في الثامن من آذار الحالي، نُشرت رسالة مفتوحة موقعة بأسماء 121 عضوًا في هيئة التدريس وعدد من الموظفين في جامعة اليرموك، وقد حملت الرسالة عنوانًا يقول: «إلى أصحاب القرار في الدولة الأردنية: أنقذوا جامعة اليرموك قبل فوات الأوان!». وكان من بين الموقعين أكثر من 80 حاملًا لدرجة «أستاذ دكتور»، بعضهم يعمل في الجامعة منذ نحو 40 عامًا، مع زملاء آخرين من حملة الدكتوراه، إضافة إلى نحو 15 موظفًا إداريًا وفنيًا.
حذّرت الرسالة من «أزمة متفاقمة تهدد صرحًا أكاديميًا شامخًا كان ولا يزال أحد أعمدة التعليم العالي في الأردن». ولفتت إلى أن «استمرار التلكؤ والتجاهل من قبل الجهات المسؤولة في معالجة هذه الأزمة، والاستخفاف بنداءات أبناء اليرموك، سيؤدي إلى انفجار الوضع بطريقة لن يكون من السهل احتواؤها لاحقًا».
قدمت الرسالة قائمة بالعديد من المطالب أبرزها ما يتصل بالأزمة المالية وضرورة التحقيق في أسبابها، وطرق مواجهتها، وعدم تحميل الجهاز الأكاديمي والإداري تبعات تلك الأزمة. كما طالبت الرسالة باستعادة محتوى الحياة الجامعية ووقف التعديات على التعليمات وإنهاء ما سمته سياسة تكميم الأفواه وتقسيم الجامعة إلى موالين ومعارضين للرئاسة.
وبوضوح أكثر وجهت الرسالة اتهامها نحو رئيس الجامعة الحالي الذي يسعى وفق ما جاء في الرسالة: «لشيطنة الحراك الجامعي المشروع، بدلًا من العمل على معالجة الكارثة التي صنعها بنفسه». وطالبت «باتخاذ إجراءات فورية لوقف النزيف الذي تعانيه الجامعة»، وحذرت من أن «السكوت عن هذه الأزمة بمثابة تواطؤٍ ضد مستقبل التعليم العالي في الأردن».
وختمت بتحذير واضح: «إن أي تجاهل أو تسويف (..) لن يؤديَ إلا إلى مزيد من التصعيد، وسيتحمل المسؤولون تبعات ذلك. لن نقبل باستمرار هذا العبث بمستقبل جامعتنا، ولن نسكت عن الانهيار الممنهج الذي يتعرض له صرح تعليمي بحجم اليرموك».
ربما تكون هذه الرسالة هي الصيغة الأوضح والأكثر حدة للتعبير عن موجة الاحتجاج الحالية التي يشارك بها فريق من كوادر الجامعة في الشقين الأكاديمي والإداري، وذلك ضمن أشكال احتجاج عديدة تعيشها الجامعة تخللتها ثماني وقفات أمام مبنى الرئاسة. وشملت عناوين الاحتجاج إلى جانب البعد المالي العديد من القضايا المتعلقة بمجمل أوضاع الجامعة.
وكانت اللجنة التي تقود الحراك الاحتجاجي قد أعلنت نيتها تنظيم وقفة يوم الثلاثاء 11 آذار، ووضعت للوقفة شعار «إنقاذ اليرموك وقفة عز وكرامة». إثر ذلك أصدر رئيس الجامعة «تعميمًا» داخليًا يمنع كافة العاملين في الجامعة من أكاديميين وإداريين من المشاركة في الاعتصامات تحت طائلة المسؤولية القانونية.
عند هذه اللحظة، وقبل موعد الاعتصام، دخل عنصر جديد على المعادلة إذ أصدر اتحاد طلبة اليرموك بيانًا ساند فيه موقف رئاسة الجامعة وطالب بأن نضع «جميعًا مصلحة الجامعة فوق أي اعتبارات أخرى، وألا تكون هناك أي خطوات أو وقفات احتجاجية قد تؤثر على استقرارها الأكاديمي والإداري».
وفي المقابل صدر بيان طلابي آخر باسم «القوى الطلابية في جامعة اليرموك» أعلن نية هذه «القوى» المشاركة في اعتصام العاملين وقدم قائمة بمطالب طلابية خاصة تتضمن قضايا أكاديمية وخدمية كان ينتظر أن تضاف إلى مطالب العاملين.
عند هذه التطورات سارع رئيس الجامعة إلى إصدار تعميم جديد قرر فيه اعتبار تعميمه السابق حول منع المشاركة في الاعتصامات لاغيًا، ثم أصدرت رئاسة الجامعة توضيحًا ونشرته سعيًا لشرح موقفها في التعميمين الأول والثاني. وفي هذا «التوضيح» أكدت أن «التعميم مدار النقاش يعكس التزام الجامعة بمبدأ سيادة القانون في تنظيم الحقوق والحريات، وأن هذا يؤسس لتوازن دقيق بين الحق في التعبير عن الرأي، وضمان حسن سير العمل الأكاديمي». وأن «التعميم يتيح للعاملين في الجامعة سُبلا قانونية بديلة للتعبير عن الرأي يتعين سلوكها ابتداءً وفق التشريعات المعمول بها في الجامعة كالتظلمات الإدارية الخطية». لكنها ختمت بأنه و«تجنبًا لأي لبس أو سوء فهم لما ورد فيه فإن التعميم المشار إليه يعد لاغيًا».
واستجابة لذلك، أعلنت لجنة التحرك من طرفها عن إلغاء الوقفة المقررة، بعد تدخل مجلس أمناء الجامعة الذي بادر لعقد لقاء مع اللجنة لبحث المطالب.
عودة إلى جذور الحكاية
يتفق المحتجون اليوم على أن الأزمة الحالية في اليرموك قد تفاقمت في عهد الرئاسة الحالية، لكن مختلف الأطراف تتفق على أنها أزمة متشعبة عابرة للرئاسات. وفي الواقع يمكن رصد حصول وقفات احتجاجية مختلفة منذ عام 2011 على الأقل. ويُعد الجانب المالي من الأزمة العنصر الأبرز بين مظاهر الأزمة، ولكنه ليس الوحيد.
تُقدّر مديونة الجامعة حاليًا بنحو 74 مليون دينار وفق الأرقام الرسمية الأخيرة، غير أن هناك من يتحدث عن رقم أكبر في حالة احتساب استحقاقات واجبة نحو الكادر الأكاديمي، وخاصة لجهة مستحقات مكافأة نهاية الخدمة التي يجوز للمنتفع أن يسحب 50% من رصيده منها بعد أن يمضي عشرين عامًا في الخدمة، وهو ما توقفت الجامعة عن أدائه بسبب الضائقة المالية، وبالتالي هناك من يتحدث عن مديونية تصل إلى تسعين مليون دينار. وتبلغ خدمة الدين نحو خمسة ملايين تدفعها الجامعة كفوائد للبنوك التي تقترض منها لغايات توفير الرواتب ما يستهلك نسبة عالية من موازنة الجامعة المالية.
إن أبرز نتائج الأزمة المالية تمثّلت بلجوء إدارة الجامعة إلى إحداث عدة تخفيضات على رواتب العاملين الأكاديميين والإداريين خلال السنوات الأربعة الماضية.
من جانب آخر، هناك تأخير في تسديد المستحقات من قِبل الجهات التي توفِد الطلاب للدراسة فيها، فتلجأ الجامعة للاقتراض لسداد تلك الديون، ما يعني تحمّلها للمزيد من الفوائد البنكية، وبالتالي تتفاقم الأزمة.
أمّا انعكاس ذلك على تخفيض رواتب العاملين فيعود إلى أن نسبة تصل إلى 55% من عوائد البرنامج الموازي تنفق كزيادات على الرواتب، وهذا أمر يتكرر في كل الجامعات الحكومية. غير أن ما هو خاص بجامعة اليرموك يتصل بحصتها القليلة نسبيًا من مقاعد الموازي، وبحجم الطلبة الموفدين في هذا المسار، الذين لا يدفعون الرسوم مباشرة، وهو ما يقلص عوائد الجامعة المالية منه، ويقود إلى تقليص نصيب العاملين.
مع هذا فإن صورة الوضع المالي في الجامعة غامضة حتى لدى الجهة المتضررة مباشرة، فرئيس لجنة الحراك مثلًا يكتب: «إن مديونية الجامعة أصبحت لغزًا ولا أحد يعرف حقيقة الوضع المالي للجامعة».
يضاف إلى ذلك استثناء أكاديميي اليرموك بالذات، من بين زملائهم في الجامعات الحكومية الأخرى، من زيادة علاوة النقل للسنة الحادية عشرة على التوالي، وهو ما ينعكس على إجمالي رواتبهم الحالية وعلى رواتبهم التقاعدية مستقبلًا. كما أنهم يعانون من إجراءات تتعلق بإجازات التفرغ العلمي وتمويل البحوث ونظام الترقيات، ومن إلغاء واسع لمسار الرسالة في برامج الماجستير الأمر الذي يفقدهم جزءًا معتادًا من دخول المشرفين على الرسائل إضافة لأثره على مستوى الخريجين. كما يعاني موظفو اليرموك من رفع أجور السكن الجامعي ومن أزمة المدرسة النموذجية التابعة للجامعة. يضاف إلى ذلك ما يمكن تلمّسه من أثر للأزمة في الحياة اليومية للجامعة من خلال رفع أسعار الخدمات العامة وتراجع جودتها.
لا يقتصر نقاش الأزمة على تلك التحركات الاحتجاجية المعلنة للعموم، إذ ينخرط العاملون في عدة أشكال أو مجالات لنقاش قضايا جامعتهم، ويعمد بعض الأساتذة للنشر في وسائل إعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ويجري تبادل عشرات القصص والحكايا والحوادث ومظاهر الخلل، وبالطبع يصعب نقل هذه القصص وتبنيها نظرًا لصعوبة التحقق من مدى دقتها بالكامل، لكن مجمل النقاش يؤكد أن هناك أجواءً غير إيجابية وأشكالًا من التوتر تسود الجامعة.
لغايات إعداد هذا التقرير أجريت العديد من المقابلات مع أساتذة وموظفين في الجامعة، ومع شخصيات ثقافية وصحفية ذات صلة من خارج الجامعة، ومع أكثر من 20 طالبًا من أقسام مختلفة. ورغم أن الأزمة من وجهة نظر الطلاب تختلف في بعض الوجوه، إذ تتقدم عناصر أخرى على عنصر المال، إلا أن جميع الأطراف تتفق على تفاقم الوضع.
إن جولة بين مباني الجامعة، سوف توضح بسهولة أن الجامعة تعيش أوضاعًا صعبة؛ البنية التحتية للجامعة في وضع مترد، والكلام هنا عن الجزء الشمالي من الجامعة، وهو الجزء الرئيسي والأكبر والأقدم (حيث أنشئت منذ نحو عشر سنوات مبانٍ جديدة إلى الجنوب من الموقع القديم، ويتصل الجزءان عبر جسر علوي للسيارات والمشاة).
في الموقع القديم يمكن ملاحظة أن المباني والأرصفة والمقاعد الخارجية هرمت، مع غياب واضح للصيانة. وفي داخل المباني تستطيع أن تلمس مظاهر الهرم أيضًا، فيندر مثلًا أن تجد حمامًا بحالة جيدة، ويشمل ذلك حمامات الهيئة التدريسية والموظفين. وقد جفت الكثير من أشجار الزينة والأحواض في عدة أماكن، وطال الخراب حاويات النفايات الموزعة في طرقات الجامعة وأزيلت أغطيتها، وتكسرت بعض ألواح الرخام التي كانت تعلو مقاعد الجلوس المعدة للطلبة في الساحات الخارجية.
كما تطال المشكلة الجامعة من الخارج أيضًا. إن نظرة على أسوار الجامعة من خارجها تعطي انطباعا مؤلمًا. لعل أبرز مثال هو حالة البوابة الرئيسية للجامعة (البوابة الشمالية) التي كانت تشكل رمزًا، والتي تحولت منذ سنوات إلى مساحة للفوضى ولتراكم النفايات أحيانًا، وهي مغلقة تمامًا باستثناء مدخل ضيق للأفراد، وقد وضعت على كامل البوابة سلاسل حديدية بشكل غير منتظم، وتتزاحم فيها بسطات البيع بشكل فوضوي، إلى جانب اعتمادها كموقف لسيارات وحافلات الأجرة، كما تنتشر أكشاك بيع بصورة بشعة في أماكن عديدة من السور الخارجي.
التحسر هو السائد
أسست جامعة اليرموك عام 1976 كثاني جامعة في الأردن. وقد شكلت حينها نقلة كبيرة ملحوظة في حياة مجتمع محافظة إربد بالكامل من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لقد انتقل مركز إربد ونشاطها العمراني والتجاري إلى المناطق المحيطة بالجامعة. وقد وثق الدكتور كامل العجلوني (الرئيس الأسبق لجامعة العلوم والتكنولوجيا) قصة جامعة اليرموك في كتابه الشامل «تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها 1976- 1986»، والكتاب مكتظ بالكثير من قصص التأسيس والبناء في السنوات الأولى والتي تحولت الآن إلى مجالات للتحسر. وحتى فيما يتصل بـ«أحداث اليرموك» عام 1986، أي ذلك التحرك الطلابي الكبير، فإنه ورغم وقوع ضحايا، لكنه يحمل الكثير من الإشارات على مدى جدية الحياة الجامعية والطلابية آنذاك.
خلال إعداد هذا التقرير، وفي جميع المقابلات التي أجريتها مع الطلبة، كانت اللامبالاة هي السائدة بين الطلاب، وعبثًا حاولت العثور على طالب لديه من الفضول لمعرفة الشؤون العامة لجامعته. وهذا ما يشير إلى أن بيان اتحاد الطلبة المؤيدة لرئاسة الجامعة والبيان المضاد الموقع باسم القوى الطلابية، المشار إليهما أعلاه، هما مجرد موقف نخبوي داخل الجسم الطلابي ولا يعكسان اهتمامًا حقيقيًا عند جمهور الطلبة.
تفتقر الجامعة عمومًا إلى حيز عام طلابي واضح، ويمضي الطلبة يومهم الجامعي في مجموعات صغيرة، كثيرًا ما تتشكل من صداقات مناطقية أو قرابية. وحتى عندما جرت محاولات تنشيط العمل الحزبي توزعت الأحزاب على التجمعات المناطقية التي تتخذ أسماء واضحة ومعروفة، ومع ذلك فإن مجريات تجربتهم الحزبية هذه قد انتهت إلى الإحباط حاليًا.
تفاعلت الجامعة في سنواتها الأولى مع المجتمع المحيط بشكل إيجابي لافت، وفتحت خيوطًا منتظمة مع المؤسسات الرسمية والأهلية، وقامت الجامعة بدورها كمركز خبرة في خدمة المنطقة المحيطة. يكفي أن نشير مثلًا إلى أن مهرجان جرش بالكامل كان من حيث الفكرة والتنفيذ والتمويل طيلة المواسم الخمسة الأولى من عام 1981 وحتى 1986 منوطًا بجامعة اليرموك، إلى درجة أن يطلق على نشطاء الطلاب المشتغلين بالمهرجان «جيل المهرجان». ونشأ في صفوف العاملين فيها وطلابها متطوعون مهرة ومتحمّسون للقيام بعملهم بوطنية وتفان عاليين، وهم الآن من أنشط شباب الأردن في كافة مجالات الأعمال التي تولوها.
وفي ميدان الحركة الطلابية شكلت الجامعة حالة استثنائية، باعتبار أن الانخراط في أنشطة الحركة الطلابية تسهم في تشكيل شخصية الطالب سواء منهم المشارك بفعالية أو المراقب. ويقر خريجو الجامعة بأثر تلك المرحلة على مجريات حياتهم لاحقًا. كانت الجامعة ميدانًا للعديد من الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية، ويتذكر قدامى أساتذتها مثلًا كيف كانت تعقد مسابقات «شاعر الجامعة» أو «قاص الجامعة» ويتذكرون الفرق المسرحية وحجم المشاركين من بين الطلاب، مقارنة بالضعف السائد حاليًا في كل هذه المجالات.
في بعض السنوات، كانت المؤسسات وخاصة البنوك مثلًا تتصل بالجامعة قبل تخرج كل فوج لتستفسر عن الخريجين المميزين المتوقعين للتعاقد مسبقًا معهم للعمل. وكانت الجامعة كتقليد توفد أوائل الأقسام لإكمال دراستهم في جامعات منتقاة من شتى دول العالم، وهو التقليد الذي توقف نهائيًا لاحقًا.
ما الذي تحمله الأيام القادمة؟
في 19 آذار، وبعد أيام قليلة على اجتماع ممثلي الأساتذة مع مجلس أمناء الجامعة، أعدت لجنة الحراك الأكاديمي تقريرًا مفصَّلًا وسلمته لمجلس الأمناء. يؤكد التقرير حصول «تخبُّط في القرارات، وغياب الشفافية، و[اتباع] سياسات إقصائية أضرَّت بالهيئة التدريسية والعاملين، وأثَّرت سلبًا على جودة التعليم والبحث العلمي»، ويقترح مسارات لحل الأزمة ويضع أفقًا زمنيًا لصنفين من المطالب أحدهما للقضايا العاجلة والثاني للقضايا طويلة الأمد، ووفق ما نشر على لسان رئيس لجنة، فإن عدم الاستجابة سيليه احتجاج غير مسبوق.
يواصل المحتجون النشر والنقاش عبر مجموعات ومنتديات خاصة على التواصل الاجتماعي، ويتناقلون العديد من القصص والأحداث والشكاوى. ولغاية الآن، لم يسجل حضور معلن لأية جهة من خارج الجامعة، من الحكومة أو التعليم العالي، فيما يعتبر المحتجون تأجيل تحركهم بناء على تدخل مجلس أمناء الجامعة، ثم تقديمهم تقريرهم الجديد «اختبارًا لجدية مجلس الجامعة».