النص التالي مقتطف من مطلع كتاب يعمل الكاتب محمد الزقزوق على إعداده، وهو مذكراته من حرب الإبادة المستمرّة على القطاع منذ السابع من أكتوبر. وفي هذا النص يستعرض يومياته في الشهر الأوّل من الحرب، وكيف تفاعل وعائلته معها، عبر محاولة استيعاب حجم الضربة التي وجهتها المقاومة للاحتلال يوم السابع من أكتوبر، وكذلك النقاش الذي ساد في الأيّام الأولى من الحرب في المجتمع الغزي حول ردة الفعل الإسرائيلية وحجمها، ومستقبل الحرب.
بعد يوم طويل، استسلمت للنوم ليلة السبت. لكن عند السادسة والنصف صباحًا، دوّت أصوات صواريخ مرعبة. أيقظتُ زوجتي وأطفالي الثلاثة محاولًا تهدئتهم وسط حالة من الرعب والفزع. استمرّت الانفجارات نصف ساعة متواصلة، وكان السؤال الوحيد الذي يدور في ذهني: ما الذي يحدث؟
هدأت الأصوات تدريجيًا، لتحل مكانها ضوضاء الناس في مدينة حمد حيث أسكن في خان يونس. هرعتُ إلى الشارع لأفهم ما يجري، فاكتشفت أن المقاومة نفذت هجومًا واسعًا وغير مسبوق على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية. رأيت الناس يفرّون؛ بعضهم إلى منازل عائلاتهم، وآخرون إلى الأسواق والبقالات. غرقت المدينة في الفوضى والتوتر، ووقفت وسط المشهد صامتًا مدهوشًا.
عدت إلى شقتي وأبلغت زوجتي أن الحرب بدأت. اقترحتُ إخلاء الشقة والانتقال إلى بيت العائلة في مخيم خان يونس، لكن علا، زوجتي، رفضت الفكرة بشدة، متعلقة بشقتنا التي اعتبرتْها جنتها الخاصة بعد سنوات من الاهتمام بتشكيل كلّ تفاصيلها. في خضم ترددي جاءني اتصال من أخي الأكبر، الذي يسكن مدينة حمد كذلك، وقد حسمَ قراره سريعًا: «هذه حرب طويلة، لا يمكننا البقاء هنا!» فقرر الانتقال بعائلته إلى بيت العائلة.
كان سبب تسرّعه واضحًا؛ إذ نجا وعائلته من قصف مدمر في حرب 2021 عندما سقط صاروخ بجوار شقته السابقة في حي الأمل، وتركته الصدمة غير قادر على العيش هناك مجددًا، فباع الشقة وانتقل إلى مدينة حمد، لكن ها هو الآن يرحل مجددًا. بعد نقاش طويل مع علا، اتخذنا القرار نفسه. جهزنا حقيبتين، واحدة للملابس وأخرى للأوراق الثبوتية.
أخذنا سيارة أجرة، وفي الطريق رأينا مشاهد لا تصدق: جيبات عسكرية إسرائيلية تتحرك بجنون، أعمدة دخان تتصاعد، وأحاديث متداولة عن جنود قتلى وأشخاص اقتحموا مواقع عسكرية. تصاعد الخوف والذهول مع كل معلومة جديدة.
عند وصولنا المخيم، وجدنا الحارة في حالة استنفار خوفًا وقلقًا. اجتمعنا مع أبي وأمي وإخوتي، وكلنا تحت وقع الصدمة. جلسنا في صمت، وأشعلت سيجارة، بينما يتردد السؤال الأثقل: لماذا حدث هذا؟
البحث عن ملجأ العائلة
قلّل الاجتماع العائلي من حدة الخوف الذي تملكنا خلال الساعات الأولى للحدث، لكن القلق ظل حاضرًا، فنحن نعرف أكثر من غيرنا ما يعنيه حدث بهذا الحجم وما ستؤول إليه الأمور. تابعنا الأخبار المتسارعة على التلفاز، وكأننا نشاهد فيلمًا سينمائيًا بانتظار صوت الطائرات والانفجارات. لم يطل انتظارنا، إذ بدأت الحرب بغارات إسرائيلية عنيفة، واهتزت خان يونس كما بقية القطاع تحت وابل من القصف. في الساعة الواحدة، كنا نسمع أكثر من خمسة انفجارات متباينة في شدتها، وفي كل مرّة كانت الأخبار العاجلة تُعلن عن عائلات أُبيدت بالكامل، حتى تحول الأمر إلى تفصيلة يومية ضمن واقع البؤس والمعاناة.
تقاسمنا الغرف في بيت العائلة. نامتْ زوجتي مع الأطفال على السرير، بينما افترشتُ الأرض محاولًا النوم رغم أزيز الطائرات وصوت الانفجارات. كان سقف البيت من ألواح الإسبست، وهو ما زاد مخاوفنا مقارنة بمن يسكنون بيوت الإسمنت، رغم أن القصف لم يميز بينهما. كان أبي يمازحنا قائلًا: «الإسبست لن يقتلكم، لكن كتل الخرسانة ستفعل!».
أيقظنا انفجار مفزع هزّ البيت. عرفنا لاحقًا أن القصف استهدف عائلة بكاملها، أخرجوا الأم وأطفالها أشلاءً ممزقة. مرت جنازتهم من حارتنا، كما كانت تمر جنازات الشهداء تباعًا. وهكذا، مضى الأسبوع الأول، لياليه انفجاراتٌ وجحيم، ونهاراته جنازاتٌ وألم، فيما كنا ننتظر الأسوأ.
أيامٌ بلا ماء، ليالٍ بلا نوم
خلال الأسبوع الثاني من الحرب، بدأت تتكشف أبعاد جديدة من المعاناة. انقطعت الكهرباء بالكامل، وضُخّت مياه البلدية مرة واحدة أسبوعيًا. لم يكن بيت العائلة مجهزًا ببراميل إضافية كما فعل بعض الجيران، مما وضعنا في أزمة مياه حادة، إذ لم يكن ما لدينا يكفينا سوى يومين أو ثلاثة. كان دخول الحمام يتطلب تحضيرًا مسبقًا، وكنا نحاول تقليل استخدام المياه إلى الحد الأدنى. اضطررنا إلى تعبئة الجالونات من مدرسة الأونروا القريبة، حيث نزح آلاف السكان.
ذهبتُ مع أخي حسن إلى المدرسة لأول مرة خلال الحرب، وكان المشهد صادمًا. أعداد هائلة من الناس متكدسون في الفصول والباحات وحتى قرب الحمامات. كان المكان مكتظًا تفوح منه روائح كريهة، فيما الرجال والنساء يتدافعون لقضاء حاجتهم. رأيتُ عجوزًا تدق بعنف على باب مرحاض مطالبةً بخروج رجل مُسنٍ قبل أن تتحول مطالبها إلى توسلات. أصابني انقباض شديد، لكن حسن أصرّ على إكمال تعبئة الجالونات فاستمرت العملية أكثر من ساعة.
ازداد التوتر في بيت العائلة؛ التكدس الطويل جعل الأجواء خانقة، والمشاحنات الصغيرة كانت تتطور بسرعة إلى مشادات كلامية. فكرتُ بالعودة إلى شقتي في مدينة حمد، خاصة أن القصف كان يستهدف كل أنحاء غزة، ما يعني أنه لا فارق كبير بين البقاء هنا أو هناك. لكن الاجتماع العائلي كان يخفف من خوفي، لذا كنت أتجاهل الفكرة باستمرار.
كان الليل أكثر وحشيةً من النهار، إذ كان القصف أشد، والصمت يضاعف الإحساس به. كنت أحاول النوم مبكرًا والاستيقاظ مع الفجر، ثم أخرج للجلوس أمام البيت أو في محل البقالة المقابل. في الشارع، كانت الحرب أكثر وضوحًا: قصص مأساوية، وأحاديث تبث الرعب، وأسئلة وجودية بلا إجابات. كان الخوف يتراكم، والسخط يطفو دون أن يجد مخرجًا.
نجمة تضيء في السماء
قبل الحرب كانت وسائل التواصل الاجتماعي أداة للاطمئنان على الأصدقاء، لكن الدخول إليها في الحرب كان مخيفًا. في صباح أحد الأيام، وبعد معاناة للحصول على الإنترنت، فوجئت بخبر استشهاد صديقي محمد سامي قريقع في مجزرة المستشفى الأهلي العربي، حيث قضى أكثر من 500 شهيد في ضربة واحدة. كانت المشاهد مرعبة، وأكثرها إيلامًا مشهد الأب الذي جمع أشلاء أطفاله في أكياس نايلون وهو يصرخ: «ولادي ماتوا».
تعرفتُ على محمد خلال عملي في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي. كان مُفعمًا بالطاقة والإبداع. شارك في فريق «بنفسج» لرعاية المواهب الفنية. وعملنا في مشروع «ترانزيت» لمجلة الكوميكس. ونشرت المؤسسة له، قبل الحرب، قصة «تقلقش» عن انقطاع الكهرباء. أخبرني بفكرة قصة عن طفل يردد النشيد الوطني ثم يتحول إلى نجمة في السماء. بدا لي الآن أن ذلك الطفل كان محمد نفسه، الذي صعد نجمة بعد أن خطفته الحرب.
حين سمعت خبر استشهاده، شعرت بحزن أخرس، كأنني سقطت في حفرة مظلمة بلا مخرج، عاجزًا حتى عن البكاء. في تلك الأيام، بدأت موجات النزوح الكبرى مع بدء العملية البرية. طلب جيش الاحتلال من سكان غزة وشمالها الانتقال جنوبًا، فبدأت السيارات تتدفق إلى خان يونس. في البداية، خرج موظفو المؤسسات الدولية، ثم تبعتهم آلاف العائلات مُحمّلة بما استطاعت حمله من أغراض أساسية.
سرعان ما امتلأت مدارس النزوح عن آخرها، وباتت شوارع خان يونس مكتظة بالباحثين عن مأوى. كانت العائلات التي لها أقارب في المدينة محظوظة، أمّا من لم يجدوا مكانًا، فتكدسوا في مراكز الإيواء المكتظة، أو اضطروا لاستئجار محلات ومخازن بأسعار باهظة. كانت هذه بداية فصل جديد من المعاناة، في حرب لم يكن يبدو أن لها نهاية.
نتقاسم الخوف معًا
استقبلنا في بيت العائلة، أهل زوجة أخي الصغير حسن. عائلة مكوّنة من الأب والأم وثلاثة أبناء وابنتهم المتزوجة وطفلاها. ربطتني بالعائلة ومنذ أن تزوج أخي علاقة مميزة. كانوا أُناسًا ودودين وكنتُ أرتاح لمجالستهم والحديث معهم. حين وصلوا خان يونس بعد نزوح مؤقت إلى مستشفى القدس في منطقة تل الهوى، بدت على وجوههم مشاعر الخجل والحسرة. كنا جميعًا في استقبالهم محاولين بكل ما أوتينا من لطف أن نخفف عنهم مشاعر الحرج، وأن نزيل كل الاعتبارات التي ربما تكون قد جالت في خواطرهم. قلنا لهم البيت بيتكم، وسلامتكم أهم ما يجب الحفاظ عليه في هذه الأوقات.
استأنست بجودهم. فكل عائلة إضافية داخل البيت الصغير تُقاسِمنا الشعور بالخوف وتؤنس وحشتنا وتشاركنا أسئلتنا التي بدت بلا إجابات. شاهدنا معًا عبر التلفاز الغارات التي ضربت بقوة لا مثيل لها منطقة الرمال في قلب مدينة غزة، غارات كثيفة ومدوية بدا وكأن غبارها وأدخنتها وأصواتها ستخرج من الشاشة. ضربت الطائرات منطقة الجامعات وشارع عمر المختار ودوار أبو مازن ومنطقة الجوازات وأحالت المباني في المنطقة إلى رماد. ومع كل موجة تصعيد كنا نقول لأنفسنا إنها، لقسوتها وأعداد الشهداء الذين تتسبب به، ربما تكون الأخيرة. ولم نكن نعلم أن بانتظارنا ما هو أكثر قسوة وإيلامًا.
في اليوم التالي لليلة تدمير منطقة حي الرمال في غزة، وصلت أخبار استشهاد قريب أم الهيثم، كان قد عاد إلى شقته القريبة من دوار أبو مازن لأخذ مجموعة من الحاجيات التي نسي أخذها، وبدأت الغارات أثناء عودته. طلب والده المساعدة من الدفاع المدني الذين لم يتمكنوا من الدخول إلى المنطقة التي تحوّلت جحيمًا حقيقيًا. حاول الأب لثلاثة أيام الوصول إلى الابن المحتجز في الشقة، بعد أن فقد الاتصال به، وبدأت الشكوك والوساوس تجتاحه. في النهاية أخبره رجال الدفاع المدني أنهم شاهدوا جثة وقد انهال عليها أحد جدران الشقة، إلا أنهم لا يستطيعون الوصول إليها، وأن الابن وإن لم تكن إصابتهم مميتة فعلى الأرجح فارق الحياة بعد ثلاثة أيام من النزيف وأن عليه اعتباره في عداد الشهداء.
لم يكن من السهل على الأب تصديق ما سمعه وأن عليه الآن التعامل مع حقيقة فقدان الابن دون أن يتمكن من رؤيته أو وداعه. ظل الأب لأسابيع لا يستطيع تقبل حقيقة معجونة بكل هذا الألم. لا يمكن لأحدنا التعاطي مع فكرة الموت دون أن يشاهد بوضوح تجلياتها، دون رؤية الميت ولمس وجهه والسير في جنازته والمشاركة في إهالة الرمال على قبره. كل هذا يجعل من فكرة الموت أكثر قابلية للتصديق، ويمكّن من التصالح معها. لقد ظل الابن بالنسبة للأب مفقودًا، غائبٌ ذهب للشقة وربما يعود. وظلت كل الشهادات التي نقلها رجال الدفاع المدني بالنسبة له غير مقنعة. إنه الأمل وإن بدا مخادعًا وزائفًا، إلّا أنه الأمل الذي ظل الأب لأسابيع يركض وراء فرصة واحدة لتحققه.
العيش في طابور لا ينتهي
أخذت الأزمة الإنسانية في خان يونس أبعادًا أقسى مع تضاعف أعداد الناس في المدينة بفعل النزوح. فجأة تحوّل الحصول على أي شيء إلى أمرٍ يحتاج للوقوف في طوابير لا نهاية لها لساعات طويلة. كنا نتناوب على طابور المخبز على رأس الشارع المؤدي إلى بيتنا، كان أبي يبدأ الوقوف في طابور الخبز بعد صلاة الفجر ويستمر في الوقوف حتى العاشرة صباحًا، ثم يأتي أخي للوقوف بدلًا منه من العاشرة حتى الثانية بعد الظهر، ثم يذهب أخي الآخر للوقوف من الثانية حتى الخامسة. وبعد كل هذه الساعات الطويلة من الانتظار، نحصل أخيرًا على ما يقارب ثلاثة كيلو جرامات من الخبز، لا تكفي سوى لوجبة واحدة.
انسحب هذا على طوابير المياه الصالحة للشرب، وكذلك على مياه الاستحمام وغسل المواعين. طوابير لا نهاية لها وساعات طويلة في الانتظار والتدافع والصراخ والصراعات. بدا الناس أكثر عدوانية تجاه بعضهم البعض، كانت الأزمات الإنسانية بالإضافة للشعور بالخوف قد حقنت الوضع العام بالتشنج والغضب. كانت أبسط المشادات الكلامية تتحوّل بسهولة لعراك بالأيدي قد تستعمل فيه الأدوات الحادة. وفي الطابور كان من المعتاد جدًا أن تشاهد في الساعة الواحدة ثلاث مشكلات كبيرة؛ عراك بالأيدي وصراخ ودماء تسيل وعظام تتهشم في طوابير تفيض بالبؤس ويحيط بها الألم والعوز والحاجة. وبهذا أصبحت نهارات أيام الحرب عبارة عن ركض في دوائر مفرغة وانتظار في طوابير لا نهاية لها، فيما الليالي كوابيس تفيض بألوان العذاب وأصوات الصواريخ ورائحة البارود وأصوات سيارات الإسعاف، والوجوه الواجمة والأيادي المرتجفة والقلوب الهابطة من شدة الخوف.
فيما كنت أحاول النوم، استيقظت على أصوات تتصاعد تدريجيًا. أصوات ناس يركضون في الشاعر لاهثين. اقتربت الأصوات، قمت وأخي من الفراش وخرجنا لمعرفة ما يحصل. كانت عائلات بأكملها تنزح نحو مكان ما، أمهات يحملن أطفالهنّ وآباء يحملون الحقائب، والجميع يركضون ويتمتمون بكلمات غير مفهومة. استوقفت أحد الآباء لأفهم منه ما يجري، فأخبرني أن جيش الاحتلال قد اتصل بأحد سكان الحيّ النمساوي، والذي يبعد عن منزل عائلتي 150 مترًا، وأخبرهم أن عليهم الخروج فورًا لأنه سيقصف الحيّ بأكمله.
يضمّ الحي النمساوي عشرة أبراج سكنية، أنشئت ضمن المشاريع السكنية التي أقامتها السلطة الفلسطينية أواخر التسعينيات. ما زلت أذكر جيدًا حين كنت أذهب طفلًا مع أطفال الحارة للعلب في المربعات الخضراء المزروعة بأشجار الظل بين البنايات السكنية. كان الحي وقت إنشائه بالنسبة لنا كأطفال في المخيم، مكانًا مختلفًا جميلًا، وأكثر تنظيمًا من أزقة المخيم الضيقة وبيوته المسقوفة بألواح الزينكو والإسبست. تعرّض الحي خلال انتفاضة الأقصى لغارات وقذائف صاروخية حيث كانت مواقع جيش الاحتلال لا تبعد سوى كيلومتر واحد منه. في أحد الاجتياحات الإسرائيلية في ذروة انتفاضة الأقصى، دمر الاحتلال برجين من هذه الأبراج، فيما بقيت الأبراج الأخرى قائمة إلا أنها تعرضت لقذائف وإطلاقات رصاص ظلت لسنوات طويلة بعد انتهاء الانتفاضة حاضرة في الجدران.
أيقظت وأخي أفراد العائلة. كانت زوجتي علا قد استيقظت بالفعل على صوت الناس الذي ملأ زوايا الحارة. قررنا المغادرة نحو بيت عمتي المجاور لبيتنا، فالبيت مسقوف بالإسمنت ويمكن أن يكون أكثر أمانًا حين تبدأ الطائرات الإغارة على الحي النمساوي. استيقظ ابني براء وشاهدت في عينيه، وهو ابن السنوات الست، خوفًا مهيمنًا وجارفًا. لم أكن قادرًا على التعاطي مع هذا الخوف سوى بمحاولات طمأنة لم تكن ذات جدوى. كان براء يعي ما يدور حوله أكثر مما ينبغي لطفل في عمره. لم يكن لدي وقت كافٍ لطمأنته، فأمسكت يده فيما كنت أحمل ابني جواد وأركض بهما إلى خارج البيت، وركضت علا خلفي حاملةً الصغير باسل، واندفعنا جميعًا إلى الخارج.
بعد ثوانٍ كنّا في بيت عمتي. كانت هي والجميع ينتظرون قدومنا بعدما عرفوا بأمر تهديد الحي النمساوي بالقصف. جلسنا جميعًا في الصالون، أكثر من خمسين إنسانًا؛ عائلتنا كُلّها، وعمتي وجدتي وأبو هيثم وعائلته، بعضنا جلس على مقاعد الكنب وأخرون على الأرض والباقي على عتبة البيت. دخلنا حالة لا وصف لها من الترقب والخوف. وكلما مرت طائرة من فوقنا تمسمرنا ونظرنا في وجوه بعضنا. مرت ساعة ولم يحدث القصف، بدأت أقدام من ظلوا واقفين تتعب، وبدا المكان ضيقًا. مرت ساعة ثانية ولم يحدث شيء. بدأ التعب والنعاس ينال منا، إلا أن أحدا منا لم يكن جاهزًا للعودة مرة أخرى إلى البيت لينام كل منا في مكانه. بعد أن مضى من الوقت ما يزيد على ثلاث ساعات عاد أبي إلى البيت، وعدتُ وأخوتي بعده، فيما ظلت زوجاتنا وأطفالنا في بيت عمتي معتقدين أنهم في مكان أكثر أمنًا في حال بدأت الطائرات بقصف الحي.
كان تهديد الحي النمساوي بالقصف إنذارًا لنا، وبدونا كمن استجارَ من الرمضاء بالنارِ. وشعرنا أن اعتقادنا بأن مخيم خان يونس أكثر أمانًا من مدينة حمد حيث نسكن لم يكن صحيحًا، وبدأت تتشكّل لدي الرغبة في العودة إلى الشقة في مدينة حمد، ويومًا بعد يوم كانت هذه الرغبة تتعاظم، فالقصف يحيط بنا من كل الاتجاهات، والبيت لم يعد قادرًا على استيعاب الصغار والكبار في ظل أزمة المياه التي كانت في المخيم. وتهديد الحي النمساوي القريب من بيت العائلة -وإن لم يحدث بعد- ظل يؤرقنا. إلا أنني ورغم كل هذا كنت لا أزال أجدُ عزاءً في حالة الاجتماع العائلي ومشاعر الألفة التي كنا نشعر بها بسبب وجودنا إلى جانب بعضنا. وكان النقاش مع الأصدقاء والأقارب في الحارة ورسم السيناريوهات وتوقع مآلات الأمور ومتابعة الأخبار معهم يشكّل بالنسبة لي أنيسًا ويقلل -حتى وإن بصورة ضئيلة- الشعور بالخوف، إلا أن ما حدث بعد أيام دفعني للعودة إلى شقتي في مدينة حمد.
كنت أجلس بجانب أبي وأخوتي والعم أبو هيثم، كلّ غارقٌ في هاتفه المحمول يتابع الأخبار ويتواصل مع من انقطع التواصل معهم، وإذ بصوت قذيفة صاروخية تهيأ لنا أنها سقطت فوق رؤوسنا. انتفض الجميع من مكانه وركضنا باتجاه الشارع لنعرف أين هبط الصاروخ. حين خرجتُ من الباب صدمتُ بمشهد شابٍ يركض بكل ما أُوتيَ من قوّة حافيًا في منتصف الشارع واضعًا يده على عنقه التي نفرت منها الدماء، فيما الناس على جانبيْ الطريق في حالة وجوم. سقط صاروخ طائرة استطلاع على بعد مائة متر من البيت وأصيب مجموعة من المّارة بجراح مختلفة. ظل مشهد الشاب الراكض في منتصف الشارع، فيما الدماء تنضح من رقبته يصدمني كلما استرجعته. كانت نظرته مزيجًا غريبًا ومركبًا من الخوف والألم الشديديْن، بالإضافة إلى الحرج من عيون الناس التي كانت ترقبه من كلّ جهة.
أثار قصف طائرة الاستطلاع موجة من الفوضى والتوتر، اتسعت رغم محاولة الجميع تقديم تفسيرات يخمدون بواسطتها وسواس الخوف الذي بدأ يلف نفسه حولنا بإحكامٍ. أقنعنا أنفسنا أن ما حدث ربما يكون أمرًا عرضيًا، وأن الطائرة استهدفت أرضًا فارغة بصاروخٍ صغير إذا ما قورنَ بصواريخ الطائرات الحربية، وأنه لم يكن استهدافًا مباشرًا لدراجة نارية أو سيارة أو بيت، وأن القصد منه إخافة الناس. سُقنا الكثير من التفسيرات التي لا يمكن أن تكون مقنعة بصورة حقيقية، إلا أننا في محاولة استدعاء حالة الطمأنينة النسبية وإبعاد أشباح الخوف، حاولنا خداع أنفسنا بكل هذه الأفكار.
لم يمضِ كثيرٌ من الوقت حتى عاودت طائرات الاستطلاع قصف المنطقة ظهر اليوم التالي، لكن هذه المرة كان القصف في قطعة أرض صغيرة خلف البيت تمامًا. قبل القصف بثوانٍ كنت واقفًا على باب البيت أنتظر أن يفتح لي أحدهم الباب، ليهبط الصاروخ فجأة وكأنه فوق رأسي تمامًا. هالتني فكرة أن الصاروخ ربما يكون قد استهدف البيت نفسه، وأن الصغار وأمهم وأمي وصغار أخوتي والجميع فيه. دخلت مسرعًا لأجدهم جميعًا في حالةٍ من البكاء الهستيري. كانت ألواح الإسبست التي تغطي السقف قد طارت من مكانها وهبطت تاركةً فوق رؤوس كل من كانوا في الداخل غبارًا وأتربة، وانتشرت في مساحة البيت كلّها رائحة البارود.
انتقلنا سريعًا لمنزل عمّتي. كان الشحوب يعلو كلّ الوجوه، والأطفال يملأون المكان فزعين. انكمشنا كما لو أنّ وحشًا يركض خلفنا، كلما حاولنا الهروب منه وجدناه يرمقنا من كل اتجاه.
ما الذي يحدث؟ ولماذا يحدث؟ وماذا نفعل؟ انهالت أسئلة لا إجابات لها.
بعد أن تمالكنا أنفسنا بعض الشيء وجدتُني لا أفكر بشيء سوى العودة إلى شقتي في مدينة حمد. يا لها من ورطة. لقد هربنا من الدلف إلى المزراب. لم يحدث أن اقترب قصف منا إلى هذا الحد. أمتار قليلة فقط كانت تفصلنا عن موتٍ محقق.
الحمار الذي مات بدلاً منا
كنت أستعد للنوم، حين انتفضنا جميعًا بعد انفجار هائل ضرب المنطقة، ما دفع ألواح الإسبست إلى أن ترتفع مجددًا من مكانها وتسقط فيه مرة أخرى، تاركةً فوق رؤوسنا الغبار وبقايا الإسمنت. ركضت تجاه الصغار الذين دخلوا مجددًا في حالة من الرعب والهلع. أمسكت يد براء واحتضنته. كان قلبه يدق بسرعة وكأنه موصول بتيار كهربائي، وبدأت أنفاسه تعلو وتهبط واعتقدت أن قلبه قد يتوقف نتيجة الخوف. احتضنته وركضت به إلى بيت عمتي في الجوار.
انطلق الجميع نحو بيت عمتي كذلك. حالة عارمة من الفوضى. الصغار يبكون، والأصوات تتداخل، والوجوه اصفرّت خوفًا. لم نكن ندري ماذا نفعل. حين وصلنا باب المنزل وجدنا تجمهرًا كبيرًا من الناس ورجال الدفاع المدني يطلبون إخلاء البيت فورًا والابتعاد عن المكان. ركضتُ حاملًا براء في الشارع، ووصلت إلى بيت أقارب لنا يبعد عن بيتنا 150 مترًا تقريبًا. حين وصلت اكتشفت أني أسير بقدم حافية وقدم أخرى أرتدي فيها الحذاء. نظرت خلفي فلم أجد علا والأطفال. حاولت العودة لتفقدهم، ومعرفة أين ذهبوا، لكن الدفاع المدني والناس المتجمهرين في المكان منعوني من ذلك. عدت أدراجي. كان من في البيت قد وصلوا إلى بيت أبناء عمومتنا واكتشفت أن علا مع جواد وباسل قد وصلوا إلى البيت قبلي إلا أنني لم ألاحظ ذلك. سكان أكثر من عشرة بيوت تركوا منازلهم وجاؤوا هذا البيت. شعرت ببعض الاطمئنان لوجود علا والصغار. تمالكت نفسي، وحاولت أن أعرف ما الذي حصل.
اكتشفنا أن طائرة استطلاع أطلقت صاروخًا بصورة مباشرة على منزل أحد أقاربنا وهو المنزل المقابل لبيت العائلة مباشرةً، حيث البقالة التي كنت أجلس فيها صباحًا كل يوم. حين هبط الصاروخ على البيت لم يكن من في البيت يعرفون أن الصاروخ استهدف بيتهم، خرجوا ليعرفوا ما حدث ليكتشفوا بعدها أن الصاروخ هبط على بيتهم. دخلوا في حالة لا توصف من الخوف، وبدأوا يترقبون ما الذي سيحدث، حيث جرت العادة أن استهداف أحد المنازل بصاروخ من طائرة استطلاع يتبعه بعد وقت قصير معاودة استهداف البيت نفسه بصاروخ طائرة حربية تُحوّله إلى ركام. انتظرنا القصف إلا أن شيئًا لم يحدث. بدأت أعصابنا تهدأ قليلًا. كان بيت أقاربنا قد امتلأ بالعائلات من أصحاب البيوت القريبة من البيت المستهدف. كنا في حالة من الذهول والخوف، وبدأ التعب ينال منا. قسمنا أنفسنا إلى نصفين؛ نام الأطفال والنساء في شقة، فيما اجتمع الرجال في شقةٍ أخرى. كنا أكثر من عشرين رجلًا. حاولنا النوم إلا أننا لم نستطع. ودخلنا جميعًا في نوبة من الصمت ثم بدأنا في حديث مفتوح وكأن كلًا منا بدأ يستدعي ذكرياته مع بيته، قال أحد رجال العائلة مخاطبًا أبي: ثلاثون سنة من التعب والشقاء لأبني هذا البيت الذي هو حلم العائلة، لا أستطيع تحمل فكرة أنه سينهار. إن خرجتُ من هذه الحرب دون أن يتعرّض بيتي أو أبنائي لسوء سأذبح خروفًا وأوزعه لوجه الله تعالى.
كانت الأوضاع في تلك الليلة في غاية السوء، والأخبار مرعبة. سمعنا عبر الراديو عن قصف إسرائيلي لمقهى يؤوي نازحين في وسط خان يونس ليستشهد أكثر من ثلاثين شخصًا دفعة واحدة. لم تكن أصوات الانفجارات تتوقف، واستمرّ الوضع على هذه الحالة إلى أن اقترب الفجر. حاولنا النوم بعد أن نال التعب والخوف والحزن منا. نمنا بجانب بعضنا البعض، كنت أتظاهر بالنوم فيما أنا غارق في دوامة لا تنتهي من الأفكار. من يصدق أين أنام الآن؟ وإلى جوار من؟ كنا قبل هذه اللحظة أقارب نلتقي في المناسبات لساعات ثم نفترقُ كلٌّ إلى بيته. ها نحن الآن تحت سقف واحد يحيط بنا الخوف ونتشارك شعورنا بالمجهول الذي ينتظرنا وينتظر بيوتنا ومستقبل أبنائنا.
في السادسة صباحًا قررنا العودة لتفقد البيت. خرجت إلى الشارع، وهالني مشهد حمارٍ ملقى على الأرض تغطيه الدماء. كان قد مات إثر شظية أصابته وقت القصف. انفجر داخلي مزيج من مشاعر الخوف والصدمة حين رأيته على هذه الشاكلة. كان الحمار لعائلة نزحت إلى مدرسة مجاورة. وحين شاهدتُه وقد تسربل بالدم اقتربَتْ فكرة الموت الوشيك والذي بدا قريبًا أكثر من أي وقتٍ مضى. قلتُ في نفسي لو أنَّ أحدنا كان يسير في الشارع إلى جوار الحمار، لأصابته الشظية ولواجه المصير ذاته.
كان صباحًا حزينًا. أكثر حزنًا من صباحات الحرب التي سبقته. سيطرت علينا جيمعًا فكرة أننا ربما نكون قد دخلنا فصلًا أكثر رعبًا من فصول الحرب، وأن الأمور تسير إلى أسوأ مما هي عليه الآن. وتولّدت لدينا جميعًا هذه المرة وبذات المقدار الرغبة في مغادرة بيت العائلة في مخيم خان يونس، لكن إلى أين؟