مع انتشار نزعة التقدم التكنولوجي في القرن الواحد والعشرين، والتي تتجلى في انفجار الثورة المعلوماتية، والخوارزميات الرقمية، والذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي؛ أصبح الغزو الرقمي لعالمنا أحد الملامح الجوهرية التي تشكل نمط الحياة اليومية، وشكل العلاقات الإنسانية. كما أصبحت سيطرة الأعداد المهولة لتطبيقات الهواتف الذكية، مع وتيرة التسارع الإلكتروني الحالي، والهوس بـ«نتفلكس»، والهستيريا حول ألعاب الفيديو والبيوت المبنية بواسطة تقنية ثلاثي الأبعاد (3D)، ونمو الشركات الريادية الإلكترونية، جميعها أشبه بـ«فرانكنشتاين»[1] رقمي، يحتل مادية حياتنا مثل رقاقات إلكترونية تخترق جلدنا، وتجتاح حمضنا النووي، ثم تحركنا كدمى خرساء استسلمت إلى صانعها.
ومع نشوء روبوتات الويب كـ«أليكسا» و«سيري»، التي أحدثت تغيّرًا في روتين حياتنا اليومي وكيفية اختبارنا للعالم من حولنا، وأضحت تخبرنا بأبسط الأمور مثل «كم عدد الغرامات المتوفرة في كوب واحد من الحليب»، أصبح التوجه نحو الحتمية التكنولوجية، وأثرها في إحداث تغيير جوهري في حياتنا، يتخذ مصداقية وشيوعًا متزايدًا.
إن الزمن الذي نعيشه حاليًا، هو الزمن الذي يبدو فيه التطور التكنولوجي متزايدًا باضطراد لا متناهٍ، حتى يكاد يصبح غير قابل للتحكم به، أو الرجوع به إلى الوراء، وهو ما يُعرف بنظرية «التفرد» (Singularity) في الاصطلاح العلمي. بالتالي، أصبحت الفاعلية الإنسانية (Human Agency) مهددة وسط الإيمان المتزايد بسيناريو اقترابنا من عصر ما بعد الإنسانية. والمقصود بمفهوم الفاعلية الإنسانية هنا هو قدرتنا كأفراد على التحكم والسيطرة على حياتنا واتخاذ القرارات بحريّة.
الأهم من كل ذلك أنه مع بزوغ عقد جديد من القرن الحالي، أدى الانتشار العالمي لوباء الكورونا إلى تطبيق سياسة الحجر المنزلي في معظم مدن العالم، الأمر الذي ألقى بنا في غطسة عميقة في الفضاء الرقمي «اللامحدود»، حيث كنا -وربما لا نزال- مجبرين على حشر أجسادنا داخل المنازل، وإمضاء الساعات الـ24 من يومنا بين العمل والتعلم والترفيه «أونلاين».
أجسادنا ونظرية هايدغر حول «الوجود في العالم»
إن حجر أجسادنا داخل الأماكن التي نسكنها، يستدعي استرجاع تأملات مارتن هايدغر حول ماهية الوجود في العالم، ما سيقدّم لنا فهمًا أفضل لانخراط أجسادنا مع العالم الخارجي، بالإضافة إلى توضيح أثر هذا الإجراء على الفاعلية الإنسانية للفرد، وعلى تغيّر علاقتنا مع العالم الرقمي. إن تأملات هايدغر نحو الوجود في العالم، لا تختزل الشيء بوجوده أو عدمه فحسب، وإنما تذهب إلى خطوة أبعد، لتشرح أن كينونة الأشياء تتسم «بالنشاط الوجودي»، ما يعني أن العالم ليس نظامًا قائمًا بشكل مجرد، وإنما يشمل مجموعة وشبكة من التدخلات يمكن الإشارة إليها بـ«شمولية التدخلات» كما وصفها هايدغر.[2] قدم هايدغر مثال المطرقة لشرح مقصده في كتاب «الكينونة والزمان»، موضحًا أن المطرقة تنخرط في فعل «الطرق»، وفي تسريع وظيفية الشيء الذي تطرقه، وبالنتيجة في تقديم خدمة ما، وهي حماية الإنسان من الطقس السيء مثلًا، من خلال مساعدته في عملية بناء ملجأ ما.[3]
يستطرد مايكل ويلر في شرح فلسفة هايدغر، قائلًا إن هذه العملية التي تؤدي بها المطرقة وظيفتها هي أشبه بـ«الشبكة»، فعندما «يبدأ الشخص في تتبع مسار شبكة التدخلات، سيصطدم بشكل حتمي بتدخلات أخرى كثيرة». بكلمات أخرى، يمكن القول إن هذه العملية تشبه أثر لعبة الدومينو، حيث أن التدخلات في عملية واحدة تؤدي بالضرورة إلى مجموعة أخرى من التدخلات، ما يعني أن دفع أول حجر من أحجار الدومينو المصطفة بجانب بعضها، سيؤدي بطبيعة الحال إلى دفع بقية الأحجار ووقوعها. وبالتالي، فإن عملية الطَرْق لا تُختَزَل في فعل الطرق وحده، بل هي أوسع من ذلك، تشمل أفعال أخرى، مثل: إزالة المسامير، تفكيك الخزائن وربما تستدعي النقل إلى مكان سكن جديد.[4] يلخص ويلر بأن النتيجة لهذه التدخلات هي «شبكة متكاملة واسعة النطاق ذات أهمية مقترنة ومترابطة».
في هذه الأزمة، يتذكر البشر أنهم فاعلون نشيطون في مواجهة مشكلة ما لأول مرة منذ فترة بعيدة، ربما منذ أن أُسقِطَت كلمة «ذكاء» من وصف البشر، ونُسِبَت إلى الهواتف والماكينات!
يصبح السؤال المهم هنا: ماذا يعني ذلك إذا أردنا تطبيق فكرة شبكة التدخلات على كيفية تواجد أجسادنا في العالم، والتمعن لاحقًا في معنى هذا التواجد في زمن الكورونا؟ لنعطي لشخص ما اسمًا، «عبير» على سبيل المثال، ولنحاول رسم سيناريو أنشطتها اليومية في الحالة الطبيعية قبل انتشار الوباء. عبير هذه، أمّ، أنهت عملها، وتحتاج الرجوع إلى منزلها، فمن أجل التحرك من مكان عملها إلى مكان سكنها، تغادر عبير مكان العمل، ثم تتوقف عند الصراف الآلي لسحب النقود. تمرّ إلى السوق لبعض الوقت لشراء الأكل لعائلتها، ثم تستخدم المواصلات العامة، وأخيرًا تمشي نحو المنزل. يستطيع الفرد عند تتبع هذا المسار، وملاحظة تتابع فعل واحد بفعل آخر، ليشكل شبكة حتمية من التدخلات. من الجدير ملاحظته هنا، أنه ومن أجل العمل بشكل طبيعي في هذه الفضاءات، فإن نشاط تواجد عبير فيها هو نشاط له طبيعة «جماعية». يعني ذلك أن انخراطها الجسدي مع العالم الخارجي، يتضمن بالضرورة الاصطدام مع حشود جماعية، كنتيجة حتمية لتحرّكاتها، وذلك سواء في المواصلات العامة، أو في مكان العمل، أو في السوق، أو بجانب البنك. بالتالي، تصبح شبكة التدخلات لدى عبير حتمية، لأنها تستلزم التوجه نحو مسار من شأنه أن يشكل سلسلة من الأحداث المتتالية، بحيث أن التحرك من (أ) إلى (د) يستلزم تشابكًا حتميًّا مع (ب) و(ج).
الآن، وبعد معرفة كيفية عمل النشاط الجسدي للإنسان، يتوجب علينا أن نعرف علاقة ذلك مع انتشار وباء الكورونا. للأسف، فإن هذا النمط السائد للنشاط الإنساني، والذي يأخذ شكله من خلال التجمعات المحتشدة، يتطابق مع النمط نفسه الذي ينتشر فيه وباء كورونا، وهو نمط ذو طابع جماعي أيضًا، حيث يمكن لشخص أن يقوم بعدوى شخص آخر، والذي بدوره قد يعدي شخصًا آخر مرتبط به، وقد يعدي هذا الأخير شخصاً آخر، وهلم جرّا.
كنت على وشك تتبع مسار تحرك عبير الآن، مع انتشار وباء كورونا، لكن لعلّ مثال المريضة رقم 31 في كوريا الجنوبية، هو أفضل مثال لتقريب فكرة نقل العدوى. أعتقد أن الطريقة التي تعمل بها سلسلة انتشار الفيروس مضحكة ومذهلة في الوقت نفسه.
مثال «المريضة رقم 31»
نشر موقع رويترز جرافيكس في 20 آذار 2020 مقالًا، يوضّح كيف انتشر الفيروس في كوريا الجنوبية، مفصلًا كيف وصل عدد المصابين إلى 5000 مصابٍ. وعند تتبع مسار وتحركات المواطنين، تبين أن الفيروس قد انتشر بشكل كبير بواسطة مريضة واحدة، هي المريضة رقم 31. وفي اقتباس من المقال «تُعرَف المصابة رقم 31 في كوريا الجنوبية على أنها المريضة المسؤولة عن إصابة غالبية حالات الكورونا في البلاد. كيف؟ ذهبت المريضة إلى الكنيسة، ومن ثم ذهب أعضاء الكنيسة إلى حضور جنازة، ومن ثم عاد أعضاء الكنيسة إلى منازلهم. تُعزى اليوم أكثر من 80% من حالات الفيروس في البلاد إلى هذه المريضة. لا تكُن مثل المريضة رقم 31».[5]
إذا ما أردنا التغاضي عن الجانب السيء من نمط الانتشار هذا، والذي يتجسد في عدوى الآخرين بسهولة وسرعة شديدتين؛ فإن هذا النمط يشير إلى طريقة شيّقة في العمل. فقد سافر الفيروس من المنزل، إلى الكنيسة، إلى الجنازة، ومن ثم عودةً إلى المنزل، وذلك عبر تضخّم أثر الانتشار، كأثر الدوائر التي تتشكل في الماء عند إلقاء حجر في البحيرة، ما يعكس بوضوح تجلّي شبكة التدخلات هنا. وبالتالي، إذا ما أردنا التفكير في منطق العمل هذا بشكل معكوس لحماية الأفراد من الإصابة، يستلزم ذلك جعل الفرد بعيدًا عن هذه الشبكة من التدخلات، أي أن يصبح الفرد منعزلًا عنها، فيُتَرجَم ذلك بألا تخرج المريضة من المنزل، وبالتالي فإنّها لن تنقل العدوى إلى الأشخاص الذين ذهبوا إلى الكنيسة، الذين بدورهم لن ينقلوها إلى الأشخاص المتواجدين في الجنازة، الذين بالتالي لن ينقلوا الفيروس إلى عائلاتهم عندما يعودون إلى منازلهم في آخر النهار، وبالنتيجة يتم احتواء الفيروس!
الفاعلية الإنسانية وسط أزمة الوباء
إن نمط انتشار وباء كورونا، يعني أن على الناس أن يذهبوا عكس نهج تواجدهم الطبيعي في العالم، وأن يحتجزوا أجسادهم داخل منازلهم، من أجل البقاء على قيد الحياة، وإنقاذ حياتهم، وحياة الآخرين. بالتالي، امتلأت وسائل الإعلام أوصافًا تشير إلى نوع من التحديد، مثل: «احتواء» الانتشار، أو «تقليص» النشاط، أو «تقليل» وتيرة العمل، في حقبة من الزمان تراهن على لامحدودية تسارع التقدم التكنولوجي في تغيير العالم من حولنا. لكن أصبحنا الآن نعيش في زمن وباء يُطلَب فيه من الناس المكوث في المنزل. إنه الزمان الذي يقدم فيه أجدادنا نصائحهم من تجاربهم في أزمات ماضية، والذي يعود به العلماء إلى كتب التاريخ، ويبحثون في مرجعيات أوبئة قديمة. رغم كل التطور الذي وصلنا إليه، نحن في زمن ما زال يُعتبر فيه الماضي مرجعًا، وكأنها دعوة للتذاكي على آلة الزمن والتباطؤ في وتيرة حياتنا.
في هذا التجاوب مع الأزمة، لن تنقذنا هذه المرة الشركات العالمية، كما لن تنقذنا أرباح أغنياء العالم. لن تنقذنا سياسات فيسبوك، ولا قوانين جوجل، ولا تطبيقات سامسونج. سينقذنا قرار البشر فيما سيفعلون بأجسادهم، وقدرة الناس على السيطرة على أنشطتهم وتحركاتهم وقراراتهم. في هذه الأزمة، يتذكر البشر أنهم فاعلون نشيطون في مواجهة مشكلة ما لأول مرة منذ فترة بعيدة، ربما منذ أن أُسقِطَت كلمة «ذكاء» من وصف البشر، ونُسِبَت إلى الهواتف والماكينات!
نعم، نصبح نحن البشر منقذي البشرية؛ نصبح نحن الأبطال. عندما بدا ذلك غير واقعي قبل بضعة أشهر، حين كانت الرأسمالية الآمر والناهي. لم يعد الأمر كذلك الآن، كما لم تعد كذلك السيكولوجية النيوليبرالية التي تحكم على قيمة الفرد بشعارات أنانية مثل «المال هو الأهم» أو «الفرد بلا قيمة إذا لم يكن لديه وظيفة». أما الآن، يغير هذا الوباء من غطرسة المنطق الرأسمالي، ويقول للفرد بشكل مباشر «أنت تمتلك قيمة لأنك إذا تحركت من منزلك، سوف تقوم بنقل العدوى للجميع. وبالتالي، مهما اعتقدت أنك بلا قيمة، فإنك لست كذلك، لأن لديك قيمة تكفي لوقف انتشار فيروس عند الرقم 31، إذا ما بقيت داخل منزلك. بهذا القدر، أنت ذو قيمة. بهذا القدر، أنت ذو قرار. بهذا القدر، أنت بطل».
العلاقة المركبّة بين العالم المادي والرقمي
أظهرت هذه الأزمة أن انخراط البشر ما بين العالم المادي والرقمي، هو انخراط معقد ومُركّب يشبه من يقف على ناصية حبل رفيعة على حدود فضاء مفصلي. على الرغم من إنقاذ كوكبنا بسيطرتنا على أجسادنا، لا يعني ذلك أن انخراطنا الرقمي في العالم لم يكن يسيطر على حياتنا من قبل، حيث وصلت درجات انغماسنا في الفضاء الرقمي إلى ذروات قصوى، لكن هذه الأزمة ذكّرتنا بحتمية ماديتنا، كفاعلين ناشطين نتحدى تحولنا المُمْنهَجُ إلى فاعلين رقميين في عالم محكوم بنزعة «التسارع» كمعيار للتطور البشري.
في الوقت نفسه وبشكل مفارق، فإننا عدنا إلى فضائنا الرقمي عند احتجازنا، ولكن هذه المرة «بشكل متواصل». فمنذ إعلان الحجر، تدفقت أعداد مهولة من منشورات الصحة والسلامة والدورات المجانية عبر الإنترنت، والفيديوهات التعليمية، والنقاشات عبر «الويبنار»، والموارد التثقيفية، والكتب والمسرحيات المجانية من صندوق «باندورا»[6] المغلق؛ كميات لا تستطيع أي قدرة تصفح عادية استيعابها.
بالمختصر، نحن الآن مرغمون على أن نتحول إلى جهابذة ومتحاذقين في عالم الإنترنت، حيث أرى الآن معلمين، بالكاد يعرفون كيف يستخدمون أجهزة هواتفهم، وقد اضطروا لتعلم استخدام تطبيقات معينة، من أجل تقديم المحاضرة في الفضاء الرقمي. أرى أصدقاء يعيدون تفعيل حساباتهم على الفيسبوك، وغير الفاعلين عادوا يضخون صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي أخبارًا وتحديثات بشكل مستمر. نحن إذن في فضاء رقمي رحب، تحوّل إلى ملعبنا الجديد أو بالأحرى إلى «بيتنا الجديد».
عاد الإيمان بالفاعلية الإنسانية لكن نشأ نوع جديد من «الإلقاء» الرقمي
إن النقلة الاضطرارية و«الكليّة» من العالم المادي الخارجي إلى الشاشات الرقمية، هي نقلة أفضل ما يمكن وصفها بأنها غطسة في العالم الرقمي، حيث أننا نجد أنفسنا في هذا العزل وكأننا ملقون بشكل مباغت في فضاء الإنترنت. يستدعي هذا التغيير المفاجئ العودة مجددًا إلى توجه هايدغر حول الوجود في العالم، ومراجعة مفهوم «الإلقاء» (Thrownness) الذي أشار إليه في فلسفة الوجود.
يشرح هايدغر في هذا الطرح بأنه قد تم إلقاء الإنسان في العالم، من غير موافقته حيث، «أننا جئنا إلى الوجود من دون قبولنا ورضانا، كما أننا لم نتسبب في انوجادنا، ولم نضع أسس قدومنا إلى العالم، ولا نمتلك سلطانًا على وجودنا».[7] بالتالي، يفضي هايدغر بأن البشر وجدوا أنفسهم «مقذوفين إلى الحياة»، وهو حدث قد حصل في الماضي بشكل حتمي، وتم تحديده قبل مجيئهم.[8]
نجد أنفسنا مع هذه الأزمة، نغرق أكثر وأكثر في الفضاء الرقمي، للتعويض عن الغياب المادي، في حياتنا وبالتالي نتحول إلى «أجساد آلية»، ونؤدي دورنا في تقديم ذواتنا على الإنترنت.
في مقالها «الإعلام الوجودي: نحو تنظير الإلقاء الرقمي»،[9] تسقط أماندا لاجركفست مفهوم «الإلقاء» هذا إلى الحيز الرقمي.على الأرجح، إن «الإلقاء الرقمي»، كان قد حدث قبل الأزمة الحالية، نظرًا لعدم قدرتنا على فصل التجربة الرقمية عن حياتنا في القرن الواحد والعشرين، حيث توضح لاجركفست كيف أننا مقذوفون بالقوة إلى العالم الرقمي. على الرغم من ذلك، إذا كانت هناك فترة أكثر إلحاحًا للحديث عن هذا الإلقاء، فإنها ستكون الآن في زمن الكورونا. فإنْ كان لدينا القليل من الخيار الشخصي المتبقي للتحكم في حياتنا الرقمية قبل الأزمة، نجد أنفسنا الآن بدون أي خيارات، فمجرد الحاجة الأساسية للاستمرار في كسب قوت يومنا، تتطلب وجودنا على الإنترنت باستمرار من أجل البقاء على قيد الحياة. إذن، نجد أنفسنا مع هذه الأزمة، نغرق أكثر وأكثر في الفضاء الرقمي في حياتنا، للتعويض عن الغياب المادي، وبالتالي نتحول إلى «أجساد آلية» (Device bodies) بحسب تعبير لاجركفست، ونؤدي دورنا في تقديم ذواتنا على الإنترنت.
توضح لاجركفست كيف أننا نقوم بتحمل مسؤولية حياتنا في الفضاء الرقمي في أوقات الأزمة: «في حالات الإلقاء التام وهي ما وصفها كارل جاسبر في الظروف المحدودة مثل الموت الفجائي، والفقد، والصراع، والمعاناة والشعور بالذنب، يقوم الفرد بتحمل مسؤولية حياته وإعطائها شكل ما». يعني ذلك أن مع الإلقاء الرقمي التام جراء هذه الأزمة، تَحوّل الإنترنت إلى حيز نُظهِر من خلاله مسؤوليتنا في التعامل مع هكذا أزمة، حيث أصبح الإنترنت الحيز الذي تنعقد فيه اجتماعات الموظفين، غالبًا على تطبيق زووم (Zoom)، ويقدم فيه المعلمون حصصهم، كما يتم تقديم كافة وسائل الترفيه على مستوى عالٍ، مثل تقديم حصص الموسيقى، واللياقة البدنية، ودورات المسرح عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وهو المكان الذي تنعقد فيه النقاشات والورشات، وتُطلَق فيه أنشطة التضامن والحملات.
أخيرًا، يتحول هذا الحيز إلى مكان لصنع المعنى وسط الأزمة، فهو المكان الذي نتفكر ونتأمل فيه عن وجودنا في أزمة مفاجئة وغير مسبوقة.
في هذا «البيت الجديد»، نحاول أن نصنع معنى للأزمة، وأن نفهمها، ونقوم بطرح أسئلة عديدة في الفضاء الرقمي: هل هذه الأزمة هي الوضع القائم؟ هل ستكون هذه الأزمة هي «الوضع القائم الجديد»؟ هل كنا أصلا نعيش في أزمة دون أن ندرك ذلك؟ هل جلبناها لأنفسنا أم وجدنا أنفسنا وقد تم إلقاؤنا فيها؟
عند الإسهاب في الحديث عن مفهوم الإلقاء، يوضح هايدغر أن فكرة الإلقاء تحمل معها نوع من الظرفية أو الوضعية (Situatedness)، فعندما تكون مُلقى تعني أنك «ملقى إلى ظرف أو وضع معين».[10]
يعني ذلك أننا في الحجر الحالي نجد أنفسنا في وضع من الظرفية، حيث تم إلقاء كل البشرية في ظرف أزمة الوباء. لم يناقش هايدغر الظرفية بمعزل عن عملية «فهم المعنى» بشكل منطقي (Sense making)، حيث أن الظرفية تكون مصحوبة مع عملية فهم المعنى من الظرف، بمعنى أن الإنسان يفهم المعنى من أمر ما، وهو في سياق أو ظرف ما. انطلاقًا من هذا الارتباط بين الظرفية وفهم المعنى في فلسفة الإلقاء، شاعت العديد من التوجهات التي حاولت أن تشكل فهمًا منطقيًا لهذا الظرف الطارئ الذي وجدنا أنفسنا فيه.
ترآى لرجالات الدين أن هذه الأزمة هي دعوة للبشر إلى مرحلة من تطهير النفس من الذنوب في رحلة الإنسان على الأرض. أما بالنسبة لنشطاء التغيير الاجتماعي، فوجدوا في هذه الأزمة فرصة للتأمل الفردي والجماعي، مطالبين باستغلالها لإحداث تغييرات جذرية في النظام الرأسمالي القائم. ورأى نشطاء التغيير المناخي في الأمر دعوة لكي يصبح فعل «الثورة» السياسة المعتمدة التي ترتكز عليها استراتيجيات حملاتهم. وأخيرًا رأى العديد من الأفراد ونشطاء المجتمع المدني في هذا الظرف دعوة إلى أن نكون أكثر رعاية وحنانًا اتجاه بعضنا البعض عبر إطلاق مبادرات صغيرة من التكاتف والتضامن المجتمعي.
في المحصلة، كثّفت هذه الأزمة من مفهوم «الفردية الشبكية» (Networked Individualism)، وهو بالمختصر مصطلح تتطور مع غزو وسائل التواصل الرقمي وثورة المعلومات لحياتنا، ويشير إلى تغير في شكل تنظيم المجتمع من مجموعات منتسبة إلى انتماءات معينة، كالعائلة أو المؤسسة، إلى مجتمع مترابط عبر أفراد في شبكات ذات بُنية مفككة وموزعة في أماكن مختلفة في العالم.
ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي، أصبح الفرد أكثر اتصالًا مع العالم من أي وقت مضى، حيث أتاحت هذه المنصات للفرد إمكانية التواصل عبر تطبيقات كثيرة، كما سهّلت انخراطه في الانضمام إلى عشرات المجموعات والصفحات السياسية والاجتماعية والترفيهية، والتي تقدم مساحة للنقاش والتواصل. في الوقت نفسه، يجد الفرد نفسه مع شبكة لا يعرفها تمامًا، ويشعر معها بنوع من الاغتراب وعدم التواصل «الحقيقي» مع الجماعة، ما أدى إلى تعميق شعوره بالوحدة في الحيّز الرقمي، لكن الفرق أننا جميعنا نشعر بها في الوقت نفسه. لذلك، كثيرًا ما يرافق هذا المفهوم فكرة أننا «وحيدون معًا».
على الرغم من ذلك، تكمن المفارقة في أن النقلة المفصلية في نظام العالم جرّاء الأزمة، سلطت الضوء على فكرة الشبكة أكثر من الفردية، وعلى فكرة أننا معًا في هذه المحنة، أكثر من فكرة شعورنا بالوحدة في عالم الإنترنت. بالتالي، ربما يمكن قراءة هذا التغير في كونه تعزيزًا لفكرة «الخلاص الجماعي» وللأيديولوجية الاشتراكية في الوجود الجماعي.
إلى متى يمكننا احتمال هذا «الغوص الرقمي»؟
على الرغم من هذا الأثر البنّاء والمفيد لهذه الممارسات الرقمية، والتي يمكن القول إنّها ساهمت في تعزيز مفهوم «الحتمية التكنولوجية» للإنترنت، يصبح السؤال المُلِحّ، والذي يتم سؤاله مرارًا «إلى متى؟» إلى متى يستطيع الناس تحمل فكرة نزعهم عن أسلوب تواجدهم الطبيعي في الحياة؟ إلى أي مدى يمكن للرقمي «أن يعوّض» عن المادي؟ إلى أي مدى يمكننا الاستمرار في هذا النهج المعيشي؟ إلى أي مدى نستطيع تحمل انسلاخنا عن انخراط أجسادنا المعتاد مع العالم، أو بالمختصر إلى أي مدى نستطيع العيش بدون شبكة من التدخلات؟ أعتقد أن التناقض في هذا الإلقاء إلى العالم الرقمي، على الرغم من رحابته، إلا أنه محدود.
في توضيحها لفلسفة هايدغر في الوجود، تقول كاثرين ويثي: «أن تكون إنسانًا يعني أن تكون حرًا، تلقائيًا، متجاوزًا (transcendent)، ومحدودًا في الوقت نفسه».[11] في هذا الشأن، أعتقد أن ذلك الوصف ينطبق أيضًا على الفضاء الرقمي، الذي على الرغم من أنه «يبدو» لا متناهيًا ولا حدود له،[12] إلا أنه لا يزال محدودًا. فإنْ كانت معظم الأنشطة الإنسانية اليومية قابلة لأن تتحول إلى الحيز الرقمي، إلا أنه لا يمكن لكل شيء أن يتحول لذلك، وهذا لا يتعلق فقط بالجانب التقني لإمكانية تطبيق النشاط، وإنما يُعزى إلى سببٍ أهمّ، وهو انعدام «الحيوية».
إذا كانت اجتماعات الأصدقاء على برنامج زووم، والعروض المنفردة والجماعية للفنانين، والفيديوهات اليومية للطبخ وممارسة الرياضة والرقص، جميعها توفر نوع من «الحرية»، و«التلقائية»، و«التجاوز»، إلا أنها محدودة في كونها لا تستطيع تقديم «حيوية» الحقيقي. في النهاية، إن فائض الحياة الذي يحدث في الفضاء الرقمي، يُنهِك لذة الحياة الحقيقية، وهذا الفائض المهول بدأ بالفعل يتحول إلى عبء يفوق التحمل!
-
الهوامش
[1] فرانكنشتاين هي رواية تتحدث عن عالم شاب خلق مخلوق غريبًا في تجربة علمية غير تقليدية، لكنه تحول لاحقًا إلى وحش جلب المأساة لحياته. اقترن اسم المخلوق الوحش بالعالم الذي صنعه حتى أصبح يستخدم اسم «فرانكنشتاين» في كثير من الأحيان للإشارة إلى الوحش نفسه.
[2] Wheeler, Michael, 2018, «Martin Heidegger», The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL.
[3] المصدر السابق.
[4] المصدر السابق.
[5] Reuters, 2020. Coronavirus: The Korean Clusters. [online. Accessed 6 April 2020].
[6] بحسب رواية الميثولوجيا اليونانية، باندورا هي امرأة اقتادها فضولها إلى فتح صندوق لم يكن من المفترض فتحه، الأمر الذي تسبب لاحقًا في خروج كافة شرور الدنيا منه. في رواية لاحقة، يقول البعض إن الصندوق كان مليئًا بالكثير من النعم للبشرية ما لم يخطئ البشر وقتلهم فضولهم لفتحه.
[7] Withy, K., 2011. Situation and Limitation: Making Sense of Heidegger on Thrownness. European Journal of Philosophy, 22(1), pp.61-81.
[8] المصدر السابق.
[9] Lagerkvist, A., 2017. Existential media: Toward a theorization of digital thrownness. New Media & Society, 19(1), pp.96-110.
[10] Withy, 2011.
[11] المصدر السابق.
[12] Lagerkvist, A., 2017.