بلا شك سيساعدك على النوم بشكل أفضل. نحن محظوظون أن الإبصار حساس للغاية، يمكنك فعليًا أن تبصر عددًا قليلًا من الفوتونات [جسيمات الضوء] في البيئة المحيطة. إذا مرّنت نفسك على الرؤية في الظلام، يمكن أن تكون على متن طائرة على ارتفاع 7000 قدم وأن تستطيع رؤية شخص على الأرض يشعل عود ثقاب. الرؤية حساسة لهذه الدرجة. لكن من حسن حظنا أن نظام المستقبلات الضوئية غير المرتبطة بالرؤية ليست بتلك الحساسية، بل هي أقل حساسية بألف مرّة. بالتالي، يمكنك أن ترى في الضوء الخافت، دون أن يؤثر ذلك على ساعتك البيولوجية بشكل سلبي.

هذه الفكرة تذكّرني بفكرة وجدتها مذهلة عندما قرأتها لأول مرّة، وهي أن الحساسية الضوئية غير المرتبطة بالرؤية مستقلة تمامًا عن الإبصار، مما يعني أنه حتى كفيفي البصر يمتلكونها. 

تمامًا. ما دفعنا للوصول إلى اكتشافنا حول هذه المستقبلات هو باحثون مثل تشاك سايزلر وغيره، إذ كان لديه مرضى يقولون له: أنا أعمى تمامًا. فيسألهم: لماذا تشعل النور عندما تدخل إلى غرفة إذًا؟ ولا يكون لدى المريض جواب. لكن ما اكتشفه هو أنهم كفيفون لكن الضوء يؤثر عليهم بشكل غير واعٍ على مستويات هرمون الميلاتونين في أجسامهم. نشر تشاك وزملاؤه هذه الورقة عام 1995، وقال لي إنه احتاج سبع سنوات ليجد مجلة علمية تقبل نشر تلك الورقة، لأن الناس قالوا له «أنت مجنون، إذا كنت أعمى، فأنت أعمى، وإذا كنت تعتقد أن هناك مستقبلات ضوئية في العين غير العصي والمخاريط، لماذا لم يكتشفها أحد من قبل؟ من المستحيل أن يكون هناك مستقبلات ضوئية في شبكية العين غير العصي والمخاريط». لهذا السبب كان اكتشافنا في عام 2002 كبيرًا جدًا، لأنه كسر عقيدة راسخة في المجال، أن العصي والمخاريط هي المستقبلات الضوئية الوحيدة في العين.

دعنا ننتقل لتأثير الضوء على الوظائف الإدراكية والصحة العقلية والمشاعر. نعلم أن الضوء يؤثر على النوم، والنوم يؤثر على هذه الجوانب كافة، بالتالي فالضوء يؤثر عليها بشكل غير مباشر.

معك حق أننا إذا أثرنا على النوم والساعة البيولوجية فنحن نؤثر بشكل غير مباشر على هذه الوظائف، لكن الجميل أننا نعرف الآن أن هناك أيضًا وصلة مباشرة ما بين المستقبلات الضوئية غير المسؤولة عن الإبصار ومراكز مسؤولة عن تنظيم المزاج في الدماغ. هذه المنطقة تحب الضوء، وخاصة الضوء الطبيعي، لكننا ما زلنا نجهل الآلية الدقيقة وما الذي يتغير. 

الناس يلاحظون تأثير نقص الضوء على المزاج قبل أن يلاحظوا تراجع الوظائف الإدراكية. خلال أسبوع واحد من أشهر الشتاء، تنتاب الناس مشاعر سلبية، لكن التأثيرات طويلة الأمد تحتاج المزيد من الوقت. لذلك أقول للناس، إذا تعرضتم ليوم أو اثنين من الضوء السيء، لا تقلقوا. التأثير على الوظائف الإدراكية يتطلب تغيّرًا مزمنًا في البيئة الضوئية.

من المثير للاهتمام أن هذا الموضوع يبدو بديهيًا: الخروج في الشمس جيد للصحة وللمزاج. لكن مع ذلك، مع أنه أمر بديهي للغاية، إلا أنه كثيرًا ما يكون غائبًا من حياتنا.

بالضبط. هذا ما أقوله طيلة الوقت. كثيرًا ما يأتيني أشخاص يريدون أن أعمل معهم على تطوير لمبات ضوء جديدة، وأقول لهم، أحب أن آخذ نقودكم لكن كل ما عليكم فعله هو الذهاب خارجًا. خاصة إذا كنت تسكن في منطقة فيها الكثير من الضوء وليس في الدول الاسكندنافية. شمس الصباح لطيفة وليست قاسية، وهي مشعة ورائعة وتملؤك نشاطًا دون أن تحتاج للقهوة. الجميع يعرفون أن الذهاب إلى الشاطئ يحسن المزاج ويعتقدون أن الأمر عائد للسباحة أو الاسترخاء، لكن غالبية الفائدة قادمة من أشعة الشمس. 

يجب أن نتذكر ذلك، الدول الاسكندنافية فيها أفضل أنظمة رعاية صحية في العالم، ومع ذلك، في أشهر الشتاء، ترتفع لديهم نسب الاكتئاب والانتحار بشكلٍ درامي. أرى أن هذا مؤشر يخبرك بمدى أهمية الشمس. وحتى أولئك الذين لا يعانون من الاكتئاب سيجدون أشهر الشتاء متعبة للغاية. وبالمقابل، في هذه المناطق في أشهر الصيف يحتاجون إلى ستائر سميكة وداكنة، لأنهم سيصابون بالجنون إذا لم يتمكنوا من النوم، ولهذا يحتاجون هذه الستائر التي تحجب أشعة الشمس في الساعة الحادية عشرة ليلًا. بالتالي المشكلة من الناحيتين، لكن يمكنك رؤية مستوى أعلى بكثير من الطاقة في أشهر الصيف. 

كيف نترجم كل هذه المعلومات لخطوات عملية تنعكس إيجابيًا على حياتنا؟

للحصول على صحة أفضل، يجب أن تكتشف الإيقاع الطبيعي الأفضل لجسمك. ما هو أفضل وقت لك لممارسة الرياضة، وما هو الوقت الذي تشعر فيه بالجوع. لا تدع البيئة المحيطة تقرر عنك متى تأكل. هذه العملية تبدأ بتحسين البيئة الضوئية المحيطة بك: تعرّض لضوء طبيعي بعد الاستيقاظ بقليل، تعرّض للكثير من الضوء خلال النهار، ومن ثم خفف من الضوء في ساعات المساء. يجب أن تعطي الموضوع وقتًا، حتى تصل لمرحلة تستيقظ فيها قبل المنبه. أحيانًا تستيقظ ويكون الجو باردًا وأنت دافئ في الفراش ولا تريد مغادرته، لا مشكلة في ذلك، لكن إذا كنت تستيقظ بصعوبة بالغة وتشعر أنك تحتاج على الأقل ساعة إضافية من النوم، فهذا يعني أن جسمك يقول لك صراحة أنك لست جاهزًا للاستيقاظ. يجب أن تستيقظ عندما تكون جاهزًا. 

هل هذا يعني أننا يجب أن نهدف للاستغناء عن المنبه؟

ليس بالضرورة، لكن إذا كنت تضغط «غفوة» (snooze) ست مرّات قبل أن تنهض من الفراش، فهذا يعني أن لديك مشكلة ويجب أن تجد طريقة لمعالجتها. قد تطلب من عملك أن تداوم في وقت متأخر، وأنا أعتقد أن البشر يجب أن يؤمنوا بالمرونة في العمل، لكنني أعلم كذلك أن هذا غير متاح للكثيرين، وهناك أشخاص لديهم أطفال يحتاجون لتوصيلهم للمدارس مبكًرًا. عودة إلى التوقيت الصيفي، هذا ما يفعله بنا، هو يؤخرنا في النوم أكثر، في الوقت الذي يرفض فيه المجتمع أن يغيّر وقت البدء في الصباح. وهذا له أثر مدمّر على الناس.

أنت ترى أن الإبقاء على التوقيت الصيفي طيلة العام قرار سيء، لكنك أيضًا ترى أن التغيير ما بين التوقيت الصيفي والشتوي أيضًا سيء، لماذا؟

لأنك تفرض على الناس الذين لديهم ساعة بيولوجية منتظمة تأخيرًا لمدّة ساعة في نومهم، دون أن يكون لديهم وقت للتأقلم. لو كان المجتمع في وضع مثالي فيما يتعلّق بالنوم، يمكن أن يقول البعض أن ساعة واحدة ليست مشكلة كبيرة، لكننا محرومون من النوم معظم الوقت، لذا فإن ساعة واحدة يمكن أن تكون مصيبة.

في كتابه «لماذا ننام»، يقول عالم الأعصاب ماثيو ووكر إنه في اليوم الذي يحصل فيه تغيير التوقيت من الشتوي إلى الصيفي، ترتفع نسبة الجلطات، وتزداد حوادث السير.

ليس لدي أدنى شك في ذلك. وأنا أراهنك أن المناطق التي تثبّت التوقيت الصيفي سوف تشهد حوادث أكثر في أشهر الشتاء. سيكون الناس محرومين من النوم ولا أحد سيعوضهم عن الساعات التي يخسرونها.

إذًا، كعالم مختص في الساعة البيولوجية، نصيحتك هي الإبقاء على التوقيت المعياري -الشتوي- طيلة السنة؟

التوقيت المعياري هو التوقيت المثالي. في الصيف سنحصل على المزيد من الضوء مساءً في كل الأحوال، وفي الشتاء لن نستيقظ في الظلام الدامس. ما سيحصل الآن هو أنه في منتصف الشتاء سوف يستمر الظلام حتى الساعة السابعة والنصف صباحًا!

وإذا أبقينا على التوقيت المعياري، هل تكون أجسامنا أكثر إحساسًا بالفصول؟

هذه نقطة ممتازة أيضًا، قد نعتقد أن الدورية الضوئية (photoperiodism) لا تؤثر علينا، لكن إذا نظرنا إلى تغيّر عاداتنا خلال السنة، يمكن أن نلمس نمطًا واضحًا لكيفية نومنا وأكلنا وغيرها مع الفصول. هذا من المجالات غير المدروسة كفاية في علم الأحياء لأنه يتطلب سنوات من البحث، لكنني أعتقد أنه موضوع مهم؛ علاقتنا بالفصول وتغيّر الفصول. الحيوانات تتكاثر في فصول معيّنة، لأنها لا يمكنها أن تنجب في وقت يكون فيه البرد قارصًا أو الغذاء شحيحًا، وهي تعتمد على الضوء وتغيّر الضوء لمعرفة الفصول. كذلك النباتات، تعتمد على الضوء لتمييز الفصول، وهذا أمر تعجز المستقبلات الضوئية البصرية (العصي والمخاريط) عن قياسه، أقصد تغيّر الفصول. 

نحن محظوظون في الأردن لأننا نعيش في منطقة تختبر الفصول الأربعة، لدينا أربعة فصول تقريبًا متساوية الطول وهذا رائع. يجب أن نستفيد من ذلك، بداية في الصباح، بأن نتعرض لضوء الشمس. ومن ثم في ساعات النهار، بأن نحاول الخروج قدر الإمكان، أو الخروج في استراحة الغذاء، أو ممارسة المشي. بعد الظهر عندما أشعر بهبوط في طاقتي، أحاول المشي خارجًا للحصول على قسط من أشعة الشمس. وفي المساء، أخفف الأضواء. في منزلي أستخدم الشموع بدل الإضاءة الكهربائية في المساء.


منذ اكتشاف المستقبلات الضوئية غير المرتبطة بالإبصار قبل عقدين، يعمل حتّر وفريقه البحثي بشكل حثيث على دراسة تأثير الضوء على على الساعة البيولوجية والوظائف الإدراكية والنوم والتركيز والطاقة وغيرها من الوظائف الحيوية، وساهم خلال السنوات العشرين الماضية بأكثر من 150 ورقة بحثية في مجلّات علمية مثل Nature وScience وCell وغيرها، نالت أكثر من 14 ألف استشهاد أكاديمي.

تتواصل الأبحاث والاكتشافات العلمية حول تأثير الضوء على جوانب متعددة من الصحة الجسدية والنفسية والعقلية، وحول الدور الكبير الذي تلعبه الساعة البيولوجية في تحسّن أو تدهور الصحة، بما في ذلك القدرة على تخفيض الوزن لدى المصابين بالسمنة، والاستجابة الفاعلة للعلاج لدى مرضى السرطان، وعلاج المصابين باضطرابات نفسية، وغيرها.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية