لا يجد سائق الآليات الثقيلة في بلدية غزة، سعيد أبو سيف (47 عامًا)، صعوبة في عدّ آليات البلدية الناجية من القصف، ولا يجد صعوبةً في تسمية من يعمل عليها؛ إذ قلّص الاحتلال بالقصف عدد الآليات من 200 آلية إلى ثمانية، وقلّص كذلك بالقتل والتهجير العاملين عليها من 150 سائقًا إلى ثمانية.
يتذكّر أبو سيف أنه هو الآخر كان هدفًا للقصف في أكثر من مرة خلال عمله: «شكله ربّنا لسّه مش رايد، وإلا أنا هلقيت عند ربّنا». هذه الأيّام، يقود أبو سيف أكثر من آلية، بحسب المهمة التي توكل إليه من البلدية، مثل رفع النفايات أو العمل على إيصال مياه الشرب من الآبار إلى الناس، أو إزالة الردم.
قبل الحرب كانت بلدية مدينة غزة، أكبر بلدية في القطاع، تقدم ثلاثين خدمة رئيسية لحوالي 670 ألف نسمة، منها تزويد سكان المدينة بالمياه، وتصريف مياه الصرف الصحي، وجمع النفايات والتخلص منها. الآن بعد سنة من الحرب، قتلَ الاحتلال المدينة؛ إذ دمّر قرابة 12 مليون متر مربع من الطرق، وأغلب آبار مياه الشرب، وشبكة توصيل المياه إلى الناس، وقتل كذلك القائمين على خدمة المدينة أو شرّدهم. بالمجمل، من بين 1500 موظف في البلدية قتل الاحتلال منهم أكثر من 45 موظفًا وشرّد الباقين ولم يبق منهم غير 250 موظفًا، ومنهم أبو سيف من قسم السوّاقين.[1]
ما ينطبق على بلدية غزة، ينسحب على غيرها من البلديات، التي قتل جيش الاحتلال أفرادًا منها أو رؤساءها، أو شرّدهم.
بالأصل عانت بلديات قطاع غزة، بسبب فترة الحصار الطويلة، من نقص معدات صيانة الطرق والمواد الأولية لصيانتها، ومن عدم سماح سلطات الاحتلال باستيراد المواد الأساسية اللازمة لاستكمال مشاريع البنية التحتية وشبكة المياه والصرف الصحي وأنظمة الطاقة المشغلة للآبار.
اليوم، وبعد سنة من الحرب، صارت الأحوال أكثر سوءًا، إذ يُعطّش الاحتلال من تبقّى في المدينة، وتتراكم جبال النفايات أمام البيوت ومراكز الإيواء، ولم يعد في المدينة طرق لتسير عليها السيّارات، ويتخوّف القائمون على البلدية من فصل شتاء جديد في ظل الحرب، تداهم فيه مياه الأمطار الناس في الشوارع، وتفيض المياه العادمة في الطرقات.
يأتي استهداف الاحتلال للبلديات ضمن سعيه لجعل حياة من تبقّى من أهل المدينة غير محتملة، عن طريق ضرب أجهزة إدارة الحياة اليومية مثل البلديات بوصفها مجالس حكم محلي تُقدم خدمات تسهيلات الحياة للناس، ومثل الشرطة بوصفها أداة تنظيم وحماية لهذه الحياة.
خلال الأسابيع الأولى للحرب، حدثني أحد موظفي وزارة الداخلية عن عمل غرف الطوارئ التي تشكلّت في بداية الحرب لتدير ضمن خطة طوارئ شؤون الناس، وضمّت هذه الغرف أجهزة مثل الدفاع المدني، والبلديات، والشرطة.
تعمّد جيش الاحتلال اغتيال وملاحقة موظفي وزارة الداخليّة بشكل يوميّ، ومنهم أفراد جهاز الشرطة المعنيين بتنظيم الحياة اليومية وضبط النظام في قطاع غزة، مثل: المدير العام للعمليات المركزية في وزارة الداخلية والأمن الوطني اللواء فائق المبحوح، ومدير جهاز المباحث في شمال قطاع غزة المقدم رائد البنا، ومدير مركز شرطة النصيرات المقدم محمود البيومي، ومدير لجنة الطوارئ في غرب غزة أمجد هتهت، ومدير مباحث شرطة المحافظة الوسطى العقيد زاهر حامد الحولي. وهي استهدافات أثرت على المجتمع وأمنه، تحديدًا في ظلّ حرب كالتي تشنّ على القطاع.
التدمير وإيجاد بديل متعاون
خلال الحرب، دمّرت «إسرائيل» قرابة 200 مؤسسة حكوميّة في قطاع غزّة، بزعم أنها تتبع حركة حماس. يستنتج مراسل التلفزيون العربي في شمال القطاع إسلام بدر خلال حديثه مع حبر التالي: إن شكل الاستهدافات في الشمال تركز على جميع أشكال الحكم والتنظيم، سواء أكانت مرتبطةً بسلطة حركة حماس مثل الشرطة والموظفين الحكوميين، أو تلك التي لا ترتبط بها مثل عمّال النظافة ووزارة العمل والتموين وحتى المنظمات الإغاثية التي تلعب دورًا في إدارة الحياة اليوميّة مثل الأونروا.
يَعتبر الاحتلال -بحسب ما يقرأ بدر- أن أي شكل للتنظيم في قطاع غزة هو بالضرورة يتبع لحكم حركة حماس؛ لهذا فهو عرضة للاستهداف.
طوال أشهر الحرب، قلّب الاحتلال عدة مقترحات لإدارة قطاع غزة مدنيًا بدل أجهزة إدارة الحياة التي عمل على تدميرها، بحيث تكون هذه الأجهزة تابعة للاحتلال بشكل مباشر، أو على الأقل خاضعة لمراقبته، وقد تمثلت في تعيين العقيد إلعاد غورين بصفة «رئيس للجهود الإنسانيّة – المدنية»، أو إسناد مهمّة التواصل لاستلام المساعدات وتأمينها إلى مخاتير وشيوخ بعض عشائر القطاع، أو اقتراح قوات دولية وعربية لإدارة القطاع.
مناورة لتفادي استهداف الاحتلال
بعد خروج دبابات جيش الاحتلال من وسط مدينة غزّة، خرج السائق أبو سيف ومعه سائقون آخرون إلى كراج البلدية لاستئناف عملهم على آليات البلدية لكنهم وجدوها بقايا آليات بفعل قصفها واحتراقها.
جمَّع ثلاثة ميكانيكيين وكهربائي آليات ثقيلة من قسم الصيانة في البلدية ومعهم السائق أبو سيف قطع غيار من ثلاث جرّافات متضررة من القصف وركبوها على جرّافة رابعة وشغّلوها، واستطاعوا كذلك تشغيل آلية ثانية بعد جمع قطع غيار لها من بقايا الآليات المدمرة، واستأنفوا العمل.
يقود أبو سيف واحدةً من هذه الآليات من الساعة السابعة صباحًا وحتى السابعة مساءً، مع أن فيها مشكلة في مقود الحركة تجعله يناور فيها على الشارع عدة مرات حتّى تسير بخط مستقيم. ويُحاول إنهاء عمله قبل نزول الظلام لأن الآلية دون مصابيح إنارة.
يتلقى أبو سيف، وغيره من الموظفين الذين يعملون عادة 12 ساعة يوميًا، رواتب تصلهم كل 40 إلى 50 يومًا، وتتراوح ما بين 200 و800 شيكل (50 و200 دولار). يصف الناطق باسم البلدية المهندس عاصم النبيه هذه الرواتب بأنها أقرب إلى مساعدات إنسانية منها إلى الرواتب.
يقول النبيه إن البلدية تقدم الحدّ الأدنى من الخدمات من أجل تخفيف معاناة المواطنين لكون الإمكانيات محدودة، والموظفون يعملون في غير اختصاصاتهم ويعانون من الإنهاك.
يذهب أبو سيف إلى عمله في الصباح ويعود في المساء على دراجة هوائيّة، ويصرّ على مواصلة العمل مع أن البلدية لا تلزمه بالعمل كل هذه الساعات: «المهم نخدم الناس، تسمع دعوة عند ناس شربت ميّ أو وصلتها آلية النظافة أحسن من كل الدنيا».
تقدّم البلدية بالأصل ثلاث خدمات رئيسيّة؛ تزويد سكّان المدينة بالمياه، وتصريف مياه الصرف الصحي، وجمع النفايات والتخلص منها. بسبب الحرب خرجت أغلب آلياتها عن العمل واستشهد أو نزح موظفوها، ودمرت مقارّها، إلا أنها ظلّت تعمل بما توفّر من إمكانيات؛ تضخّ 25% من كمية المياه التي كانت تضخها قبل الحرب للناس من خلال آبار محلية ناجية من الاستهداف والتدمير، وترفع النفايات عن الطرقات بجوار مراكز الإيواء، وتنفذ مبادرات تطوعية بمعدات يدوية لرفع النفايات والأنقاض في بعض الأحياء، وتعلن عن فرص عمل مؤقتة. وحاليًا تنفذ البلدية حملة توعية قبل دخول فصل الشتاء، وتبث رسائل توعية للناس.
إن جزءًا من معلومات هذا التقرير قد أُخذت من موقع بلدية غزة، وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بها، التي ظلّت تعمل رغم الشهور الثقيلة من القصف الكثيف وقطع الكهرباء وخطوط الإنترنت والاتصالات عنها.
أعمال إصلاح لخط مياه متضرر في شرق حي الشجاعية في تموز الماضي
يمنع الاحتلال وصول طواقم البلدية إلى بعض أماكن عملها، مثل وصول آلياتها إلى مكب النفايات في منطقة جحر الديك، لذلك تراكم نحو 160 ألف طن من النفايات في الشوارع، ووصول الوقود إلى مضخات أجهزة البلدية المخصصة لتفريغ بركة الشيخ رضوان المخصصة لجمع مياه الأمطار الأمر الذي يهدد باختلاط مياهها بمياه الصرف الصحي.
ويستهدف الاحتلال كذلك موظفي الأجهزة الحكوميّة بشكل عام، لذلك تواروا عن الأنظار. بعد أسبوع على التواصل معه رد المسؤول الحكومي في قطاع غزة واعتذر عن التأخر في الردّ على أسئلتنا، «اليوم ما عدنا نشتغل بأريحية زي ما كنا نحكي مع حضرتك، رسائل التهديدات موجودة إما التوقف عن العمل أو الاستهداف».
يعمل هذا المسؤول بنظام جديد لتفادي الاستهدافات ومواصلة العمل، يقوم على تبادل الأدوار مع زملائه في الدائرة، أي أن يظهر مسؤول واحد ومن منطقة مختلفة كل فترة، وهم يخففون من ظهورهم العلني. بالإضافة إلى ذلك اعتمدوا أرقام هواتف شخصيّة بدل أرقام هواتف غرف الطوارئ المتضررة بفعل الاستهدافات.
ومثل هذا المسؤول اختفى أفراد الشرطة من الطرقات، وعادوا بعد انسحاب جيش الاحتلال إلى محور نتساريم، لكن مع أساليب جديدة مثل لبس الأقنعة، وترك لباس الشرطة الرسميّ واعتماد اللباس المدني، وحمل العصي، وأقاموا مراكز تجمع لهم لإدارة الحياة اليومية للنازحين مثل حل الخلافات بينهم أو منح أذونات التصوير للصحفيين وتسيير أعمالهم والمراقبة بشكل عام وملاحقة الخارجين على القانون.
قد يختلف انتشار الشرطة من منطقة لأخرى في قطاع غزة ويختلف دورهم في مسألة إدارة الحياة اليومية. في الشمال مثلًا، يقول بدر إن الاحتلال لم يصل إلى قدرات هذه الأجهزة بشكل كامل لا ماديًا ولا معنويًا، وإن حضورها ظلّ موجودًا طوال أشهر الحرب بشكل أو بآخر في تأمين المساعدات وحل الخلافات وإنجاز الأمور القانونية مثل عقود الزواج، وهي وإن كانت لا تسير بالشكل الطبيعي التقليدي لكنها موجودة، الأمر الذي منع الانزلاق إلى الفوضى.
لقد حاول الاحتلال أكثر من مرة استهداف هذه الأطر الجديدة التي أنشأتها الشرطة لإدارة الحياة اليومية في قطاع غزة، مثل استهداف لجان تأمين المساعدات المكونة من أفراد الشرطة فاستشهد سبعة منهم بقصف على منزل رئيس شرطة جباليا ورئيس لجنة تأمين المساعدات في شمال قطاع غزة رضوان الرضوان.
وفقًا لعدة مصادر، بدا ملاحظًا حضور أفراد من الشرطة في أكثر من مكان، وهم عادة ينشطون ليلًا، ملثمين ومرتدين زيًا مدنيًا، هربًا من مسيّرات الاحتلال التي تواصل استهدافهم. «لكن الاحتلال يتدخل بالاجتياح والقصف لإعادة الأمور إلى مربع الصفر» كما يقول مصدر من شماليّ القطاع.
منذ بداية الحرب، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خطط لإدارة ملف المساعدات، وإدارة قطاع غزة. لكن هذه الخطط ما انفكت تفشل. يُرجع بدر فشلها إلى وجود قناعة لدى الشعب الفلسطيني بأن «إسرائيل» تسعى لإعادة احتلال القطاع إذا لم يكن عسكريًا بشكل مباشر فمن خلال وكلاء له. وبالتالي يُنظر شعبيًا لأي بديل لإدارة الحياة في غزة بأنه وكيل احتلال.
يختم بدر بالقول إنه ورغم وجود شوائب، هناك وعي جمعي بضرورة لملمة الشتات وعدم ترك الأمور على الغارب والوقوع في الفوضى، حتى لو لم تكن هناك أجسام حكومية وسيطرة بالشكل الكامل: «الوعي الجمعي هو الحصن الذي ساهم بقدر كبير جدًا من عدم الانزلاق إلى الفوضى».
هذه الأيام يرقب أبو سيف مع من تبقى من زملائه السائقين في البلدية فصل الشتاء، ويعدّ الآليات المتوفرة ويخاف أن تفيض المياه، لكن رغم كل شيء يظل الإيمان بأنهم سيجتازون هذه المرحلة: «رح نعديها. إن شاء الله نعديها».
-
الهوامش
[1] بحسب المعلومات التي زودنا بها المتحدث باسم بلدية مدينة غزة المهندس عاصم النبيه.