هذه القصة هي جزء من تقرير موسع حول هجرة الأردنيين إلى تركيا بعنوان «موسم الهجرة إلى إسطنبول».
بمجرّد مجيئها قبل عامين ونصف لإكمال الدكتوراة في الإدارة، حسمت إسراء* أمرها في أنها ستبقى في تركيا. لقد وجدت أنها تشعر للمرة الأولى بالاستقرار، وأن في ذهنها، أيضًا للمرّة الأولى خطة واضحة لما سيكون عليه مستقبلها المهني.
قبل ذلك، كانت قد تنقلت بين عدة أماكن عمل في الأردن، منها مؤسسة تمويل أصغر، وجامعة خاصة، ومدرسة. وكانت قد حاولت لسنوات القدوم إلى إسطنبول لإكمال دراستها، لكن هذا كان يواجه دائما بممانعة من عائلتها، التي تقول إن رفضها كان فقط لاعتبارات تتعلق بما سيقوله الناس. فالمشكلة في الأردن، بحسبها، هي أنه حتى عندما تكون العائلة الصغيرة منفتحة، فإنها تتشدد فقط لأنها غير قادرة على مواجهة الدائرة الاجتماعية الأوسع. «كانوا ييجوا يحكوا [لوالدي] ليش اتطّلعها؟»، لكن والدها وافق في نهاية المطاف. والآن بعد سنتين ونصف، تقول إنها تلاحظ أن سفر الفتيات، في المحيط الذي خرجت منه، صار أكثر تقبلًا. وتضيف ضاحكة: «هلأ قرايبي بس ييجوا على تركيا، أول ما بدقوا عليّ، إسراء إنت وين؟ دليل سياحي صرت إلهم».
عندما جاءت إلى إسطنبول، انخرطت إسراء مباشرة في العمل إلى جانب دراستها، وكان يساعدها أن مواعيد محاضراتها ليلية، من السابعة مساءً إلى العاشرة. وفي البداية عملت في المبيعات، ثم عملت ستة أشهر مع شركة شحن. وهي تعمل حاليًا مديرة مكتب لشركة تسويق عقاري. واستطاعت خلال ذلك أن تكفي نفسها ماليًا، خصوصًا أنها وفرت أجرة السكن، عندما استأجرت شقة، وأثثتها من محلات الأثاث المستعمل، وأجّرت الغرفتين الإضافيتين مفروشتين لطالبتين أخريين. وهذا ساعدها بعد سنة من قدومها إلى المدينة، على أن تستقل عن أهلها ماديًا، بما في ذلك دفع رسوم الجامعة.
تقول إسراء إن أهمية استقلالها عن عائلتها تكمن في حقيقة أن هذا الاستقلال كان في مدينة تتمتع بفضاء عام تتحرك فيه النساء بالراحة والثقة التي يتحرك فيها الرجال، أمر تقول إنه في تجربتها الشخصية، كان مفقودًا في الأردن. إنّها للمرة الأولى في حياتها تكون في وسط اجتماعي لا تشعر فيه عند خروجها للأماكن العامة أن العيون تراقبها، فقط لأنها أنثى، وأنها تستطيع، بالتالي أن تكون على سجيتها. «هون في من هب ودب، كل الناس في المولات، فش حد بتطلع على الثاني. خلص، كل واحد بحاله، فش حدا بلشان بالثاني. إحنا [في الأردن] بنروح على أي مول، بصير هذا يتطلع، أبصر هاي إيش؟ أبصر هاي من وين؟ (…) هذا إشي بضغط وبخنق».
لم يحتج الأمر طويلًا لتصبح إقامتها في الأردن، كما تقول غير محتملة، حتى على مستوى إجازة. «أنا بالنسبة إلي لما أروح على الأردن، الحد الأقصى أسبوعين. غير هيك ما بقدر أتحمّل. فعليًا ما بقدر أتحمل. لإني في شي كاتم على نفسي».
والمسألة لا تتعلق فقط بالعودة إلى الأجواء النفسية الضاغطة، بل أيضًا في المقارنة التي تقول إنها لا تكف عن إجرائها بين البلدين. فإضافة إلى الجو الاجتماعي المرن، هناك الكم الهائل من المساحات الخضراء والشواطئ، وسائر مكونات البنية التحتية المتطورة، وعلى رأسها شبكة النقل، وما زالت تبهرها حقيقة أنها قبل خروجها من المنزل، تستطيع من خلال التطبيقات الإلكترونية معرفة كل وسائل النقل المتجهة إلى المنطقة التي تريد الذهاب إليها، وموعد الرحلة بالدقيقة، والوقت المقرّر أن تستغرقه. «أنا كل ما أرجع على تركيا بقعد أسبوع في حالة اكتئاب. حتى من تركيا للأردن كمان أسبوع حالة اكتئاب، لإنهن بظلن أسبوعين مقارنات (…) يعني هون سووها من لا شيء، فإحنا ليش هيك؟».
رغم أن دراستها باللغة الإنجليزية، إلا أنها خلال إقامتها عملت بجد على لغتها التركية، وهي الآن بعد سنتين ونصف، تقول إنها اكتسبت ما يقارب 80% من اللغة، وهو ما سيفتح لها، بحسبها، أبواب كثيرة عندما تنهي الدراسة وتتفرغ للعمل. فهناك الكثير من التعاملات التجارية مع دول عربية، وهناك حاجة ماسة لأشخاص يتقنون اللغتين. لأن مشكلة الأتراك هي أن نسبة من يتحدثون الإنجليزية أو العربية بينهم قليلة جدًا.
تتقاضى إسراء حاليًا راتبًا قدره ثلاثة آلاف ليرة تركية، وهذا يساوي 387 دينارًا أردنيًا، وهو تقريبًا نصف ما كانت تتقاضاه في شركة التمويل التي كانت تعمل فيها، لكنها تقول إنها راضية؛ لأن الأمر في النهاية لا يتعلق كله بالراتب الذي يتقاضاه الشخص، بل بالبيئة التي يعيش فيها.
ما يعكر سعادتها حاليًا هو أنها بعيدة عن أهلها، الذين تقول إنها تفكر أحيانًا بأن تطلب منهم القدوم للاستقرار هم أيضًا في تركيا. لكنها ليست متأكدة إن كانوا قادرين على ذلك.
*تم الاكتفاء بالاسم الأول حفاظًا على خصوصية صاحبته.