هذا العام، يكون قد مرّ على إنشاء أول مجمعات سكنية خاصة بالفقراء 16 عامًا. تبدلت التسمية خلال هذه الفترة ثلاث مرات؛ ففي البداية سمي كل موقع منها باسم «إسكان الفقراء»، وفي فترة لاحقة صارت المواقع تسمى «إسكانات المكرمة الملكية»، وأخيرًا أصبحت تحمل اسم «إسكانات الأسر العفيفة». غير أن التسمية الدارجة بين الساكنين أنفسهم وبين أهالي المناطق المحيطة كانت ولا تزال: «سكن المكرمة».
يشرف الديوان الملكي على هذا المشروع ويموله. في السنوات الأولى كان المشروع يتم بالتعاون بين الديوان والحكام الإداريين في المحافظات والألوية، لاحقًا أخذ الإجراء يتم بالتنسيق مع وزارة التنمية الاجتماعية، كونها الجهة التي تحوز أوسع معلومات وبيانات عن حال الفقراء وتوزيعهم ومدى استحقاقهم للدعم.
لدى وزارة التنمية الاجتماعية برنامجها الإسكاني الخاص، لكنه يختلف في مواصفاته وشروطه، فالوزارة تموّل بناء منازل أو تجري صيانة على منازل يحوزها المستحقون أصلًا، وفي كل الأحوال فإن الوزارة تقوم بذلك بشكل موزع بين الأحياء القائمة في القرية أو المدينة، بينما تقوم مبادرة الديوان الملكي على إقامة وحدات سكن مستقلة في قطع أراض منفصلة وبعيدة بمسافات متفاوتة عن الأحياء المجاورة، وأحيانًا خارج القرى بالكامل. وتكون وحدات السكن هذه متماثلة في المساحة والتصميم ولون الجدران، وتقع كل وحدة سكنية منها على قطعة أرض محددة بسور خارجي، وهو ما جعل هذه المجمعات السكنية تظهر من بعيد وبشكل مميز عن باقي الأحياء.
اليوم، تغطي هذه الإسكانات جميع المحافظات والألوية، ويفوق العدد الإجمالي لوحدات السكن في هذه الإسكانات أربعة آلاف وحدة، وفق مسؤول في وحدة إسكان الأسر العفيفة في وزارة التنمية الاجتماعية، أي إنها تخدم أربعة آلاف أسرة، وبحكم مرور هذا الوقت، أصبحت الإسكانات ظاهرة قابلة للدراسة والتقييم واكتشاف مواقع القوة والضعف فيها.
تستهدف هذه المبادرة الأسر التي تعاني فقرًا قاسيًا ولا تملك بيتًا للسكن. أولها وأبرزها الأسر التي يعاني رب الأسرة فيها من إعاقة جسدية أو نفسية أو مرض شديد لا يسمح له بالعمل، كما تستهدف الأسر التي تديرها سيدات غير عاملات، كالأرامل والمطلقات. واستفادت أيضًا من هذه المبادرة أسر كانت بلا سكن مطلقًا من قاطني الخيم والمعرشات والخرائب. وفي أغلب الحالات كانت الأسر تتلقى معونة شهرية منتظمة من صندوق المعونة الوطنية.
من هذه الزاوية، تكون المبادرة قد قدمت بالفعل، المأوى المناسب إلى حد ما، وعالجت مشكلة أو حاجة إنسانية ملحة. وفي الواقع، فإن جميع من قابلناهم لغايات إعداد هذا التقرير يقرّون بالنقلة الإيجابية التي وفرها السكن الجديد لهم.
غير أن برامج مكافحة الفقر عن طريق الدعم المباشر، يفترض أن يكون لها رؤية استراتيجية ذات مدى أوسع، تتطلع إلى مستقبل الأجيال التالية من أبناء الأسر الفقيرة التي تتلقى الدعم، وتحدد جدواها من خلال مدى نجاحها في إخراج الجيل القادم من الأسرة الفقيرة من حالة الفقر، أو إحداث تغيير إيجابي مقبول يسمح بالتصعيد الاجتماعي. وبالأساس، لا بد أن تتلافى البرامج احتمال أن تنتج الأسرة الفقيرة فقراء جدد، ما يقود إلى مأزق تنموي، اصطلح على تسميته بـ«ثقافة الفقر»، وفيه يدخل مجتمع الفقراء في حلقة مفرغة، بحيث تكرر الأجيال الجديدة مصير الأجيال السابقة ذاته.
إسكان «المكرمة الملكية» في قرية المشيرفة في جرش.
بُني هذا التقرير على زيارات ميدانية لثلاثة من أوائل الإسكانات التي أقيمت منذ انطلاق المبادرة: الأول في مدينة المفرق، والثاني والثالث في منطقة لواء دير علا في الأغوار الوسطى، في قريتي «فنوش» و«الرويحة». واتخذت الوحدات السكنية في هذه الإسكانات شكل بيوت مستقلة، بمساحة 72 مترًا مربعًا، وهو الشكل المستخدم في كل الإسكانات المماثلة في باقي المحافظات.
كما يستفيد التقرير من متابعة سابقة أجريتها في أحد مشاريع المبادرة في جرش، عام 2008، أي بعد عامين على إطلاق المبادرة ككل.[1] رصدت تلك المتابعة قبل 11 عامًا بعض التوقعات المحتملة حول الحياة الداخلية في هذه الإسكانات، وعلاقتها بالمجتمعات المحيطة بها.
يتكون إسكان المكرمة في المفرق من 79 وحدة سكنية، وقد بني على ثلاث مراحل، ابتداءً من عام 2006. واليوم، تتخذ المراحل الثلاث ثلاث تسميات، هي السكن الأحمر، والسكن الأصفر، والسكن الأحمر الجديد، وذلك نسبة إلى اللون الغالب على الجدران الخارجية للمنازل، ويستطيع الناظر من بعيد ملاحظة ذلك بسهولة.
ويتكون إسكان قرية «فنوش» من 23 وحدة سكنية أقيمت على مرحلتين، أما إسكان قرية «الرويحة» فيضم 15 وحدة سكنية. وكلا الإسكانين يغلب عليه اللون الأحمر. وفي الواقع، لقد أصبح اللون سمة بارزة أو وصفًا أساسيًا، في تحديد هوية وشخصية هذه الإسكانات على مستوى المملكة.
أقيم إسكان المفرق وإسكان قرية «فنوش» في منطقة مستقلة مفصولة نسبيًا عن المحيط، بينما أقيم إسكان قرية «الرويحة» بشكل ملاصق ومتداخل مع أحياء القرية، وهو ما سيكون له أثر على التطورات اللاحقة.
في الإسكان المنفصل، في هذه النماذج وفي غيرها، يشعر الزائر بسهولة أنه يدخل إلى موقع خاص، إذ تسيطر حالة من السكون على المكان، ولا توجد شوارع مشتركة مع المحيط مباشرة. الشوارع الداخلية معبدة، لكنها غير مخدومة، ويوجد عدد من حاويات النفايات في محيط الإسكان، ودكان صغير جدًا في كل من إسكان المفرق وفنوش، يحتوي على سلع بسيطة أغلبها للأطفال، بينما يستطيع قاطنو إسكان «الرويحة» التسوق كباقي أهالي القرية.
إسكان «المكرمة الملكية» في المفرق.
في سكني منطقة الأغوار، هناك درجة من الثبات بين الساكنين، بمعنى أن الأسر التي استفادت من البناء لا تزال تشغله إلى الآن، فمن بين 23 أسرة في قرية فنوش، لم تغادر الإسكان سوى أسرتين، بينما بقيت جميع أسر إسكان قرية الرويحة فيه. أما في إسكان المفرق، فإن حركة الخروج والدخول ملحوظة، إذا تقتضي الشروط إخلاء المنازل في حالات مثل نضوج الأولاد وحصولهم على عمل أو بلوغهم سن العمل، كما لا تورث المنازل للأبناء، ذلك أن المستفيد له حق السكن، ولكنه لا يملك وثيقة تمليك نهائية، إذ يسجل المنزل باسم ساكنه ولكنه لا يملكه قانونيًا. ويتحمل الساكن فاتورة الكهرباء، وفي بعض الإسكانات يتحمل فاتورة المياه أيضًا.
يضطر السكان إلى التعاون فيما بينهم، وخاصةً في التسوق، ذلك أن تكلفة الانتقال إلى الأسواق القريبة عالية نسبيًا، ولهذا فإن الجيران ينسقون مع بعضهم في هذا المجال. وتنتمي الأسر أصلًا إلى قرى مختلفة في كل حالة، ولكن الساكنين تعرّفوا على بعضهم في حيّهم الجديد، وهم عمومًا يعرفون بعضهم جيدًا الآن، ويمكن لأي منهم أن يعرّف على الآخرين. وهناك درجة من التجانس الاجتماعي الطبقي فرضته شروط الاستفادة من هذه المشاريع. مع هذا لم يتوصل السكان إلى تنظيم مطالبتهم أو شكواهم بشكل جماعي.
الملاحظة التي تميز إسكان قرية الرويحة في الأغوار عن غيره هي قرب الإسكان من القرية، مما أتاح مستوى أعلى من الاندماج. لقد أعاد الساكنون دهان جدران بيوتهم بشكل أفضل وأكثر تنوعًا، كما زينت الجدران، وزرعت الساحات الداخلية في كل منزل بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة، وعُدلت مداخل البيوت وزرعت في بعضها الورود، وأعيد تصميمها ككل في حالات أخرى، بحيث يشعر الزائر أنه في حي عادي متصل مع محيطه.
إسكان «المكرمة الملكية» في قرية المشيرفة في جرش.
إن الظاهرة الأصعب والأكثر إثارة للقلق على المدى البعيد تتعلق بالأطفال، أي بالجيل الجديد في هذه المجتمعات الصغيرة ذات الخصوصية. هناك مخاطر حقيقية من أن يكون أغلب أبناء الجيل الجديد أميين تمامًا، لا يجيدون القراءة والكتابة، ويشمل ذلك الذكور والإناث.
انتقلت الأسر إلى سكنها الجديد بعد أن جاءت من مواقع وقرى بعيدة، وهو ما قاد إلى انقطاع الأطفال عن مدارسهم الأصلية التي كانت في مناطقهم، ولم يكن سهلًا تأمين الوصول إلى مدرسة جديدة تقع في موقع بعيد، خاصةً في إسكان المفرق. لقد توقفت بعض التلميذات عن الدراسة فور انتقال أسرهن إلى السكن الجديد، حيث لا تستطيع الأسرة الفقيرة تحمل نفقات النقل إلى المدارس. مع ملاحظة ضعف المتابعة والانتظام في الحالات التي واصلت الدراسة.
لكن المشكلة تفاقمت بشكل خطير منذ سنة ونصف مع بدء تأثير جائحة «كورونا». لقد انقطع أغلب الأطفال نهائيًا عن الدراسة، ويقدر أحد أرباب الأسر عدد الطلاب والطالبات في الإسكان بحوالي 200 طالب وطالبة، وهم يعتبرون أنفسهم في عطلة ممتدة. وهذا يتكرر جزئيًا في كل الإسكانات. وقلة من الأسر لديها إمكانات توفير التعليم عن بعد عبر الإنترنت، وفي أفضل الحالات قد يتوفر لدى الأسرة جهاز تلفون واحد.
لقد نسي كثير من الأطفال الذين التقيتهم القراءة والكتابة كليًا، وهم اليوم في صفوف متقدمة، أما التلاميذ الجدد فلم يتلقوا أي تعليم، وفي كثير من الحالات يعاني أحد الوالدين أو كلاهما من الأمية، إضافة إلى الفقر والحالة الصحية الصعبة، وهو ما قد يحول دون إدراك مشكلة الأطفال مع التعليم.
أكد جميع من التقيتهم من الأهل والأولاد أن أحدًا لم يسألهم أو يستفسر منهم عن تعليم أولادهم، من أي جهة رسمية تعليمية أو غيرها. في حالات قليلة أبدى الأب أو الأم قلقهم من هذا الأمر. وقد قابلت بعض الأطفال الذكور والإناث ممن شعروا بالحزن وهم يجيبون عن أسئلتي. إحدى الطفلات في المفرق قالت لي إنها لا تتوقف عن التمرين على القراءة والكتابة على أي سطح، بانتظار عودة المدرسة، كما قال طفل في الأغوار في الصف السادس إنه يريد أن يصبح مدرسًا في المستقبل، ولهذا طلب من والده أن يثبت له لوحًا خشبيًا على الجدار، حيث يقوم من خلاله بدور المعلم لإخوته الصغار، وهو ما مكنه من الحفاظ على ما تعلمه سابقًا.
لقد صيغ مصطلح «ثقافة الفقر» قبل أكثر من نصف قرن للإشارة إلى تلك الحالات التي تُنتِج فيها الأسرة الفقيرة أبناء فقراء بالضرورة، أي الحالات التي ينتفي فيها الحراك الاجتماعي صعودًا، فلا تتاح للأبناء مغادرة حالة فقر أسرهم. وشهدت أغلب المجتمعات المحلية التي عانت من الفقر في الأردن، مستويات معقولة من الحراك الاجتماعي صعودًا إلى الأعلى، من خلال فرص التعليم والوظيفة، ربما باستثناء بعض البؤر في مناطق محددة في الأغوار، والتي رافقها الفقر لأجيال.
في ضوء تجربة 16 عامًا حتى الآن في مجال إسكانات الفقراء، وإذا صحت وتعممت الملاحظات التي أوردناها فيما سبق، يكون من الواجب التنبيه ودق ناقوس الخطر من توارث الفقر بين الأجيال، وذلك بسبب العيش في مجتمع خاص معزول نسبيًا عن محيطه. إن نجاح برامج الدعم والمعونة المباشرة من الدولة للفقراء، يقاس بمدى إسهامها في دفع المستفيد إلى الانتقال خطوة إلى الأمام، بمعنى أن الدعم يفترض أن يكون هو الاستثناء بالنسبة للحالة الواحدة، ومن الخطورة أن يستمر الجيل التالي في الحاجة إلى الدعم مرة أخرى، حتى لو كان ذلك الدعم ممكنًا ومتوفرًا.
-
الهوامش[1] «إسكانات الفقراء.. هل تتحول إلى قرى معزولة؟»، أحمد أبو خليل، مجلة المستور، العدد 20.